هل صحيح أننا مجتمعات ذات تقاليد راسخة، ليس في وسعها الانتقال بمرونة وثقة الى الحداثة، بسبب تمسّكها بماضيها وتقاليدها؟ وهل صحيح بالتالي ان عجزنا هذا يعود الى كوننا لا نحب الحداثة ولا نستسيغها بسبب تعارضها مع تقاليدنا التي نحبها ونجلّها ونودّ الحفاظ عليها؟. كلا، في الغالب الأعم. والارجح اننا في الوضع المقلوب تماما عن التصوّر السائد هذا. فلا تقاليد راسخة أو واضحة أو قوية عندنا. ولسنا مستمدّين منها قدرة على مواجهة التغيير الذي لا يعجبنا أو يتنافى مع اوضاعنا او مصالحنا. فالتقاليد في ثقافتنا تشبه الكتلة الهلامية الغامضة الحدود والتفاصيل والسمات التي هي التراث، التراث الذي حدّدناه بمرحلة من الشطر الاسلامي من تاريخنا، تقع تقريبا بين الدعوة النبوية الشريفة والعهدين الاموي والعباسي. وتضيق او تتسع هذه المرحلة بحسب شِيعنا الدينية - السياسية المختلفة، لكنها هي مكان تراثنا عموما، لا "نحيي" غيره إلا عند الضرورة ، السياسية هي الاخرى، والقاهرة دوما، فضلا عن اننا لا نعرف ذاك التراث الا بعيون "التراثيين" من بيننا، ذوي الالهام الاصولي. وقد رسخ منذ "النهضة" وبوتيرة متصاعدة هذا التحديد المكاني والزماني للتقاليد. و إن خرجت بعض الاقلام والاصوات حيناً عن هذه الوتيرة، لتعبّر عن حنينها السياسي الى المرحلة العثمانية "العثمليّة"، بحسب الرطانة، وأحبت ان تعود الى تقاليد امبراطوريتها الكبرى رفعاً للخلافة الاسلامية، فان الخط "النهضوي" هذا حافظ على تصاعده، حتى صار هذا التراث بالذات، والممتدة وقائعه بين الدعوة النبوية الشريفة و نهاية المرحلة العباسية، هو الخزان الوحيد والاطار الوحيد لتقاليدنا. وهذا سهّل ذيوع الاسلام السياسي، فزاد احتكار الدين للتقاليد، وتحول كل تقليد الى تقليد "ديني" حتى لو لم يكن له أية صلة به ختان البنات مثلا. وكل التقاليد بالتالي تستلهم رؤاها من المرحلة المُشار اليها، أي تلك الواقعة بين الدعوة المحمدية وأواخر الدولة العباسية. ولم تفلح للعودة عن هذا الاحتكار كل الجهود الضخمة التي بذلها علماء وكتاب وشعراء واختصاصيو فنون شعبية، في إبراز أو إحياء التقاليد غير الدينية. فانحراف معظمهم نحو الفولكلور والاكزوتيك، وطغيان موانع ومسالك الاسلام الاصولي، لم يسمحا لهم بايجاد التصوّر الاقرب الى التطابق مع التقاليد الزمنية المبتغاة. والتقاليد "الدينية" التي يدعو الاسلام السياسي الى تبنيها ليست "تقاليد"، بل هي تصورهم لها. اما القدر التقليدي فيها فلا يغدو أن يكون ضرورة تمليها قوة التغيرات الحاصلة. وهي احيانا إستجابة لإلحاح "الشارع" الاسلامي، الذي يحدس تماما وظيفة "التقاليد" من دون ان يدركها: فهي تحميه من التغيرات الحاصلة في حياته، وغالبها كالهجمات القاطعة والمؤلمة والضرورية. فيغرف من رموز هذه "التقاليد" و إشاراتها ما يطمئنه ويجعل غده محتملا، فلا تستطيع، بالتالي، الحركة المعروف انها "تقليدية" غير تلبية هذا الطلب. ومما ساعدها على التساهل في مضمون هذه "التقاليد" غموضها الاصلي والاعتياد على عدم التدقيق والسؤال عن مضامينها، وإطلاق ورشة "أسلمة الحداثة" على أية واحدة من هذه التغييرات التي لا بد منها. وهذا مع انه يكفي، مثلا، الفصل الذي يقيمه السيد محمد حسين فضل الله، أحد كبار المرشدين الروحيين للاسلام السياسي بين "التقليدي" و "الشرعي". فهو يفضل الثاني على الاول، اذ يقول إن على المسلم التقيّد بما هو "شرعي" بسبب كونه تعليماً ابدياً من عند الله، فيما "التقليد" هو صنيع المجتمع، وهو يتغيّر بتغير أحواله وأفكاره ومصالحه، ولا يمكن بالتالي الركون اليه. هذه الادلّة تضيف غموضاً الى الغموض الاصلي الذي يكتنف "التقاليد"، وتؤكد اننا لم نعرفها، لا قبل استنادنا اليها ولا اثناء مهاجمتنا لها، بسبب تعثّر حداثتنا أو إخفاقها صراحةً! لذلك نحن لا نعرف من "التقاليد" غير الركام: خليطاً من العناصر والصور والاشارات المستوحاة مما تمليه مناخاتنا الايديولوجية والمحدّدة زماناً ومكانا بالمرحلة "الذهبية" اياها، والتي بالكاد نلمّ بمعانيها، لما يجوده علينا مفسروها المعتمدون. ومن نتائج تلك العلاقة بالتقاليد، اننا لم نعرفها يوما بصفتها الشيء الذي نتذكره او يتذكره آباؤنا أو اجدادنا المباشرون... أي تقاليد قريبة الى ذواتنا، تحمل نكهة وجداننا وروائحه وصوره الحميمة. فلم نتدخل في صياغة تقاليدنا السائدة بحيث صارت غريبة عنا، مأخوذة عن أزمنة نجهلها، فوق اننا لم نألفها، فكانت بعيدة عن سيرتنا وسيرة آبائنا وأجدادنا. والأرجح ان مسار تاريخنا السياسي القريب ساهم في ترسيخ هذه العلاقة مع التقاليد: فكل زمن أتى، كل "عهد" كما شاع، كان يقطع مع السابق المباشر قطعا مبينا: النهضة "قطعت" مع الانحطاط، والحركات الوطنية والاشتراكية "قطعت" مع الاقطاع والاستعمار، والمرحلة الليبرالية الراهنة "قطعت" مع الوطنية. وكل مشروع تحديث أتى على انقاض "التقاليد" التي سبقته مباشرة فناصبها العداء القوي من دون ان يصفّي اسباب عيوبه، فعادت "التقاليد" ممسوخة، فاقدة للجذور والحياة. و"العهد" لم يكن منفصلا عن "الشخص" الذي وُضع على رأس زمانه. لذلك ارتبطت معظم مراحل القطيعة هذه بأسماء صانعيها: فلان من الرؤساء يبلغ المنصب، فيتحول إرث سلفه الى "حمل ثقيل" يستوجب التخلص منه، وهكذا حتى صار الامر اوتوماتيكيا، عاديا، لا يحتاج الى تردّد. ليس صحيحا اننا نحب التقاليد ونتمسك بها في وجه التحديث. وعدم حبنا للتقاليد بائن في مدننا مثلا، حيث تهدم الابنية العائدة الى التاريخ القريب، الابنية التي نتذكرها عن ايام طفولتنا وشبابنا، ويتذكرها آباؤنا واجدادنا، بسهولة ومن دون ضجة. وتطلع مكانها ناطحات السحاب المرصوصة بالاسمنت، والغريبة عن أيامنا، فيما تُخصّص الاموال وتُخاض الصراعات من أجل ترميم "تُحفنا" المعمارية المتبقية، ومعظمها من تاريخ غابر، وذلك إما لدواعٍ دينية صرفة أو "سياحية - دينية". أما الحجاب الرائج لنسائنا فلا يشبه هو الآخر الحجاب التقليدي الذي عرفته أمهاتنا وجداتنا والذي نتذكّره بشيء من الحنان والاعجاب لرقته وما يثيره من خيال. الحجاب الذائع غريب علينا وعلى صاحباته، يوصف عادة ب"الشرعي"، وهو مستوحى مما استقر في تصورنا من معان ل"السترة" و "حفظ العورات"، ومن فهمنا للعلاقة القائمة بين الناس. وهو ليس حجاباً "تقليدياً"، بل جديد وغريب. أما النقاب فأغرب منه، يفاجئك غالباً لأن ذاكرتك لم تتكوّن على معانيه أو ذوقه. أضف الى ذلك أشياء صغيرة اخرى، مثل علاقتنا بالوقت. فوقتُنا ليس بطيئاً متمهلا ومتأملا ورحبا، كما عرفناه لدى الكبار في طفولتنا. وهو نفسه الوقت الذي نناصبه العداء ونعتقده عائقاً امام تطور وقتنا "الحداثي". وقد