حين انفجرت انتفاضة القدس، وعلى اثر صور التقتيل والعنف في المناطق الفلسطينية المحتلة كما عرضت على الشاشات وتناقلتها وسائل الاعلام، شهد الوسط العربي في اسرائيل تظاهرات عنيفة شاهدها الجميع. غير انه ما ان وقعت انظار المشاهد العربي على هذه التظاهرات حتى سارعت الاصوات اياها في الاعلام العربي التي تتخذ من الصور التلفزيونية ركيزة وحيدة لتصوراتها، الى التحليلات التي افادت غالبيتها ان هذه الانتفاضة وحدت جموع الفلسطينيين في طرفي الخط الاخضر. لكن هذه الرياح تجري "بما لا تشتهي" سفن المحللين والمعلقين. فرغم ان التظاهرات العربية داخل اسرائيل شهدت حدة غير مسبوقة الا انها خبت سريعاً، في الوقت الذي تفاقمت فيه الانتفاضة الفلسطينية في المناطق المحتلة، وهي لا زالت مستمرة حتى هذه اللحظة في تلك المناطق. من هنا تكون تلك التحليلات التي صدرت عمن يحترفون الشعارات العاطفية قد ذهبت ادراج الرياح، اذ كيف يفسرون هذا الفصل الحاد بين الجمهورين رغم كل ما جرى ويجري في الاشهر الاخيرة؟ الحقيقة التي لا يريد هؤلاء حتى مجرد رؤيتها هي ان هنالك فصلاً تاماً بين الجمهورين. ويكفي ان نقول ان الانتفاضة الاولى في نهاية الثمانينات والتي استمرت سنوات لم تنتقل عبر هذا الخط الاخضر، واكتفت الاقلية العربية الفلسطينية داخل اسرائيل باصدار بيانات تضامنية وما الى ذلك من تعبيرات لا تشكل بأي حال مشاركة فعلية في اهداف الانتفاضة. ا لشعارات التي تطلق لوسائل الاعلام شيء، والحقيقة على ارض الواقع شيء آخر. الحقيقة التي لا يريد هواة الانشاء الوطني مواجهتها هي ان للاقلية العربية داخل اسرائيل اجندة اخرى غير تلك التي للفلسطينيين في المناطق المحتلة. هذه الاجندة لها في الواقع ما يبررها. فخلال كل العقود الاخيرة، بدءاً من عدم التفات احد الى هذه الاقلية والى ما آلت اليه، وانتهاء بأوسلو وما اعقبها من فصل أي عزل تام لهذا المجموع السكاني الكبير، وجدت هذه الاقلية نفسها اخيراً في خانة اسرائيلية باعتراف القيادات الفلسطينية "الوطنية"، والدول العربية الاخرى التي وقعت الاتفاقات مع اسرائيل، دون الاشارة بحرف واحد الى هذا الوجود العربي فيها اذا اعتبر جزءاً من الدولة الاسرائيلية. في السنوات الاخيرة، وبسبب الفراغ الهوياتي الذي احدثته القيادات العربية، والقيادات الفلسطينية في اوسلو، اضافة الى توجهات الحكومات الاسرائيلية المختلفة، اخذت هذه الاقلية تبحث عن شيء ما يسد هذا الفراغ، وهكذا طفت على السطح عدة توجهات. فمن جهة ظهر توجه لديها ينصب اكثر فاكثر في فلك الوضع الاسرائيلي الداخلي. ومن جهة اخرى، وبسبب الفراغ أي الاحباطات القومية بدأت تظهر لديها توجهات دينية اقليمية طائفية وحمائلية تحتمي فيها. علماً بأن الشأن القومي لم يكن في الاصل ذا جذور قوية باستثناء النزعة الشامية. هذه التوجهات جعلت بعض القيادات ذات التوجه القوموي، مثل حزب التجمع الوطني بزعامة عزمي بشارة، يدعون الى رفع شعارات ضد ما اطلق عليه توجه "الاسرلة" بين افراد هذه الاقلية. غير ان هذه "الاسرلة" هي اسرلة ذات وجوه متعددة. فهنالك الناس العاديون الذي لا يأبهون بما يشغل بال المنظرين مهما كانت توجهاتهم ونزعاتهم، فهم يبحثون عن الحياة، وهي غريزة طبيعية على كل حال. وهنالك الذين ينظرون الى حال هذه القيادات المتشرذمة داخل الاقلية العربية في اسرائيل فلا يجدون فارقاً يفرق بينها من ناحية الممارسة. فالواحد منهم ينتقل من حزب الى آخر دون ان يرف له جفن، حتى تحولت هذه الاحزاب الى بقالات سياسية يجتمع فيها من يبحث عن زعامة وعن راتب ولا بأس بأن يكون ذلك عبر الكنيست الاسرائيلي. اضافة الى ذلك، كيف يمكن لهذه التوجهات القوموية ان تفنع احداً حين تقف هذه القيادات هي نفسها على منصة الكنيست وتقسم يمين الولاء لدولة اسرائيل من جهة، وتتحدث ضد الاسرلة من جهة اخرى؟ كيف يفسرون هذه التناقضات اولا لانفسهم قبل ان يفسروها لمن يبحثون عن دعمه لهم؟ لا اتحدث هنا دفاعاً عن توجه دون الآخر فليس هذا هو الهدف الآن. انما احاول ان اضع بعض النقاط على حروف مبهمة تحاول جميع هذه الزعامات ان تطمسها، او ان تهرب من مواجهتها. فالناس صراحةً وبصورة عامة لا يأبهون بالشعارات المرفوعة حين يشاهدون الممارسات المناقضة على ارض الواقع. وها هي تلك القيادات التي تشتغل بالتنظير بعيداً عن الواقع الذي يعيشه الناس هنا، تواجه مأزقاً جديداً ستضطر الى تفسيره مستقبلاً، اذ انها ستجني خيبة امل من تصرفات الاقلية العربية في الانتخابات الاسرائيلية القادمة. ان دعوة هذه القيادات الى التصويت بورقة بيضاء تفترض كون الجماهير العربية مسيّسة الى ابعد الحدود. فالذي يتعب نفسه ويترك البيت ليقف في الدور عند صناديق الاقتراع من اجل ان يضع ورقة بيضاء في مغلف الانتخابات، يجب ان يكون ذا وعي سياسي عال، ويفهم دلالة هذا التصرف الاحتجاجي. غير ان قلة قليلة فقط قد تندرج ضمن هذه الفئة، بينما الغالبية ليست كذلك. لهذا السبب قد يفضل الكثيرون البقاء في البيت وعدم المشاركة في هذه الانتخابات. لكن هناك زاوية اخرى لم تنتبه اليها هذه القيادات. فمحاولاتها النظر الى باراك وشارون كما لو انه لا يوجد فارق بينهما ستدفع كثيرين من بين العرب في اسرائيل الى التصويت لشارون. اذ ما دام لا فارق بينهما فما المانع من ذلك؟ وهكذا سيرتمي كثيرون منهم في احضان شارون لأن الاستطلاعات تغلّبه على باراك، مفضّلين الاحتماء بالغالب طبعاً، خاصة وانه "لا فرق بين الاثنين" كما قيل لهم. وهكذا، ودونما قصد، وربما بسبب السذاجة السياسية، ستذهب شعارات التضامن مع الانتفاضة مرة اخرى ادراج رياح التنظير الذي لا يستند الى واقع تتحرك بموجبه هذه الاقلية المغلوبة على امرها.