الكتاب: حجرة وراء الأرض الكاتب: محمود عبدالغني الناشر: توبقال - الدار البيضاء "النص البلوري المتقطع" بهذا المعنى كتب محمود عبدالغني ديوانه "حجرة وراء الأرض". في الديوان لا مكان لنمط "الكتابة الموصولة"، الكتابة الخطية التي تسيرُ في اتجاه فكر واحدة، أو ما يسمّى، في الكتابة النقدية التقليدية، ب"وحدة الموضوع". في الوحدة يظهر الواحدُ، ويتجلى. يُعلن عن ذاته كمعنى، كمطابقة واطمئنان.لا كثرة ولا تعدّد. فالنص موصول، أوله يؤدي الى آخره، لا غموض ولا التباس. في "حجرة وراء الأرض" "لا شيء يتكرر" والخيال "حافّة" وهو ما يعني ان نمط الكتابة التي يختارها محمود. هي كتابة "مجازات" جملها متقطّعة، هي تشظّيات لا تتيح المعنى كاملاً، ولا تسعى إليه فهي من فصيلة دم آخر. هو ذلك الدم الذي تكتب به، تجربة الحداثة في المغرب، وفي غيره من جغرافيات الشعر العربي، أفق شعريتها خارج المعايير والأنساق، تبني أفقها المفتوح على احتمالات الشعر لا غير. وأذكر في هذا السياق تجربة الشعراء أحمد بركات وعبدالله زريقة ومبارك وساط. وهي تجربة تلغي مفهوم الجملة، لتعوضه شعرياً بالنفس. جمل تصير أنفاساً. وهذا ما يبرر بلوريتها وتقطّعها. النص يتقدم في اتجاهات شتى. فهو سيرورة من التشظّيات المتتالية. السرد، في الديوان، يتخذ وضعاً مفارقاً لما هو مألوف في السرود النثرية التي تولي الحكاية أو الخبر أهمية خاصة، وحيث الجمل تتداخل. السردُ هنا، يأتي متقطعاً، ومفاجئاً. وكأننا إزاء جزر يوحّدها البياض. ولعلّ ما يجعل محمود يميل الى كتابة كهذه، هو ذلك الإحساس المأسوي بعالم أو بوجود "يتعالى كالضّحك من تلقاء نفسه"، ف"أي شيء تراه هو المطلق". وهو ما يعني أن لغة مثل هذه، أو كتابة كهذه "لا تمنح النّجاة". لأنها تنفي ولا تؤكّد، لأنها كتابة محو، لا كتابة مَلء. ونعودُ هنا الى مفهوم "الخلخلة السرديّة" الذي استعمله فراي حين أشار الى هذا النمط من الكتابة التي تقوم في بنائها على عرض "القوائم التي تعدد الأشياء حتى تأتي عليها كلها، وإلى التعبير عن عملية التفكير أو حركته بدلاً من استخدام النظام المنطقي للكلمات..." نعود الى هذا المفهوم، لنُقرر أن الميل النثري في نصوص الديوان كاملة، والتوزيع الخطي لصفحات الديوان، هو تحويل لشعرية النصر، في اتجاه خلخلة إيقاعية هي انعكاس لطبيعة الرؤيا التي تحكم اختياراً مثل هذا. فهذا النمط من الكتابة الشعرية، الى جوار أنماط أو أشكال حداثية أخرى، تتسم بميلها الى تكسير الحدود بين الأجناس، وإلى خلق فجوات في المفاهيم، وإلى وضع النص على حافة احتمالات يصعب تسييجها أو الحكم عليها من خلال معايير او انتسابات قيمية محددة. "فالحداثة، في صراعها ضد الماضي، باعتباره قيمة يقول ميشونيك تستوجب تحويلاً نحو قيمها الخاصة". وفي هذا ما يبرر وجود جمل وتعابير في الديوان تتخذ منحى نظرياً في تبرير نصّيتها. أو اختيارها الشعري بالأحرى. مثل: - "كان هذا هو الزمن الذي سيتكلّم فيه الخيال". - "لا نهاية في اللغة". - "لا أحد يمنعك من استعمال الزمن كما تشاء". - "نجت بي هذه اللغة من ألم الطريق...". إن الشاعر، وهو يقوم بهذه الخلخلة، يسعى الى تحقيق شرط كتابته هو. إلى قلب المفاهيم والتصورات، أو