يخطئ من يظن ان الصراع مع اسرائيل يتوقف على الحروب وينتهي عند السلام اذا تحقق بشكله الحالي المطروح او حتى بأشكاله المحسّنة والمقبولة. فهو صراع وجود لا صراع حدود ولن يهدأ الا بزوال الفكر الصهيوني واجتثاث جذور التعصّب والتوسّع والحقد ضد كل ما هو عربي. والنضال في هذا المجال ضد اسرائيل لا يمكن ان يقتصر على المقاومة المسلحة ولا الانتفاضات المتكررة ولا حتى الثورات والعمليات الفدائية والاستشهادية.. فهي كلها لا تشكّل سوى وسيلة من الوسائل النبيلة الهادفة لإسقاط المشروع الصهيوني وانهاء الاحتلال الاسرائيلي. الوسائل الاخرى لا تقلّ قيمة ولا فعالية عن وسيلة المقاومة والجهاد بل هي في الواقع اشد فعالية في بعض الاحيان لانها تسهم في تعزيز الصمود وتثبيت الاقدام ومواجهة التحديات لانها تشمل كل منحى من مناحي الحياة ومتطلباتها. هذا الصراع من اجل البقاء وتعزيز الوجود يتمثل في تأمين الدعم للانسان الفلسطيني حتى يبقى في ارضه سيداً حراً قادراً على اطعام اولاده وتعليمهم ويواجه الضغوط وحملات الترهيب والترغيب الرامية لحمله على الهجرة او اليأس ويتحدى سياسة الحصار التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين في كل مكان. وحتى تتحقق اهداف انتفاضة الشعب الفلسطيني لا بد ان يتحمل كل عربي مسؤولياته في دعمه وتعزيز صموده بأية وسيلة من الوسائل المتاحة والتي اعتقد انها بمتناول اليد مثل شراء المحاصيل الفلسطينية بكاملها وايجاد فرص عمل للعاطلين عن العمل الذين يضطرون للعمل في اسرائيل وبناء المستعمرات واقامة بنيان الاقتصاد الاسرائيلي بعرقهم ودمائهم. والافضل ان تتأمن هذه الفرص داخل الأرض الفلسطينية بالمساهمة ببناء المصانع والمؤسسات والمستشفيات ودعم المشاريع الزراعية وتشجيع الشباب على اقامة مشاريع صغيرة منتجة وبناء مدارس وجامعات ودعم المؤسسات التعليمية القائمة والكليات المهنية والفنية. هذا الدعم لأهالينا في الضفة الغربية وغزة يجب ان لا يصرفنا عن التفكير بدعم مماثل، وربما اكبر لاخواننا في فلسطينالمحتلة عام 1948، الذي يُطلق عليهم اسم "عرب الداخل" او "العرب الاسرائيليين" فهم بحاجة ماسة للمساعدة في شتى المجالات بسبب الظروف المأسوية التي يعيشونها والظلم الفادح الذي يتعرضون له من قبل "الديموقراطية الاسرائيلية" المزعومة التي تبيح للسلطات ممارسة شتى انواع التمييز العنصري والقهر والفصل والحصار وسياسة الافقار والاهمال والخطط المعدة لإجبارهم على الهجرة او التخلي عن هويتهم العربية الاصيلة ووحدتهم الوطنية المثالية بين المسلمين والمسيحيين. فعرب الداخل يستحقون منا التفاتة جدية وسريعة وفاعلة ليس من النواحي الانسانية فحسب بل لأسباب جوهرية تتمثل في ان هؤلاء الاخوة يشكلون الاحتياطي الاستراتيجي الاهم للعرب وللفلسطينيين على المدى البعيد بسبب وجودهم في قلب الدولة العبرية وقدرتهم على المشاركة في صناعة القرار والوصول الى الكنيست البرلمان وتوقع ان يلعبوا دوراً اكبر في المستقبل القريب. كما ان هؤلاء الاخوة ضربوا مثلاً رائعاً في الصمود ومعركة البقاء واثبات الوجود والدفاع عن هويتهم الفلسطينية العربية داخل مجتمع صهيوني ظالم ومرعب ومتعصب وحاقد. ويعترف العدو قبل الصديق