لا يعني تجميد الانتفاضة إنهاء المقاومة الفلسطينية، ولذلك فإن وقف إطلاق النار في الأراضي المحتلة لا يلغي المقاومة، وإنما يؤدي الى تجميد الشق المسلح فيها والذي صار سمة بارزة لانتفاضة الاقصى، بخلاف سابقتها التي كان النضال المدني علامتها المميزة، أما المقاومة غير المسلحة فهي ليست مشمولة في الدعوة الأميركية المدعومة دولياً الى وقف اطلاق النار. صحيح أن صور النضال المدني، مثل التظاهر والعصيان والمقاطعة، كانت أكثر فاعلية قبل انسحاب قوات الاحتلال من المدن ومراكز الكثافات السكانية. ومع ذلك لم يفقد هذا النضال فاعليته كلها، وخصوصاً في مواجهة انتهاكات سلطة الاحتلال وقواتها. بل كان له دور مهم في مواجهات عدة خلال الاسابيع الاخيرة، كما حدث مثلاً في رفح عندما حاولت قوات الاحتلال هدم عدد من المنازل في "الحي البرازيلي". كان لدى الشباب المقاوم هناك بضع رشاشات ومدافع "هاون"، ولكن بعد دراسة الموقف، تم الاتفاق على أن تكون المقاومة مدنية لأن استخدام السلاح في معركة عديمة التكافؤ لن يمنع الهدم بل يعطي المعتدين ذريعة للقتل أيضاً. وفي الوقت الذي تقدمت جرافات ودبابات الاحتلال، وقف اصحاب المنازل ومعهم اطفالهم صفاً واحداً أمامها من دون أي سلاح، وعبثاً حاول المعتدون إبعاد الاهالي الذين بدوا كأنهم بنيان مرصوص. ونجحت المقاومة المدنية في التصدي لمحاولة هدم المنازل، ولكنها لا تنجح بالضرورة في كل مرة، ولذلك فهي ليست بديلاً استراتيجياً عن المقاومة المسلحة، خصوصاً في ظل خطوط المواجهة الراهنة في الضفة وغزة، والتي تختلف عما كانت عليه في أواخر الثمانينات. وذلك فإن وقف إطلاق النار لا يعني التخلي عن الكفاح المسلح نهائياً، وانما تجميده لفترة الى أن يصل التحرك الأميركي الجديد الى الطريق المسدود مجدداً، فليس الأمر أكثر من هدنة يحتاج اليها الشعب الفلسطيني وطلائعه المجاهدة لالتقاط الأنفاس والاستعداد لجولة تالية الأرجح أنها ستكون قريبة. ومن الطبيعي أن يكون هناك خلاف على وقف الشق المسلح في الانتفاضة بين اتجاهين: أولهما، هو الذي يبحث عن حل معقول وينظر الى الانتفاضة باعتبارها وسيلة لتحسين شروط هذا الحل. وهذا اتجاه يدفعه رهانه المستمر على الدور الأميركي الى المبالغة في إمكانات الوصول الى حل، على رغم الفجوة الهائلة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلى. ولذلك يريحه وقف الشق المسلح في الانتفاضة. وهو يعول كثيراً على ما صدر عن الرئيس الأميركي بوش وبلورة وزير خارجيته باول في خطاب 17 تشرين الثاني نوفمبر الماضي في جامعة لويفيل في ولاية كنتاكي. وأما الاتجاه الثاني فهو الذي لا يرى حلاً سياسياً ممكناً ليس فقط في المدى المنظور، ولكن ايضاً في الأمد الأبعد، ولا يجد جديداً جوهرياً في التصريحات الأميركية لانها لا تحوي اكثر من عنوان عام من دون تفاصيل بخصوص كيفية التعاطي مع الموقف الإسرائيلي المتشدد. ولذلك ينظر هذا الاتجاه الى الانتفاضة باعتبارها خياراً استراتيجياً يستهدف ممارسة ضغط مستمر على الإسرائيليين الى أن يضطروا الى إحداث تغيير ملموس في مواقفهم وسياساتهم، أو الى أن يتصاعد خوفهم من جراء انعدام الزمان الشخصي الى حد يدفعهم الى الهجرة العكسية، في الوقت الذي تزداد أعداد عرب 1948 ونسبتهم، مما يجعل إسرائيل في مأزق تاريخي. غير أن خلافاً يمكن أن نلمسه الآن في داخل هذا الاتجاه بين من يرفضون وقف الشق المسلح في انتفاضة الاقصى، ومن يرون انه لا غضاضة في ذلك لأن الفلسطينيين في حاجة بالفعل الى هدنة يرتبون أمورهم خلالها على أكثر من صعيد. والفرق بين هذين الرأيين هو أن ثانيهما أكثر واقعية ينظر الى انتفاضة الأقصى باعتبارها جولة من بين جولات صراع ما يزال طويلا ممتداً ربما لعقود وليس فقط سنوات. فالموقف الذي يرفض وقف المقاومة المسلحة لا تفسير له سوى أن أصحابه يظنون انها يمكن أن تحقق نصراً حاسماً الآن، وبالتالي يصبح إنهاؤها قبل إحراز هذا النصر تفريطاً وإهداراً لثمرة جهاد راح اكثر من سبعمئة شهيد ضحية له، وهذا موقف بعيد عن الواقع في حقيقة الأمر، لأن انتفاضة الاقصى ليست هي الجولة الحاسمة في