اوائل العام 1941 خرجت جماعة "الفن والحرية" التي ضمت عدداً كبيراً من مثقفي مصر الكبار بمنشور تضمنته مطبوعتهم المعنونة ب"التطور" يقول "لكي يقوم الفن الحر برسالته في مصر، فلا بد له من اسس ثلاثة لا غير، الاول.. الرد على موجة التصوير الكلاسيكي المحافظ والذي: "لا يخجل من سوء مستواه المضمحل، ولا من جماله البشع، ولا من تعريته تلك الطبقة من نسائه المحترمات"، وذلك لأنهم يرون ان من واجبهم هنا: "التصريح بأن أقل "إعلان جِزَم" أمريكاني يؤثر في الناس أكثر ما تؤثر فيهم كل صور "صالون القاهرة السنوي". بل ان المنشور يلتمس العذر لمنتجي هذه الصور من الفنانين بصورة شديدة السخرية فيقول: ان العذر الوحيد لهم هو: "أنهم لا يرسمونها الا لمجرد تمضية اوقات فراغهم"، مؤكدين - في الوقت نفسه -: "لن يفهم هؤلاء التعساء، وليس لهم اي نصيب من الفهم، ليدركوا ان التصوير ما هو الا طريقة للتفكير وللحب وللبغض وللكفاح وللعيش". الاساس الثاني لإقامة الفن الحر في مصر، الذي وضعته جماعة "الفن والحرية" اوائل اربعينات هذا القرن، هو: "اثارة التعجب في اذهان الجماهير.."، وهو ليس تعجباً عادياً، بل "التعجب الصبياني"، تلك الغريزة التي "لا حد لها ومثال ذلك: ليه الدنيا معمولة كده؟ ومين اللى عملها كده؟!". اما ثالث هذه الاسس فهو: "ربط نشاط شباب الفنانين في مصر بتلك الدائرة الكهربائية الواسعة التي يتكوّن منها الفن الحديث" وهو الفن "الذي نحس بنبضاته القوية في نيويورك ولندن والمكسيك حيث يكافح فنانون امثال: "ديجوا ريفيرا" و"ولفجانج بالن" و"ايني تانجي" و"هنري مور". هذا المنشور الذي نشر العام 1941 عاد مرة اخرى بصيغة اقوى دوياً واشد ضجيجاً في مصر بعد اقامة معرضين استرجاعيين متعاقبين لاثنين من رواد هذه الجماعة تحت عنوان واحد هو "ممرات - PASSAGES" وتحت شعار واحد ايضا، هو "مصر- فرنسا: آفاق مشتركة" وذلك بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة، وصندوق التنمية الثقافية. أول هذين المعرضين كان للمصور السريالي والكاتب "رمسيس يونان" - المولود في المنيا العام 1913 والمتوفي في القاهرة في ال25 من كانون الاول ديسمبر من العام 1966- وثانيهما للفنان والنحات والمصور "آدم حنين" الذي مازال يقدم للساحة الفنية التشكيلية العربية اسهاماته وخبراته الفنية العديدة. ومنذ مطلع الاربعينات كانت معارض الفن الحر السنوية التي نظمتها جماعة "الفن والحرية" مسرحاً لثورة عارمة في الفن التشكيلي المصري، حيث حررت الموضوع والخيال والشكل التلقائي المعتاد من قواعد المرئيات وتنسيقها الاكاديمي وخلصتها كذلك من اغراضها التقليدية، ومن ثم فتحت الآفاق الخصبة امام الفنان العربي. وكان احد معالم هذه الثورة الهائلة، المصور والناقد والمفكر "رمسيس يونان". واستعانة منا بجمل قصيرة، ونقاط ضوئية مكثفة، لكنها كافية في الوقت نفسه لإزالة ما علق بصورة "يونان" من عتمة، نقول: