رويداً رويداً، ومع دخول فجر القرن الحادي والعشرين، يترك العرب الفلسطينيون داخل حدود كيان الدولة العبرية على ارض فلسطين 1948 بصماتهم على تطور اتجاهات التغيير من جهة، تطور دورهم النضالي المستمر والمساند للعملية الفلسطينية ويبرزون كقوة سياسية وديموغرافية مهمة ومؤثرة، لهم مكانتهم في الصراع في المرحلة المقبلة؟ هذا التطور ملحوظ جداً بمساهمة التجمع الفلسطيني الذي بقي منغرساً فوق ارض الوطن عام 1948 في الجليل والمثلث والنقب والساحل. فالنهوض لاستعادة الهوية والشخصية الفلسطينية شق طريقه بعد احتلال 67 الذي فتح ابواب التداخل بين الفلسطينيين على جانبي "الخط الاخضر" لاحظ التعبير العنصري وتصاعد الى الذروة في معركة "يوم الارض" عام 76 فقد سالت الدماء دفاعاً عن التمسك بالارض وضرورة وقف المصادرة وتهديم القرى العربية التي بلغت تلك اللحظة الرهيبة 425 قرية تم مسحها من على الخارطة الجغرافية والديموغرافية بين 48 و1976 وبات ابناء الارض لاجئين داخل الدولة العبرية على ارضهم ارض الآباء والاجداد عام 1948. تعاظم صعود الانتماء الوطني لعرب الداخل، كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وفي الصراع ضد نهب الارض وتدمير القرى العربية، ومن اجل ازاحة كابوس التمييز العنصري، الى ان وقع اتفاق اوسلو الذي ادار ظهره للمليون فلسطيني ومصائرهم داخل الدولة العبرية. وهنا هبط منسوب النضال نحو الكينونة الوطنية الموحدة، ودخل تفريعات اخرى تتراوح بين الصراع ضد مصادرة الارض والمساواة الاجتماعية وبين تنامي نزعات التمثل والاندماج الفردي بالمؤسسة الاسرائيلية اليهودية الصهيونية بديلاً من تعزيز النضال وتطويره مع القوى اليسارية والليبرالية الاسرائيلية اليهودية للانتقال بالدولة الى مرحلة نوعية جديدة، نحو "دولة اسرائيلية لكل مواطنيها من يهود وعرب" من دون تمييز عنصري وتداعياته بمصادرة الارض التي لا تزال قائمة حتى الآن النقب، الجليل الشمالي، اراضي الدوحة، عرب الجهالين في القدس وحولها …الخ وتمييز في كل مؤسسات الدولة وفي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والوظيفية. واقدم الآن نماذج على هذا: عام 48 كان العرب بقايا شعب 170 الفاً = 20 في المئة من سكان الدولة العبرية في يدهم 21 في المئة من الارض التي قامت عليها الدولة بالقوة، والآن بعد 52 سنة العرب مليون = 20 في المئة من سكان الدولة وبقي في يدهم 4 في المئة فقط من الارض. اما ال17 في المئة فصودرت وهدمت قراها على مدى خمسين عاماً من التمييز العنصري وعبرية الارض احد ابرز اركان المشروع التوسعي الاسرائيلي الصهيوني حتى يومنا. واليوم، العرب 20 في المئة من مواطني الدولة لهم فقط 2 في المئة من الموازنة السنوية وطلبة الجامعات 200 ألف، العرب بينهم 5 آلاف ارقام 1999 اعضاء مجالس ادارة شركات قطاع الدولة العام 1517 منهم فقط 15 عربياً ارقام الكنيست 6/10/1999… وهكذا… جاء في تقرير "جمعية حقوق المواطن الاسرائيلية" رزمة احصاءات مرعبة، "ففي اعلى اربعة مراتب حكومية يشكل العرب اقل من نصف في المئة، وفي شركة الكهرباء من بين 13 ألف يعمل 6 مستخدمين عرباً فقط، ومن بين خمسة آلاف محاضر اكاديمي في كل الجامعات اثنا عشر محاضراً عربياً فقط وبعد خطة التشجيع الحكومية ارتفع العدد الى 35 فقط" جريدة "يديعوت احرونوت" 6/12/1999. هنا يجب ان يقع التمييز الشفاف بين المساواة على اساس جماعي يهود وعرب ودعوات المساواة الجارية على اساس الاستيعاب والدمج والامتثال الفردي لإذابة الهوية والشخصية الفلسطينية للعرب مع استمرار خطط وخطوات مصادرة الاربعة في المئة الباقية في يد العرب من الارض. هذا التجمع الذي تحول عبر الخمسين سنة الماضية من كتل بشرية ارادوها كتلاً مهملة لا