أكثر ما يحرج مجرم الحرب ارييل شارون أنه آت إلى مسرح لن يستطيع أن يلعب فيه لعبة الحرب التي يتوق إليها، خصوصاً لتحقيق هدف إسرائيلي ملح: تغيير معالم "عملية السلام" وشروطها. فالأعداء العرب غير مستعدين لمنح شارون هذه الفرصة، حتى لو استفزهم سعياً إليها. فهم يدركون أنهم أضعف عسكرياً، وأقصى ما يستطيعون هو الدفاع عن أنفسهم من دون أوهام. لكن الأهم أنهم دخلوا - مع إسرائيل - في بحث عن صيغة سلام وأثبتوا جديتهم في ذلك، علماً بأن قرار الدخول في عملية السلام لم يكن سهلاً عليهم وأنه ارتكز أساساً إلى هزيمة "النظام العربي" بعد الغزو العراقي للكويت. كان هناك، إذاً، اعتراف بالهزيمة العسكرية، وبالأخص اعتراف للولايات المتحدة، قائدة التحالف العربي - الدولي في حرب تحرير الكويت، باستراتيجيتها القائمة على منع هزيمة إسرائيل وضمان تفوقها العسكري الدائم. لكن البحث عن السلام بدا أكثر تعقيداً من مجرد ترك موازين القوى العسكرية تقول كلمتها وتفرض معطياتها لانتاج هذا السلام. فالعناصر التي حققت لإسرائيل انتصارها العسكري استندت كلها على احتقار القوانين والمبادئ الدولية، وأي سلام لا بد أن يستند إلى أسس لا تزال الشرعية الدولية تعترف بها، ولا يمكن أن يكون سلام من دونها. كان الأميركيون في عهد بيل كلينتون، وبعض الإسرائيليين في حكومة ايهود باراك، يقولون "إن الطرفين لم يكونا أقرب إلى اتفاق سلام مما هما الآن". وكان ذلك يعني أن إسرائيل - باراك خطت خطوات مهمة نحو سلام يمكن أن يقبله الفلسطينيون، لكنها أحجمت عن اجتياز الميل الأخير الذي يعطي لأي اتفاق جوهره المعنوي والتاريخي، ويساهم في إقامة "سلام دائم وعادل". في الأسابيع المقبلة قد يقول الجميع إن الطرفين باتا أبعد ما يمكن من أي اتفاق. شارون يريد أن يسمع ذلك وإلا فإنه قد يعتبر نفسه فاشلاً يواصل فشل باراك. لأن الأخير اقترب من الاتفاق لأنه وضع على الطاولات أفكاراً من المستبعد أن يحافظ شارون عليها، بل أنه يرفضها وانتقد باراك على طرحها السيادة في القدس، ملف اللاجئين، مصير المستوطنات.... أكثر ما يزعج العرب ويقلقهم حالياً أن الإدارة الأميركية الجديدة لم توضح نياتها بعد في ما يتعلق بعملية السلام، في حين أنها لم تتأخر في ابداء توجهاتها حيال العراق، وحتى بالنسبة إلى التعامل مع إيران. والغريب أن الصمت المبرمج يكاد يوحي بأن إدارة بوش الابن تسعى إلى أن تكون غير معنية ب"مبادرة" أعلنها بوش الاب. وبمعزل عن استمرارية أو عدم استمرارية الاب عبر الابن فإن "عملية السلام" دخلت في صلب السياسة الأميركية. ويفترض أنها تقدمت لتقطف ثمرتها الأخيرة، ما يستوجب التدخل. والرئيس السابق كلينتون تدخل على طريقته، ووفقاً لعواطفه وانحيازه، وليس سراً أنه لم يوفق، لا في إدارة التفاوض ولا في توضيح مواقف واشنطن المبدئية ولا في استنتاجاته التي ارتكب فيها أخطاء في حق شعب لا يزال ينتظر الانصاف. لشارون حدود إذا شاء التصرف في إطار اللعبة الراهنة، أما إذا سعى إلى تخريبها فسيكون من الضروري ردعه. هذا يضع إدارة بوش على المحك، ولن تستطيع التذرع بضرورات حماية "أمن إسرائيل"، بل سيكون من واجبها تغليب استقرار المنطقة على طموحات مجرم حرب أصبح رئيساً منتخباً للوزراء. واقع الأمر أن عملية السلام رهنت الموقف العربي ب"نزاهة" الإدارة الأميركية، وهي نزاهة غير مضمونة، كما هو معلوم، لأن ترجمتها العملية تتطلب من هذه الإدارة التفاهم مع "الحليف" الإسرائيلي على ضرورة تلبية شروط السلام بدل الاحتيال عليها. مع شارون لا بد أن تغير الانتفاضة أساليبها أيضاً لتبقى فاعلة ومؤثرة ومؤهلة لإحداث تغيير. ومن أجل ذلك، لا بد أن تواكبها تغييرات على مستوى السلطة الفلسطينية، ولا بد خصوصاً من اعطاء مفهوم الوحدة الوطنية بعده العملي والتنظيمي. فالمرحلة الآتية صعبة وتنبغي مواجهتها بخيارات موجودة لكنها لم تتبع من قبل.