بأن جميع مشاريع وخطط التهويد وشق الصفّ وطمس الهوية الفلسطينية قد باءت بالفشل واعطت مفعولاً عكسياً اظهرته بأبهى صوره خلال انتفاضة الاقصى عندها هبّ ابناء فلسطين بمختلف اجيالهم لنصرة اخوانهم. ورغم ان التظاهرات التي عمّت المناطق الفلسطينيةالمحتلة عام 1948 كانت تعبّر عن حقيقة وحدة الشعب واهدافه الا ان الاحداث التي رافقتها والجرائم التي ارتكبها الصهاينة بدعم من قوات الامن تدفعنا الى الدعوة الى عدم احراج عرب الداخل وتهدئة الامور حتى لا تستغل القوى الصهيونية هذا التحرك للتنفيث عن احقادها وتنفيذ مخططاتها الخبيثة بإثارة العداء ضدهم والدعوة لمعاقبتهم ومحاصرتهم و... تهجيرهم. فقد عانى عرب الداخل الامرين خلال اكثر من 70 سنة من المؤامرة الصهيونية منها 52 سنة بعد قيام اسرائيل وصمدوا في اراضيهم ورفضوا التخلي عنها رغم المذابح والضغوط والتهميش والحرمان، وزاد في الطين بلة انهم أهملوا من قبل اخوانهم العرب وعاملهم البعض كاسرائيليين تنطبق عليهم كل اجراءات القطيعة والمقاطعة والعداء وعدم الالتفات لاهمية دورهم الحالي والمستقبلي في فرض السلام العادل وحمل الاسرائيليين على الرضوخ ليس لمبادئ الشرعية فحسب، بل للواقع الذي لن تجد اسرائيل مفراً من مواجهته إن آجلاً او عاجلاً. فحسب الاحصاءات الاخيرة ان عدد الفلسطينيين في الداخل سيتضاعف خلال 25 عاماً من مليون نسمة الى مليونين من اصل 8.1 مليون فلسطيني مقابل 6.4 مليون يهودي اي ان عدد السكان الفلسطينيين سيفوق عام 2020 عدد السكان اليهود في اسرائيل والاراضي الفلسطينية بنسبة 30 في المئة كما ان المكتب المركزي للاحصاء الاسرائيلي اشار اخيراً الى ان ربع سكان مناطق 1948 هم من العرب مليون و400 ألف نسمة اي بنسبة 19 في المئة من عدد السكان. وذكرت دراسة اخرى نشرت قبل ايام ان نسبة الانجاب عند اليهود تصل الى 2.6 في المئة مقابل 4.76 في المئة عند المسلمين. وفي الجانب السياسي تمكن العرب من ايصال 10 نواب الى الكنيست ونائب وزير للخارجية وهم قادرون على ايصال عدد اكبر لو وحّدوا صفوفهم وأقاموا تحالفات داخلية قوية. والاهم من ذلك ان "الناخب الفلسطيني" صار له دور اكبر وربما حاسم في اية انتخابات نظراً لطبيعة الصراع القائم بين الاحزاب وعدم تمكن حزبي العمل والليكود من حصد اكثرية مطلقة يستطيعون من خلالها الحكم بمعزل عن الاحزاب الصغيرة من دينية ويمينية ويسارية. وقد شهدت السنوات الماضية امثلة حيّة على هذا الدور سواء في اسقاط او انجاح هذا الحزب او ذاك او في التصويت داخل الكنيست على الثقة او اي مشروع آخر. وفي ضوء الاحصاءات التي اشرت اليها يبدو واضحاً ان هذا الدور سيتضاعف يوماً بعد يوم لفرض نفسه على الجميع ويكبح جماح التطرف الاسرائيلي. هذا الواقع لا يغفل عنه الاسرائيليون بل انه اصبح الشغل الشاغل للسياسيين والمحللين والهاجس الاكبر لدى المتطرفين. وينقسم الاسرائيليون الى فريقين احدهما يدعو الى اصلاح الخلل وازالة الغبن عن "العرب الاسرائيليين" والاخير يدعو الى محاصرتهم وافقارهم وارغامهم على الهجرة وصولاً الى تطبيق سياسة "الترانسفير" التي يتبناها الصهاينة. ونشرت اخيراً ورقة عمل بشأن الفلسطينيين داخل ما يسمى ب"الخط الاخضر" تحذّر