عز الدين نجيب ليس مجرد فنان تشكيلي مصري بارز، وإنما هو كذلك واحد من مثقفي الحركة الوطنية المصرية البارزين منذ أواسط الستينات: فنان ملتزم قضايا الوطن والمواطن. خاض في أواخر الستينات - حينما عمل مديراً لقصر ثقافة كفر الشيخ - تجربة رائدة في تثقيف الفلاحين والبسطاء، مما أدى إلى صراع عنيف بينه وبين الإدارة والمحافظ، انتهى بإقصائه عن قصر الثقافة. وقد سجّل هذه التجربة الفريدة في كتاب "الصامتون: تجارب في الثقافة والديموقراطية في الريف المصري". قاد تحركات نقابية في كل من اتحاد الكتّاب ونقابة التشكيليين في منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات، خصم عنيد لمساوئ السياسة التشكيلية الرسمية، وخصوصاً منذ تولي الفنان فاروق حسني وزارة الثقافة المصرية. اعتقل في أوائل السبعينات - مع ثمانية مثقفين آخرين - بتهمة التضامن مع الحركة الطالبية التي انفجرت آنذاك في الجامعات المصرية ومن محاسن المصادفات أنني تعرفت عليه خلال تلك الفترة. ثم اعتقل في أواخر التسعينات - مع كمال خليل وحمدين صباحي - بتهمة التضامن مع ثورة بعض الفلاحين ضد ظلم القانون الجديد للإيجارات الزراعية، الذي ينصف المُلاك على المستأجرين. وقد سجل تجربة هذا الاعتقال في كتاب "مواسم السجن والأزهار" عام 1998. على أن ما يهمّني، هنا، هو جانب الناقد التشكيلي في عز الدين نجيب، إذ لم يكتف الفنان بدوره كمبدع، بل عمّق ذلك الدور بجهد نظري وتطبيقي وتأريخي ملحوظ، نهض به بمفرده، لا تدعمه فيه مؤسسات أو أحزاب أو دولة. فأصدر عام 1985 "فجر التصوير المصري الحديث"، وفي عام 1995 "ستائر الضوء - مع آخرين"، وفي عام 1998 "أنشودة الحجر". وفي هذا السياق نتلقى كتابه الأخير "فنانون وشهداء: الفن التشكيلي وحقوق الإنسان"، الذي صدر قبل أسابيع قليلة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، في إطار سلسلة بدأها المركز تُعنى بالفنون والآداب من منظور حقوق الإنسان، أو تُعنى بحقوق الإنسان من منظور الفنون والآداب. وصدر، ضمن هذه السلسلة، حتى الآن، كتابان آخران، هما: "فن المطالبة بالحق: المسرح وحقوق الإنسان" للكاتبة والمترجمة والممثلة نورا أمين، و"الحداثة أخت التسامح: الشعر العربي المعاصر وحقوق الإنسان" لكاتب هذه السطور. "هل يعرف أحد اسم المهندس الذي صمم الهرم الأكبر؟ وهل يعرف أحد اسم الفنان الذي نحت تماثيل رمسيس الثاني على واجهة معبد أبي سمبل، أو اسم المخترع العبقري لنظام سقوط أشعة الشمس على رأس الملك مرتين كل عام محسوبتين بالدقيقة والثانية: في يوم مولده ويوم جلوسه على العرش؟ أو اسماء الفنانين الذين قاموا برسم مقابر الأشراف في البّر الغربي في طيبة، أو أولئك الذين صنعوا الكنوز الفنية التي يزخر بها المتحف المصري وتمثل فخرنا القومي وإضافتنا الخالدة للإنسانية، وتعتز بها المتاحف العالمية في عواصم العالم المتحضر؟". بهذه الأسئلة المرّة يستهل عز الدين نجيب كتابه، ليس من أجل أن يجيب عنها، وإنما من أجل أن يؤكد لقارئه أمراً محزناً هو أن التاريخ لم يحفظ لنا اسماء أولئك الفنانين أو شيئاً عن حياتهم الخاصة، إلا في حالات استثنائية مثل الفنان تحتمس في عصر الملك إخناتون. ذلك أن الفنان في الحضارة المصرية القديمة كان جندياً مجهولاً من جنود الأرباب القدامى لتبليغ رسائلهم، أو من جنود الفراعنة والأمراء لتخليد تاريخهم وتجسيد حياتهم وأمجادهم تمهيداً لبعثهم في العالم الآخر على أكمل صورة. "لكن كيف عاش كل منهم؟ وأي تضحيات قدم ليصل إلينا إبداعه العبقري؟". وحتى لا نقول "ما أشبه الليلة بالبارحة" يجيب هذا الكتاب عن ذلك السؤال الأخير في حوالي ثلاثمئة صفحة من القطع الكبير، متعرضاً لإبداع أو تضحيات ثلاثين فناناً مصرياً حديثاً، بما في ذلك عرض لوحات هؤلاء "الفنانين الشهداء"، متناولاً صنوفاً من القهر المادي والمعنوي الذي وقع على هؤلاء المبدعين، في حياتهم أو مماتهم، من غير أن يتخلوا عن رسالتهم النبيلة، التي نقشها البعض بريشته، ونقشها البعض الآخر بريشته وحياته معاً. يقسّم المبدع الناقد كتابه إلى سبعة فصول، الفصل الأول "فاتحة الشهداء" يتناول أحمد صبري ونحميا سعد، موضحاً أن الأول لم يشفع له أنه كان أول معلم مصري في مدرسة الفنون الجميلة العليا بعد أن ظل التعليم قاصراً على الأساتذة الأجانب على مدى عشرين عاماً، بينما الثاني كان الزهرة المتألقة في دفعته، لكن النوائب انقضت عليه كالأنياب لتفترس صدره وقلبه وشبابه الغض، فلم يرحمه منها غير الموت. الفصل الثاني "فرسان عصر الجماعات" يتناول عبد الهادي الجزار وحامد ندا ورمسيس يونان وفؤاد كامل ويوسف سيدا. ولكي يضع الناقد تلك الجماعات وفرسانها في السياق الأعم، فقد أشار إلى أن الأربعينات كانت سنوات التفاعل الوطني للخمائر الثورية في المجتمع المصري بطبقاته الشعبية ومثقفيه ومبدعيه على السواء. ولذا شهد ذلك العقد تكوين الكثير من الجماعات من شباب الفنانين، تختلف منطلقاتهم الفنية والفكرية لكنهم يلتقون حول ضرورة التغيير وضرورة إعادة النظر في المسلمات، ومن ثم تلاشت الحدود بين ما هو جمالي وما هو سياسي في الخطاب الفكري والفني لهذه الجماعات: جماعة "الفن والحرية" على رأسها رمسيس يونان وفؤاد كامل وكامل التلمساني. وجماعة "الفن المعاصر" على رأسها حسين يوسف أمين وعبد الهادي الجزار وحامد ندا. وجماعة "الفن الحديث" على رأسها جمال السجيني وحامد عويس ويوسف سيدا. كانت إبداعات هؤلاء الفرسان مطابقة لصرخاتهم الثورية، ولاندهاشهم باكتشاف الأعماق السفلية، ولأحلامهم في العدل والحرية، كرومانطيقيين لا يبالون بعواقب التحديات أمام سلطات شرسة، في سبيل تحقيق التواصل مع مجتمعهم والمشاركة في تغييره وتثويره، فكان أن تعرضوا للملاحقة والحصار والنفي والاعتقال. وإذا كان الفصل الثاني يتناول "الجماعات الفنية" فإن الفصل الثالث يتناول "خوارج الجماعات والمؤسسة الرسمية" ممن تمردوا على الجماعات الثورية وعلى النظام الاجتماعي في آن، من مثل حامد عبدالله والأخوين سيف وأدهم وانلي. على رغم أن عبد الله كان ضمن البشارات الأولى لحركات التمرد والثورة في مسار الفن المصري الحديث، وفي حراك الوعي الطبقي والثقافي الذي مهد لثورة 1952. وعلى رغم أن الأخوين وانلي كانا من مشعلي الحرائق في نظم الفن القديمة، ومن المبشرين بتيارات الفن الجديدة الوافدة من الغرب، بالقدر نفسه الذي كانا فيه من المؤمنين بمنابع المصرية الصميمة. "فنانات في صقيع الوحدة" هو عنوان الفصل الرابع، الذي يتناول: مرجريت نخلة وعفت ناجي وإنجي أفلاطون وتحية حليم وفريدة ذو الفقار الملكة، طليقة الملك فاروق. وقد دخلت الفنانة المصرية مضمار الإبداع حتى قبل أن يُؤذن لها بدخوله على الصعيد الرسمي. فأثبتت جدارتها وتميّزها، وأصبحت رافداً خصباً للتجديد والابتكار، ومنافساً لا يستهان به أمام زميلها الفنان. وخاضت - في سبيل ذلك - معركة مزدوجة: من ناحية ضد ثوابت الواقع الاجتماعي والطبقي والعنصري، التي تنظر إلى المرأة نظرة أقل من الرجل، ومن ناحية أخرى ضد هيمنة الاتجاهات الفنية المحافظة التي كانت بمثابة مصدات لرياح التجديد والتقدم. "عادت وحيدة محطمة لتلفظ أنفاسها على أرض مصر، وسط البؤساء الذين أحبوها، أما بناتها فحضرن واجب العزاء تماماً مثل الغرباء. فما أشبههن ببنات الملك لير، وما أشبه فريدة بذلك الملك