اعتدنا ان نتخيل لقاءنا الأول بالغرب بتعابير "الصدمة"، وتعلمنا انه منذ "إصابتنا" بها، قمنا بأول ما توجب علينا، أي الخروج من الزمن الذي نسجناه عشية حصولها، على يد بونابرت وحملته الى الشرق. فتركنا وراءنا زمن "الانحطاط" الراكد والركيك لنسعى عبر نهضويينا للدخول في زمن الغرب الحديث المتقدم صاحب الوفرة والشكيمة. فرست في أذهاننا عادة لم ننفك عنها في ما بعد: عادة تناسي الماضي مهما قرب، بل معاملته غالباً وكأنه السبب في تقصيرنا عن "اللحاق" بالدرجة نفسها من الحداثة التي يتمتع بها الغرب. هكذا ألفنا مناخ الحدة التي وسمت اللحظات الأولى من اندلاع السجال بين "التقليديين" و"التحديثيين" من رجالات النهضة: وقد عملوا على رأب الصدع بين الأزمنة المعاشة وبين السبل أو الدروب المفضية الى تلطيفها، أو بالأحرى تحويل بعض احلامها الى حقيقة. ولكن، كل بحسب معتقده. الفصل بين التعليم الديني التقليدي والتعليم الزمني الحديث ساهم في تثبيت كلا المعسكرين ضمن أطر محددة. فمن هذا الفصل انبثقت مدارسهما الإيديولوجية والمؤسسية، وبه كتب لهما الدوام. أبناء التيار الأول، "التقليدي"، مهمشون بالأصل، هم من فوائض "التقليد" على حداثة شحيحة بالأساس، تقتصر جل خيراتها على أصحاب الامتيازات أو النخب ذات المشارب المتنوعة، أو المواهب الخارقة. فكانوا صارمي العداء للحداثة، وأحيوا تفسيراً للدين والتقليد هو الأبعد تواؤماً معها. هكذا انكبوا على "مقاومة" الحداثة، كانت في الواقع مكابرة لما أثرت بهم في غفلة من أمرهم، لشدة ما انتصرت على مجتمعاتنا. فبلغ بهم الأمر ان صار زمنهم عبارة عن زوج ذي فردين حميمين، يفترض بهما ان يكونا خصمين: الإسلام والحداثة، فثابروا على تحديث الإسلام عندما عصت عليهم اسلمة الحداثة. اختلاط آخر بالأزمان، من الصنف ال"حداثي" هذه المرة: فالذين يشبهون الغرب الحداثي أو يتشبهون به، يتقاسمون مع اترابهم من أبناء "التقليد" واقع الزمن المعاش في مجمل اوطانهم، الحاضر واليومي، او بحسب تعبيرهم زمن "التخلف"، يلفظونه بلا كلل، مستعينين من أجل ذلك بفلاسفة "الأنوار" الأوروبيين الذين صاروا أسلافاً في ديارهم...، لكنهم لا يرون في الأمر مأخذاً عليهم طالما هم ينتصبون دعاة للتنوير النهضوي، يدرأون خطر "ظلامية" الإسلام السياسي وروافده والتي تشد الجميع الى الخلف، الى العصور "الانحطاطية" المكروهة. اقتضى تحديثنا، المتأخر بقرنين أو ثلاثة عن الغرب، ان نختصر الزمن: فكانت الطموحات التحديثية الصعبة تتقوم بخطط وبرامج من التضحيات المختلفة: تغيرات دراماتيكية في انماط الحياة والسلوك والتفكير والتعبير، اكتساب عادات وطقوس خارجة عن سياقها. لكن التضحية الأهم كانت السعي من أجل حرية محمولة على أكتاف خشبية، تتصدرها الأوسمة والرتب أو كل ما ينتمي الى زمن الاستبداد والتسلط والعبودية. وفي الآن عينه كنا نسير بهدى الغرب الذي تكرس بأعيننا كنموذج اعلى للفكر