من سياسة التهميش والاهمال والتفرقة والمعاناة والاجراءات المتخذة على مدى نصف قرن مثل مصادرة الاراضي ووضع الحواجز والعقبات امام النشاط الاقتصادي وتقليص فرص العمل امام فلسطينيي 1948 واعتبارهم من قبل معظم الاسرائيليين "ضيوفاً غير مرغوب فيهم". وقال التقرير ان هذه السياسات ادت الى ازمة اقتصادية عميقة طالت كل مستويات الحياة ولا سيما المؤسسات التعليمية والصناعية والصحية. واوصى بوضع سياسة اصلاحية ووقف التفرقة من اجل تعزيز ارتباط السكان العرب بهويتهم الاسرائيلية "وتنازلهم" عن احلامهم الوطنية وهويتهم الفلسطينية. وفي المقابل هناك دراسات وخطط معدّة لتعميق الحصار على الفلسطينيين من بينها فرض منهاج تعليمي عبري على المدارس العربية واعتبار اللغة العبرية اللغة الرسمية الوحيدة وفرض رقابة قصوى على البناء واخضاع الاوقاف الاسلامية لرقابة الدولة واقامة نظام اشراف مكتب مستشارين يهود على فلسطينيي 1948 فيما اقترح بعض اعضاء النواب عدة قوانين لطمس الهوية العربية من بينها اشتراط منح المواطنين العرب بولاء مشفوع بالقسم للدولة العبرية وحظر نشاط الحركات الاسلامية". وتزامنت هذه التحركات مع تصعيد الموجات العنصرية وتحرك المتطرفين بشكل يومي للقيام باعتداءات ضد الاحياء العربية على مرأى من رجال الشرطة الذين اعتقلوا اكثر من 500 شاب عربي بزعم مشاركتهم في التظاهرات و"دعم انتفاضة الاقصى" اضافة الى التهديدات الموجهة للنواب العرب وبينها تهديدات بالقتل وتقديمهم للمحاكمة. اما بالنسبة للجنة التحقيق التي تم تشكيلها بضغط من النواب العرب فينتظر ان تماطل وتسعى لتمييع القضية مع مرور الزمن حتى لا تنكشف الحقائق ويتأكد العالم اجمع من الجرائم التي ارتكبها الصهاينة ضد المدنيين العزل من السلاح خلال التظاهرات وبعدها مما ادى الى استشهاد 13 شاباً واصابة المئات بجروح وتدمير الكثير من ممتلكات وابنية وسيارات الفلسطينيين. هذه المعطيات الخطيرة يجب ان تدفع العرب للتفكير مجدداً بوسيلة لدعم عرب الداخل وايجاد فرص عمل لهم عبر اقامة مؤسسات ومصانع ومستشفيات وجامعات ومراكز ثقافية ومشاريع منتجة في مدنهم وقراهم حتى تساعدهم على الصمود في ارضهم ومواجهة الحصار الاسرائيلي فهم كم اشرت الاحتياطي الاستراتيجي المهم للعرب ولفلسطين وللسلام الحقيقي الذي لن تجد اسرائيل مفراً منه في المستقبل. فدعم الفلسطينيين في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية واجب قومي وديني وانساني الا ان دعم اهالينا في الداخل لا يقل اهمية من جميع النواحي حتى لا يأتي يوم نندم فيه على فقدان هذا الاحتياطي البشري وتحوله الى مأساة او كارثة تتمثل إما في ضياعة او بتنفيذ مخططات العدو الرامية لتهجيره ضمن خطة "الترانسفير". كما انه من الحكمة عدم توريط هؤلاء او جرّهم الى اي عمل قد يتحول الى ذريعة يستخدمها الصهاينة لتحقيق اهدافهم المشبوهة. وقد سمعت خلال زيارات للبنان والاردن اخيراً من يقرع اجراس الانذار من ان اسرائيل تخطط منذ زمن لمذابح وافتعال احداث في حال انفجار الوضع الراهن من اجل دفع موجة هجرة جديدة لعرب الداخل وغيرهم الى لبنان الجنوب والاردن... فهل يتنبه العرب ويسارعون لدرء الاخطار؟! * كاتب وصحافي عربي.