جعلنا هذا الاخير متوترا، ضائعا، مهدورا، إعتقادا منا بأن التأمل والتمهل من "تعثّرات" التقاليد، وانه غير مضبوط بميعاد او مشروع او مجرد أمل، او انه مثل طعامنا، وطقوس أفراحنا وأتراحنا، والتي تتعدّل دائما بلا انتباه من جانبنا. هكذا نكتشف "تقليدا" من تقاليدنا! مثل زفّات العرائس الفخمة، التي يحاول الفقراء تقليدها، والتي تجري على نغمات موسيقى آخر الافلام الاجنبية! أو طُرُقنا في الاستهلاك التي تستشري في اكثر اوقاتنا طلبا للتأمل والصلاة ، في شهر رمضان، حيث تنفتح شهيتنا على الطعام والشراء وحضور التلفزيون... فلا نعود نسمع الطبّالين ولا المنشدين بين الازقة والاحياء. فقط التلفزيون أمامنا، ومسلسلاته "التقليدية" الرمضانية، مما أوحى لأحد فناني الكاريكاتور برسمةٍ تلخص الحال: رجلان يتسامران بعد الافطار حول الشيشة النرجيلة وخلف ظهر أحدهما تلفزيون مغلق، وهو يقول لسامره: "تِفْتِكر مين جِهْ جاء في الاول، رمضان واللاّ التلفزيون؟". إلا ان اخطر ما اصاب تقاليدنا هو تضَعْضع صلات القربى في ما بيننا وامتناعها عن القيام بإحدى وظائفها التقليدية، اي التضامن. بل كلما زادت الحاجة الى هذا التضامن، نتيجة الانهيارات والتغيرات الهائلة الطارئة على عيشنا، غابت هذه الصلات، أو وهنت. صلة الدم هذه، أو العصبية، المَمْقوتة عادةً، أبقت على شق واحد من وظائفها، أي خدمة المشروع السياسي للجماعة، وأهملت كل ما تبقى. وعندما تنتصر وتبلغ السلطة، تكون وظيفتها الوحيدة إرساء قانون توزيع مغانم هذه السلطة وألقابها ورُتبها. كل هذا، وهي محتجبة خلف مؤسسات "حديثة" ذات خطاب وحيد: خطاب "العوائق التقليدية" التي تحول دون "تطورها" أو "نموها". فكانت النتيجة، فقداننا الاحترام لذاكرتنا وتاريخنا القريب والمتوسط، مقابل تقديسنا للتاريخ الذي ثابَرنا على وصفه ب"الذهبي" حتى صدّقنا! لماذا؟ لسبب بسيط، هو اننا تركنا التقاليد تتسيّس بالفوضى العارمة التي تصيب عادة مختلف المشاريع السياسية، "المعارضة" و"الموالية". فاستفردت هذه المشاريع بها، وغاصت التقاليد في صَخَبها وديماغوجيتها، وأُخضِعت لمتطلباتها. هكذا أصيبت بعدوى الحرص على الغموض، فصرنا ننسى بتلقائية ما نستطيع تذكّره. ولا نتذّكر غير الذي يحتاج الى وسطاء لنفهمه، وأي وسطاء! هل التقاليد التي نحن في صددها، اي التقاليد التي تعرف ذاكرتنا بعض ملامحها وصورها وأشكالها، ضرورية؟ او بالاحرى، هل لهذا الصنف من التقاليد وظيفة حيوية او ذات فائدة؟ نعم... فمن دون ذاكرتنا القريبة والمتوسطة لا يسعنا أن نكون إلا مصنوعين من أصحاب زمننا. فبدل أن ينطبق علينا القول "كما تكونون يولّى عليكم"، يصير جائزاً أن يُعكس القول علينا، أي: "كما يولّى عليكم تكونون". وعندها لا تكون لدينا حرية ولا تدخل ولا إضافة لنا في فحوى مصيرنا أو معانيه... وبما ان زمننا زمن الحداثة السريع الوتيرة، فنحن نحتاج الى ذاكرتنا القريبة والمتوسطة ليكون لدينا الطاقة على فهمها ومناقشتها ومقارنتها بما سبق وقتنا القريب. فنخوض الصراع الذي تستحقه الحداثة، ونخرجه من اعماق ذواتنا الفردية الى الذات الجماعية، فيُخرج كل واحد منّا طاقته على التأمل والنقاش والاخذ والرد، حتى تتحول التقاليد الى عنصر إستمرارية لهذه الذوات، لا الى ذريعة تحجب أفقها، فتُفقدها أعزّ ما لديها، أي روحها.