والشأن السياسي العام: فكان لا بد لنا من تأسيس دولة حديثة، ولكن، بعد تسوية ملتبسة مع المرجعية التقليدية. وعلى نفس المنوال أنشأنا الأحزاب الحديثة، القائمة على الهوية المواطنية، لكننا اعتمدنا في داخلها على أكثر الأطر القمعية العائدة الى ما يفترض انه زمن "التقليدية": وكوّنا المثقف الحديث على شرعية المبدأ الخلدوني التقليدي، من ان المهزوم، لا بد ان يتماهى ويتشابه مع المنتصر، بمضامين وتعبيرات ولغة كلها حداثية. هكذا، أدرجنا سنواتنا في أزمنة ليست من صنعنا، وهدرنا أعمارنا وأعمار أسلافنا، فأدخلنا أزمنتنا بعضها ببعض في فوضى عارمة. ولم يكن لدينا ما يكفي من الوقت، لا للتمهيد ولا للاختبار ولا للإنضاج، مع اننا كنا بطيئين فجاءت حداثتنا مسلوقة سلقاً، مبعثرة ومزاجية. وما ان انتبهنا الى هذه الصفة لحداثتنا، وبدأنا نعي اخفاقنا مع هذه التجربة المعاصرة، حتى شعرنا بالحاجة الى هدنة، الى قرن على الأقل من الهدنة الزمانية. نكوّن خلالها تعريفنا لوقتنا، ولو كان ملحقاً، نضع له الإطار الممكن ونضفي عليه شخصيتنا: نحتاج ان نرتاح من اللهاث والتضحيات، فنخلد الى انفسنا لعلها تساعدنا على الإمساك ببعض وقتنا. ما ان بدأنا نشعر بهذه الحاجة اذاً حتى هبطت علينا العولمة، محمولة على زمنها التي تتكون أسطورته، وديانته ربما، من السرعة... اين منها الوتيرة الحداثية السابقة التي استشعرنا خطرها على أرواحنا؟ بعبارات أخرى حضرت العولمة وانتصرت كلما سرق المزيد من وقتنا تلك المادة التي نحتاجها، المتبقية لنا، بعدما أفرغنا من موادنا الخام الأولية. فالركيزة الأخلاقية التي تعتمدها العولمة هي التنافس من أجل الربح. وهي تنطلق من هذه الركيزة وتعمل من أجلها، معتمدة آليتين: التنميط أولاً، وهو توجه في الإنتاج، يكسب وقت المنتج بأن تتنامى وحدانيته وضخامته وتسلسل إنتاجه بحيث يصل الى السوق غير محتاج إلا لعرض بضاعته. إذ يكون الطلب عليها قد أعد بحملات الشراء التي تطاول كل شيء تقريباً... حتى الإيمان والصداقة والحب، فيتم الشراء وتتوسع بذلك دوائر تضييع الوقت. فوق كل هذا تود العولمة لو نطوي صفحة الحداثة، المقلقة والناقصة أصلاً، بأسرع ما يمكن. تود لو ننسى كم من التضحيات بذلنا من أجل بناء دولتنا، فتلح علينا بقويضها ونسيانها. تود لو ننسى ما بلغناه في خيالنا من تصورات للمعاصرة، فنعجز عن تحليلها ولا نفهم تماماً مقاصدها البعيدة. ثم تنجح في استبدال المثقف بالإعلامي فتيسر على نفسها التوغل في تصدعاتنا العميقة، فتصبح سهلة المنال. وبذلك تعود فتنشأ أطوار "انتقالية" جديدة، تضم صداها الى أخرى "انتقالية" سابقة، لم تنته وإن كان تذكرها صعباً. فتتضاعف بذلك حاجتنا الى تكوين ماض غير ذاك الذي ارتكزت عليه ذاكرتنا "الحداثية" الرغبة، ولكن غير حداثية التكوين... وإن لم نلب هذه الحاجة، وهذا أضعف إيماننا، فكيف نعبر العولمة سالمين؟ * كاتبة لبنانية مقيمة في القاهرة.