علاقة لها بمعادلة الصراع الدائر مع الغزو الاستيطاني الاحلالي احلال يهود بدل العرب الى مواقع وقوى مهمة في الخريطة الوطنية الفلسطينية للمليون فلسطيني عربي بدور يتنامى في عملية توحيد كل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، الآفاق مفتوحة امامه للمساهمة الفاعلة في دعم كفاح الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس والقطاع لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعودة النازحين واللاجئين. ويمكن للمراقب ان يلمس تطور الدور الملحوظ للعرب الفلسطينيين على ارض الوطن في مناطق 1948 من خلال: 1 - تطور البنى الحزبية والمؤسساتية العربية المستقلة عن تأثيرات الحركة الصهيونية وعمليات "الأسرلة" في دولة ومجتمع محكومين بقوانين يهودية الدولة وصهيونيتها، والتمييز العنصري في كل مؤسسات هذه الدولة. فاسرائيل لم تتحول الى "دولة اسرائيلية متعددة الثقافات" لكل مواطنيها من يهود وعرب على قدم المساواة القانونية والسياسية والاجتماعية كما هي حال الدول التي تشكلت في حمى موجات الغزو الاستيطاني من المهاجرين وما تبقى من سكان البلاد الاصليين الذين تعرضوا لحروب الابادة والمعازل والتهجير ومصادرة الارض والوطن. 2 - الميل المتزايد للجماهير العربية في تبني سياسة واقعية ووطنية في آن واحد من خلال النضال الديموقراطي للمساواة من اجل حقوق المواطنية الكاملة، ورفض سياسة تشطيرها المبرمجة منذ 48 حتى يومنا الى عرب ودروز وشركس وبدو، فضلاً عن خطط التمزيق العمودي الصراعي الديني/ الطائفي مسلمين - مسيحيين. وما يجري الآن في الناصرة دراما/ كوميديا تدمي قلوب المليون الذين توحدوا طوال الخمسين عاماً للدفاع عن الهوية الوطنية والارض والمساواة الجماعية بين الاثنيتين اليهودية الاسرائيلية والفلسطينية العربية. 3 - المساهمة في الحركة السياسية داخل اسرائيل، وتطور الاداء والمشاركة في الانتخابات البرلمانية وايصال 13 نائباً عربياً للمرة الاولى في تاريخ اسرائيل على رغم ان ثلاثة منهم محسوبون على حزبي العمل والليكود اللذين يرفعان راية "إدامة يهودية دولة اسرائيل وصهيونيتها". 4 - ادامة الوصول والاتصال والتضامن المشترك مع جماهير الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة عام 1967، والتطلع المتزايد الى مد الجسور مع فلسطين والشتات خصوصاً في الاردن وسورية ولبنان حيث يعيشون اللاجئون من مناطق 1948. ان كل ذلك يؤشر لادوار ومصائر بين مشروعين برزت عناصرهما بوضوح. ويبقى الفلسطينيون العرب في مناطق 1948 داخل بوتقة العملية الوطنية الفلسطينية، ودورهم اساسي ورئيسي في رسم واحقاق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وهذا ما يفتح بدوره الابواب الواسعة امام تطور العملية الاستراتيجية التاريخية مرحلة مرحلة وصولاً الى الحل الديموقراطي العادل فوق ارض فلسطين التاريخية. في السياق ذاته من التطور تبدو الانقسامات داخل المجتمع الاسرائيلي. فهل التعامل مع القوى التي تؤيد الحقوق الفلسطينية ممكن الآن وفي اية مرحلة مقبلة بما فيه "مرحلة السلم" اذا تمت ام ان التعامل مع اسرائيل ككل سوف يبقى من المحرمات؟ في الحقيقة لا يستطيع احد ان يتجاهل حالة الحراك والتطورات التي وقعت داخل الدولة العبرية، وخير دليل على ذلك الدرجة العالية من الانقسامات في الانتخابات الاخيرة للكنيست الخامسة عشرة ما بين احزاب تعود لأصولها القومية حزب الروس، الاثيوبيين، المغاربة… واحزاب تقوم على اساس اثني سفارديم، اشكناز وصولاً الى احزاب صهيونية ليبرالية علمانية واحزاب صهيونية توراتية. كل هذا الحراك الذي يتبدى اكثر فأكثر من دورة انتخابية الى دورة تليها يدل الى وجود تباين داخل الدولة العبرية. وهذه الحالة من الحراك