ولد "رمسيس يونان" سنة 1913. درس بمدرسة الفنون الجميلة العليا في القاهرة فيما بين 1929 - 1933. اضافة الى ذلك الّف "يونان" العديد من الكتب منها "غاية الرسام العصري" العام 1938. ترجم "كاليجولا" لألبير كامي و"فصل في الجحيم" لرامبو و"الحب الاول" لتورجنيف و"قصة الفن الحديث". وله فوق ذلك دراسات متعددة في النقد الفني. وشارك في تأسيس جماعات فنية تقدمية مثل جماعة "الفن والحرية" وجماعة "جانج الرمال"، كما ارتبط من قبل بجماعة الدعاية الفنية، وتوفي "يونان" في القاهرة يوم 25 كانون الاول ديسمبر العام 1966. الى جانب ما سبق اقام "رمسيس يونان" العديد من المعارض الشخصية وشارك في معارض جماعية عدة، منها: صالون القاهرة 1933- 1938. معرض جماعة الدعاية الفنية 1939، معارض جماعة "الفن والحرية" 1940- 1947، وكان العام 1947 هو اول فرصة لإقامة معرضه الشخصي الاول الذي اتبعه بالمعرض الشخصي الثاني بغاليري "دراجون" في باريس 1948، ثم توالت معارضه: القاهرة 1958- 1961، ساوباولو 1961، باريس 1971- 1978. وقد مثّل معرض "يونان" الاسترجاعي الاخير في قاعة "كريم فرنسيس" حلقة استرجاعية للعديد من اعماله التصويرية التي انتجها في الفترة من العام 1938 وحتى عام وفاته، وعبر اكثر من 30 عملاً تصويرياً تجلت نظرة "يونان" التجريدية المطلقة، او بعض ذلك الاتجاه اللاموضوعي اللاتمثيلي، والذي لا يعنيه التعبير القصصي او الترداد الوصفي - كما يقول الناقد فؤاد كامل رفيق كفاح "رمسيس يونان" . ففي هذه الاعمال التصويرية لا يبالي "يونان" بمطابقة المرئيات وتشاكلها الخارجي، بل يصنع مساحة من التأويل الرحب والحدس الطازج في رحاب ومدركات البصيرة. وبعد اكثر من 20 عاماً قضاها "يونان" في اوروبا، يعود من جديد عبر معرضه هذا ليؤكد انه لم تخمد فيه جذوة البحث لتوسيع مداركه و ثقافته وزيادة وعيه الفني والغوص في بحار المعرفة، التي يتزود لها بالصبر والحكمة الرهيفة، الحكمة التي يجاهد بها للرد على الجمود الفكري الذي كان سائداً قبل ثورة 1952 في مصر، مستحدثاً اسلوباً مختلفاً في التفكير والابصار والشعور حيث التأليف فيه قائم على ايقاع معقد اشد التعقيد في ثروته الوجدانية، تؤثر فيه خشونة البداوة ونقاوة الفطرة. ومازال "يونان" في لوحاته يقلق ويرتعب، يمدها مرة بمشاعر فريدة وغامضة من الورع الصوفي والرهبة الالهية، يكشف لنا فيها بكثير من الحرفة والمهارة عن رغباتها المكنونة في الانتماء الى بعض عوالم ابي العلاء ودانتي وكافكا وكامي. هل نسميها عوالم الأسطورة والنزوة الخيالية والحلمية.. عوالم الرمزية التي تبدو لنا كدرب من الطوطمية الجديدة - القديمة؟ هل نقارن هذا العالم السريالي لدى "يونان" بعوالم السيريالية الفجة في عظمتها لدى مبشرها الاكبر "سلفادور دالي"؟! لا شك ان امواج النهضة الثقافية والتشكيلية في مختلف بقاع العالم القت بظلالها على مصر الاربيعنات فأنتجت هذه التجاوزات الفنية التي مهدت لكثير من خطوات التقدم في عالمنا التشكيلي العربي المعاصر. ففي هذا الوقت كانت ثورة وجنون المستقبليين في ايطاليا بقيادة الفنان العظيم "مارينيتي"، وثورة السرياليين الجدد بقيادة "اندريه بريتون" النظرية ثم ثورة "دالي" الغاضبة والعملية والتي انتجت كنوز هذه المدرسة وانهت اسطورتها بنهاية "دالي" نفسه. في العام 1947 يكتب "رمسيس يونان" بياناً ثورياً على غرار بيانات المستقبليين في ايطاليا والسرياليين في فرنسا، يقول فيه "ان الصراع الطبقي لم يعد يجاوب على حاجاتنا.ان غايتنا التي لم يسبقنا اليها احد في التاريخ، مع استمرار نضالنا من اجل مجتمع لا طبقي، هي في رفض الانتماء الى اية طبقة. ان الانتماء الطبقي في نظرنا هو خيانة. وحدهم المتمردون على طبقاتهم لهم الحق في الكلام عن المستقبل.ان حالات اشخاص مثل: ماركس، انجلز، ساد، لينين، تروتسكي، تؤكد ذلك. وهكذا نستبدل الصراع الطبقي بالصراع ضد الطبقات، اي صراع الذين خارج التصنيف الطبقي ضد المصنفين طبقياً. ان ابناء العمال مدعوون، مثل ابناء البورجوازية، الى رفض واحد لطبقتهم. يجب ان يجمعهم قاسم واحد مشترك، النضال ضد آبائهم. هذا عمل جنوني ربما. لكن الحرية تستحق هذا الثمن، فلا يمكن العمل في خدمة المجتمع والعمل على سحقه في وقت واحد. لندعم صفوف الخارجين على طبقاتهم ولينتشر جنوننا حتى يشل كل وظائف هذا المجتمع المجرم. ..يا شبان العالم، سفهوا آباءكم! ..ابصقوا في وجوه عسكرييكم!". هذه الثورية الفجة تتخذ اتجاهاً مختلفاً لدى رفيقه "آدم حنين"، والتي تتجلى ايضا في اعماله النحتية والتصويرية التي ضمها معرضه الاخير في قاعة "كريم فرنسيس" تحت نفس عنوان معرض "يونان" الا وهو "ممرات PASSAGES. فمن بين اكثر من 20 عملاً تصويرياً ومثلها نحتياً، يؤرخ "آدم حنين" لحسّ انساني رهيف بعيداً عن الوحشية او الثورية التي صدرها "يونان" في اعماله وبياناته العديدة. فكما يتساءل الناقد "ايمين ازار" عام 1956، حول السبب الرئيسي الذي يجعل فنانينا غير مهتمين بالنحت كنحت، وهو هنا يعني بالنحت شكلاً من اشكال التعبير تتركز فيه بعمق كل امكاناته من رسوخ وحركة. ومن ثم كان علينا انتظار الجيل الجديد لكي يؤكد لنا هذه الحقيقة، و"آدم حنين" هو احد العاملين في هذه الثورة والذي بقي طويلاً على علاقته مع الحياة الشعبية في مصر، وهو ما تجلى في تجربته مع بداية انتقاله الى باريس عاصمة الفن، حيث غرق في كم هائل من الفن الذي اغواه وهاجمه، الى ان وجد في النهاية طريقه لأن يكون كفؤاً لكل ذلك. يقول "حنين": "توقفت عن العمل فوراً، لأنني اردت ان ارى كل شيء على اطلاقه، ثم بدأت القي اسئلة على نفسي: ماذا افعل هنا: اين انا؟ ماذا يعني كل هذا لي؟ ما الذي يجب ان اعمله؟.. بعد كل هذه الاسئلة، كف "حنين" عن رؤية المتاحف في باريس، وبقي في بيته يستعيد بيئته التي تربى فيها، بعلبة ألوان مائية فقيرة!