الشهيد". هكذا كتبت لوتس عبدالكريم عن الفنانة الملكة فريدة، مما جعل كاتبنا ينهي مقالته عنها بسؤاله الجارح: "عذاب الملكة، أم عذاب مصر: الطاردة الطريدة؟". الفصل الخامس "فنانون بين الفرشاة والكلمة" يتناول: محمد صدقي الجباخنجي وعبدالسلام الشريف والحسين فوزي وسعد الخادم وحسن فؤاد ومحمود البسيوني ومحمد شفيق. وهم أولئك الفنانون الذين استخدموا القلم إلى جوار اللون، لينتهوا إلى مصائر مختلفة: من حسن فؤاد الذي أخذ بدور الفنان الثوري في تغيير الواقع لا تزيينه، لكن النظم المستبدة لم تكن تضع فاصلاً بين باب التغيير وباب الزنزانة، فدفع الفنان أزهى سنوات شبابه في داخلها، أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، إلى محمد شفيق "سيد شهداء الفن والكلمة الممزوجة بالدم" الذي اغتالته الأيدي المجرمة بمستشفى الأمراض النفسية، في واحدة من أكثر الجرائم في تاريخ مصر وحشية ولا أخلاقية وغموضاً، بل وتستراً على المجرمين!". "طاحونة الوظيفة" هو عنوان الفصل السادس، الذي يتناول محمد نبيه عثمان وحسن محمد حسن ومحمود عفيفي، الذين أمسكت الوظيفة بتلابيبهم معظم سنين العمر ولم تتركهم إلا على مشارف الشيخوخة حطاماً ممصوصة الدماء. ويجيء فصل الختام، السابع، بعنوان "فرسان الستينات في مفصل التحول"، متناولاً كلاً من: كمال خليق وسعيد العدوي وعبدالمنعم مطاوع وزكريا الزيني وحامد الشيخ وحسن خليفة. وهم المبدعون الذين كان "مفصل التحول" بمثابة "مفرمة" تراجيدية لهم، فلم تخلُ حياة - أو رحيل - الواحد منهم من مأساة قائمة برأسها. ويكفي - مصداقاً لذلك - أن نقرأ أبيات عبدالمنعم مطاوع النثرية التي كتبها قبل انخطافه في 1982، حيث يقول: "الدخان يتصاعد والحريق يملأ كل قلبي وأنا أغني أغنية من دم مرّ وعتمة وبالكاد سوف أستطيع أن أنفذ بنصلي في بطن النهار المر وأرسم لوحة جديدة". سأنزع نفسي، برهة، من حبي "العاطفي" للكتاب وكاتبه والمكتوب عنهم، لأسجّل الملاحظات الهامشية الأربع الآتية: الأولى: إن القارئ لن يفلت من الشعور بأن الفنان الناقد عز الدين نجيب، المثقف الملتزم، مال إلى بعض القسوة في تقييم تجربة جماعة "الفن والحرية"، وفنانيها السورياليين، الذين كانت صرختهم "يحيا الفن المنحط" - في الاربعينات - بمثابة صفعة مدوية في وجه الواقع السياسي والاجتماعي والجمالي العقيم. الثانية: إن القارئ لا بد أن يحيّي الفنان الناقد لإيراده الملكة فريدة ذو الفقار ضمن "الفنانين الشهداء"، لأنه بذلك يرد لها اعتبارها. الثالثة: إن الفنان الناقد لم يستغرق في سيرة حياة الفنانين المدروسين - كما يفعل بعض النقاد - بل إنه أقام جدلاً عميقاً بين حياة الفنان ولوحاته، حتى أنه كان يفسر الحياة الذاتية على ضوء اللوحات الفنية، ويفسر اللوحات الفنية على ضوء الحياة الذاتية. الرابعة: إن البعض قد يأخذ على الكتاب حصره مفهوم "حقوق الإنسان في الفن التشكيلي" في نطاق ضيّق هو حقوق "التشكيليين" أنفسهم في حياة آمنة كريمة. على أن الكتاب نفسه يرد على هذا المأخذ: ذلك أن هؤلاء الفنانين المغبونين المقهورين يصوّرون في لوحاتهم - بسبل متنوعة - ناساً مغبونين مقهورين بدورهم. ولعل هذا هو المعنى المركب في مغزى "الشهادة" الوارد في العنوان، إذ هم فنانون شهداء يصورون ناساً شهداء. لذلك كله، فلا ريب أنني كنتُ محقاً حينما كتبت على الغلاف الخلفي للكتاب أقول: "المفارقة الهائلة التي يحتويها هذا الكتاب المدهش، هي أن كاتبه - عز الدين نجيب - هو نفسه واحد من أبرز هؤلاء الفنانين الشهداء. لكن الشهيد الكبير، حينما كتب عن الفنانين الشهداء آثر ألا يكتب عن نفسه. وهو الإيثار الذي يميز الشهداء الحقيقيين".