لا تعني أن المجتمع سائر نحو التفكك، لأن فيه طيفاً واسعاً من التشكيلة الاجتماعية الاسرائيلية اليهودية المتجهة نحو مغادرة التشكيلات الاثنية القومية الخاصة الاستيطانية اكثر من ثلاثين اثنية بجذورها القريبة، كما لا يعني أن ليس هناك اصطفافات كبيرة تجنح داخل الدولة العبرية نحو اليمين التوسعي التوراتي. ان المجتمع اليهودي الاسرائيلي يتجه اكثر فأكثر نحو تشكيلات اجتماعية طبقية افقية تتمركز على محاور مصالحها ونحو "الاسرلة" في صياغة هيكلية الدولة والمجتمع. نحن نعتقد بأن هذه التطورات يجب ان تلحظ من جانبنا باعتبارها عاملاً مهماً ومؤثراً في ادائنا الوطني وكفاحنا الصراعي ضد التوسعية الاسرائيلية الصهيونية، وايديولوجية اسرائيل الصهيونية، والتمييز العنصري بين مواطنيها اليهود والعرب في هيكلية الدولة ومؤسساتها الادارية والتعليمية وتقسيم المجتمع الى "يهود وغير يهود". وهنا نعتقد بضرورة استمرار الحوار والتعاطي مع اطياف القوى السياسية الاسرائيلية التي نتفق معها في مساحات مشتركة، وهي تقر وتعترف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في الدولة المستقلة الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ميرتس، بعض اطراف حزب العمل، اطراف في حزب المركز، في صف الانتجلنسيا والمؤرخون الجدد …الخ طبقاً لقرارات المجالس الوطنية الفلسطينية التي صدرت تباعاً منذ عام 1974 التي دعت باكراً للحوار والعمل في المساحات المشتركة مع قوى الديموقراطية والسلام اليهودية داخل اسرائيل. لقد اطلقنا منذ مطلع عام 69 الدعوة لضرورة رؤية التناقضات والتعارضات في بنية المجتمع الاسرائيلي اليهودي الاثنية، الطبقية، الايديولوجية والثقافية… ولنا حوارات منشورة بهذا المعنى. وتعاملنا مع تضاريس هذه الخارطة للدفع باتجاه اقرار قوى يسارية، وسلامية، وليبرالية اسرائيلية يهودية بحقوق شعبنا والحقوق العربية وفي المقدمة حق تقرير المصير واستعادة حق بناء الدولة المستقلة المعطّل منذ عام 47 عملاً بالشطر الآخر من قرار الاممالمتحدة 181، وحق عودة اللاجئين. ومنذ عام 74 أنضج طيف واسع في المجلس الوطني الفلسطيني وفصائل وشخصيات هذه العملية التي اخذت شقت طريقها في التعامل مع التطورات الجارية في المجتمع الاسرائيلي. وهذا الاتجاه مرشح لان يتعمق ويتسع في "مرحلة التسوية المقبلة" اذا تمت على اساس قرارات الشرعية الدولية، وسيتراجع وينتكس اذا تمت على اساس لاءات ايهود باراك الخمسة التوسعية الصهيونية التي اعلنت فور انتخابه وادرجها في برنامج خطوط الاساس لحكومته الائتلافية لا لعودة القدس، لا عودة لحدود 4 حزيران/ يونيو 67، لا عودة للاجئين الى داخل اسرائيل، لا انهاء للاستيطان، لا لدولة مستقلة كاملة السيادة، والآن اضاف "لا" سادسة "بأن قرار مجلس الامن 242 لا ينطبق على الضفة كما سيناء والجولان والاردن"، معلناً ان الضفة كانت "ارضاً محتلة من الاردن" حتى عام 67 وان لا حدود لاسرائيل مع الضفة كما مع مصر والاردن وسورية ويقصد ادعاء اسرائيل بأن حدودها حتى حدود فلسطين الانتدابية مع مصر 1921 والاردن 1922 وسورية 1923، وهي بذلك تقدم نفسها بقوة غزو الاحتلال وغول الاستيطان في الاراضي الفلسطينية والجولان بأنها الوريث الوحيد لفلسطين الانتدابية حين لم تكن اسرائيل موجودة. وفي كل الاحوال فإن جدلية الحياة في تناقضاتها وتعارضاتها على جانبي المتراس الفلسطيني - الاسرائيلي الصهيوني والاسرائيلي - العربي لن تتوقف ولن يتوقف التعامل مع خرائط التعارضات والتناقضات داخل المجتمع الاسرائيلي، وبين مسارات التفاوض العربية - الاسرائيلية، ولن يتوقف التنافس بين المصالح "القطرية الاقليمية" العربية... * الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.