جعلها، بالأحرى، تالية على النص لا سابقة عليه، أو معياراً لقيمته أو لشعريته. "لن أصل الى الحجرة. الطّرقات أهم من البيت. سأقضي يومي ضيفاً على مواد الأمكنة لأنضج قبل الأوان بساعتين. يد الشبح تبصق ضجيجاً أسود. أنابيب السماء تفضي الى روائح منتحرة. مثلما الطرقات والعطفات هي دائماً أهم من البيوت. ستنهرني صوفة التذكّر وتثقب بالونات اللسان. يدي وعَرَقي البارد ينامان باتساع في الكهرباء إنها رغباتي الضيقة ولن يمسها أحد، حتى وإن قضيت حياتي مع الملائكة في حجرة الخراب المشهورة". ونقرأ: "إلى هذه الحجرة لن يغامر أحد بالمجيء. أفران هادرة، والأعضاء تتداعى كما تتداعى الأبراج وسماوات الموتى. وكل من يصعد شجرة يصطاده قنّاص. واللغة قادرة على تنويم الحراس. إلى هذه الغابة احياناً تأتي طيور جميلة. وإذا اقتربتَ منها على طريقة الرجال تسمعُ ضجيج الجنْس. وفجأة تظهر نساء ذاتُ بطون منتفخة". إن تأملنا هذين النموذجين، وهو ما مثل أفق الديوان في ملامحه العامة، ندرك أن الجمل هي أنفاس. أو جرعات تفضي في تعاقبها الى نهايات مفاجئة. فهي تقفُ فجأة لتترك المكان لما لا يمكن توقّعه، وهو ما يبطل فكرة "ردّ الإعجاز على الصدور". هذا لاتصال الخطي الذي ظل أساس العلاقة في الشعر القديم بين الشكل والمضمون باعتبار أحدهما وعاء الآخر وحاملاً له. هنا تتغير العلائق وتُصبح الخلخلة أساس هذه العلاقة، وجوهرُها. فما العلاقة بين "ضجيج أسود و"أنابيب السماء" وبين "بالونات اللسان" و"يدي وعرقي البارد" والسؤال نفسه نطرحه بالنسبة الى "أفران هادرة" و"الأعضاء تتداعى" إلى آخر ما تحمله هذه المعادلة من أسئلة كلها لا تُفضي في النهاية إلا الى تأكيد انتساب تجربة محمود الى "النص البلوري المتقطع" الذي يعطي مفهوم التشظي معناه الشعري العميق. لا مكان للغنائية هنا. على رغم أن المتكلم الواحد يتبدّى معلناً وجوده عبر ضمير المتكلم المفرد، حاضراً كان أم غائباً، فهو يغيّر أوضاعه. لكنه يظل واحداً. فأين إذاً يتجلى امّحاء هذه الغنائية أو احتجابها؟ أمام هذه التقطعات التي تتوالى لخرق تواصل السياق وامتداده تتبدى تلك الطفرات التي هي في جوهرها بياضات لاحظ النقط التي تُنهي الجمل، وكأن الجمل أصبحت مُكتفية بذاتها، أو هي بديل عن الكتابة المقطعية التي سادت بدايات الحداثة في الشعر العربي. في هذه البياضات يُغيّر المُتكلّم مجرى الكلام. فثمة حوار يدور بين ذوات وعناصر وأشياء مُختلفة. وهو، في ما نتصوّره، إحساس بطبيعة العلاقة التي أصبحت الذات المتكلمة تعقدها مع الأشياء، وصدى هذه العلائق الجديدة تعكسه اللغة. وهي هنا لغة بصرية. أعني أن العين أصبحت أكثر ميلاً لتصوير ما تراه، بعد أن يمُرّ عبر مصفاة الخيال، ليصير واقعاً آخر، هو واقع الدهشة والمفارقة. أليس "الخيال حافة" كما يقول الشاعر نفسه؟ في "حجرة وراء الأرض" وعي شعري جديد يتبلور، ملامحه تعكس بوضوح، طبيعة العلاقة الغامضة والصعبة التي يمكن ان تُحدثها كتابة مثل هذه في علاقتها بقارئها. لكن الوعي بطبيعة الإبدالات التي تعرفُها الكتابة الشعرية العربية في مرحلة ما بعد القصيدة، داخل تجربة الحداثة، هي أحد الشروط التي ستُعفينا ربما من الخوض في مسائل سطحية وباردة.