الصراع، وانما هي جولة تمهد للحسم المرجو مستقبلاً. لقد أدت هذه الانتفاضة الباسلة وظيفة بالغة الأهمية على مستويين: اولهما، هو إعادة صوغ وتأكيد أهداف النضال الوطني الفلسطيني التي تتجاوز صيغة أوسلو. وكان هذا أكثر من ضروري لإزالة اللبس الذي ترتب على قبول هذه الصيغة وما اقترن بها من مرونة فلسطينية فائقة، ووضع خط فاصل بين المرونة الممكنة في مسائل تفصيلية وانتقالية لها ما بعدها أو يمكن تداركها في لحظة تالية، وبين موقف استراتيجي تصبح المرونة فيه معادلة بل مرادفة للتفريط والاستسلام. أما المستوى الثاني فهو يتعلق بأدوات الصراع، إذ نجحت هذه الانتفاضة في الجمع بين أساليب المقاومة المدنية التي سادت الانتفاضة السابقة، وبين بعض أشكال المقاومة المسلحة وفي مقدمها العمليات الاستشهادية التي لعبت أكبر دور في الحد من اثر الاختلال الشديد في ميزان القوى التقليدي بين الفلسطينيين وإسرائيل. فقد اضافت هذه العمليات قوة معنوية وروحية هائلة الى القوة الفلسطينية المادية المحدودة. وكان مؤدى وظيفة انتفاضة الأقصى على هذين المستويين هو تأكيد أن الإرادة الفلسطينية غير قابلة للإخضاع، وأن القوة الإسرائيلية العسكرية الفائقة لا تستطيع القضاء عليها. كما اثبتت قدرة لا سابقة لها على أن تسبب ألماً شديداً لإسرائيل ليس فقط على المستوى الاقتصادي كما فعلت انتفاضة أواخر الثمانينات، ولكن ايضاً على صعيد الخسائر البشرية. ولذلك كله، فقد حفلت المقاومة المسلحة في انتفاضة الأقصى بدروس تحتاج الى استحضار واستذكار في فترة هدنة يفرضها إلحاح أميركي وأمر واقع دولي. ويمكن أن تكون هذه الفترة مفيدة في ترميم التصدعات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الفلسطيني، والتخطيط من الآن للجولة التالية في الصراع بعد أن تتمخض الجهود الأميركية عن لا شيء، فكلما كان المجتمع أكثر قدرة على تدبير أموره في ظل المواجهات وعلى الصمود في وجه الحصار القاتل، أمكن للمقاومة المسلحة أن تتواصل فترات أطول. وبصراحة، تدل المؤشرات المتوفرة الآن على أن قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود كانت آخذة في التراجع. وكان هذا هو الرهان الأخير لآريل شارون وحكومته. وعبر ايلي كير عن هذا الرهان في معاريف 7/11 مشيراً إلى أن التقديرات التي تتدفق من مصادر جمع المعلومات في إسرائيل تشير الى ان انتفاضة بدأت تستنفذ طاقتها بسبب الشعور بالإرهاق عسكرياً واقتصادياً. ولذلك فربما يكون أفضل لنا أن يوقف إطلاق النار نتيجة متغيرات دولية وليس بسبب تراجع قوة الدفع الذاتية. وفي إمكان الفلسطينيين أن يبحثوا، خلال الهدنة، كيفية ضمان استمرار قوة الدفع لفترة أطول في الجولة التالية. والمهم الآن هو أن يكون هذا موضع تفاهم بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح من ناحية والفصائل الأخرى الفاعلة وفي مقدمها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وكذلك الجبهتين الشعبية والديموقراطية، وأن يشمل هذا التفاهم كيفية تعزيز سبل المقاومة المدنية خلال فترة الهدنة. وحبذا إذا أمكن الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية تعمل على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني ليصبح أكثر قدرة على الصمود اقتصادياً وليس فقط سياسياً في وجه الحصار الإسرائيلي. وإذا فعلوا ذلك، سيكون هذا تأكيداً لروح الوحدة العظيمة التي حققتها انتفاضة الأقصى وتعبيراً عن الإصرار على الحفاظ عليها. ومما يساعد على ذلك ان الفصائل الفلسطينية كلها صارت أكثر نضجا وأوفر خبرة في إدارة العلاقات فيما بينها. ولذلك يستطيع الرئيس عرفات وبعض ممثلي حركة فتح مواكبة التحرك الأميركي بتصريحات تنطوي على مرونة، بينما ينتقد ممثلو قوى أخرى موقفه هذا من دون أن يحدث صدام بين الفريقين. اما العمل الحقيقي فهو الذي يتم إنجازه على الأرض بالتفاهم بين مختلف الفصائل، واستذكار لدروس انتفاضة الأقصى، وإعداداً للجولة التالية، وفي هذا المجال متسع للجميع يتعاونون فيه ويتنافسون مثلما فعلوا في انتفاضة الأقصى. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".