بعد 43 عاماً من البث والريادة والمزاحمة، يقفل "تلفزيون لبنان" أبوابه أمام الموظفين ليخضع لفترة من "النقاهة" يعاد النظر خلالها في معطياته كافة، المادية والتقنية وو... والتلفزيون الذي كان مدرسة في الاعلام والاخراج والأداء والأعداد جعلته الحرب اللبنانية مؤسسة "خيرية" تَسابقَ المسؤولون السياسيون والحزبيون على "حشر" جماعاتهم داخل مبنييها "الشرقي" و"الغربي". وعشية اقفال هذا التلفزيون العريق كان لا بد من استعادة قضيته أو قضاياه وأبعاد هذا الاقفال القسري وبعض خلفياته. صوت الموظفين الذين تحلقوا الثامنة صباحاً في مدخل مبنى "تلفزيون لبنان" في تلة الخياط قرب موظف الاستعلامات الذي اشتعل رأسه شيباً، كان مرتفعاً حتى ليصل الى اذني الزائر قبل ان يصل الى المدخل. والنقاش الذي كان حامياً لم يكن الا بحثاً في المستحقات التي سيتقاضاها الموظفون انهاءً لخدماتهم اذ س"يقفل" التلفزيون نهاية الشهر الجاري بعد يومين بناء على قرار حكومي لاصلاح وضعه مالياً ووظيفياً، ويعاد اطلاقه شركةً جديدة بعد ثلاثة أشهر. وهذا الحل الذي تبلغ كلفته نحو 33 مليون دولارتعويضات صرف الموظفين، ما كان ليتم لولا توافر توافق سياسي بين أركان الحكم في لبنان، علماً ان مجالس الادارة التي مرّت على التلفزيون اقترحت حلولاً وأعدت دراسات لكن عدم توافر القرار والتوافق السياسيين حالا طويلاً دون حل مشكلة التلفزيون وهي أرهقت الخزينة وحالت دون تطوره. وارتفاع الصوت هذا لم يكن الا نقاشاً بينهم لاحتساب المستحقات التي جعلها عقد جماعي بين الشركة والموظفين كبيرة. لكن الموظفين الذين حمل معظمهم نسخاً من العقد الجماعي، الى الآن قبل يومين من الاقفال لم يفهموا تماماً ما هي حقوقهم ومستحقاتهم ولم يتسلموا أي ورقة تضمن حقهم خصوصاً بعدما أبلغوا "أنهم سيتقاضون نصف مستحقاتهم عند اقفال التلفزيون، والنصف الباقي بعد ستة أشهر"، بحسب أحدهم. والموظفون في التلفزيون قد توصف حالهم بحالين: فرح بمغادرة التلفزيون، وقلق على مستقبله. فالفرحون هم الذي امضوا في العمل أكثر من 30 سنة اذ سيتقاضون تعويضات يصل بعضها الى 500 ألف دولار. أما القلقون فهم الذين أمضوا في العمل سنوات قليلة ولا يزالون في أوج عطائهم وعليهم البحث عن عمل جديد. و"الخواجة" موريس 60 عاماً رئيس قسم الارشيف الذي جلس خلف مكتبه في غرفة صغيرة رُصّت فيها الافلام، يشاهد محطة التلفزيون على جهاز صغير انار عتمة الغرفة، لم يبدُ عليه الحزن بعدما أمضى في التلفزيون أربعين عاماً. وهو ذاهب الى منزله ليرتاح ولم يأخذ معه من الشركة سوى وريقات صغيرة دوّن عليها أرقام هواتف زملاء له لأنه لن يراهم مجدداً. وهذا الأمر يأسف عليه. وعن ذكرياته في العمل يقول "ذكرياتنا مؤلمة. لم تعد لنا ذكريات بعدما أصبحت أليمة". ووجود مكتبه الخواجة موريس قرب الكافتيريا التي لم يكن فيها من الزبائن سوى اثنين، كان مناسباً ليمر به موظفون ويتحدثوا الى "الحياة" حين كان في مكتبه. ومعظم هؤلاء من الشباب. لكن حديثهم يُلخص في آمال يعقدونها على ان يكونوا في عداد موظفي الشركة الجديدة. واذ أمل المصور الصحافي محمد عبد الحميد رمضان بأن يعود الموظفون "الذين ضحوا بدمائهم وحياتهم اثناء الحروب والاجتياحات الاسرائيلية التي شهدها لبنان"، اليه بعد اعادة تأسيسه، تمنى طوني كرم على المسؤولين ان "يعينوا مجلس ادارة جديداً من اناس كفيين ينهضون به". واذا كان رمضان يؤكد انه لن يعمل في أي مؤسسة أخرى اذا لم يوظف مجدداً في التلفزيون "لا أستطيع ذلك. واذا لم أوظف فليس أمامي سوى الهجرة"، فان موظفين آخرين بدوا قلقين على مستقبلهم. وياسر غازي وهو مراسل للتفلزيون، جاء أمس باكراً وأمضى وقتاً في غرفة المونتاج يأخذ - بعدما حصل على أذن من الادارة - نسخاً من تحقيقات أعدها ليضمها الى سيرته الذاتية. وغازي الذي يعمل في الشركة منذ ست سنوات، صنف نفسه من "المتعاملين" في التلفزيون. وهو على رغم علمه ان لا بث بعد يومين الخميس يحضر نفسه للسفر مع رئيس الحكومة رفيق الحريري غداً الاربعاء الى الاردن "لكنني محتار، لمن سأعطي الرسالة؟". وهل يعاد فتح التلفزيون؟ قال "تعودنا في هذا البلد على المفاجآت، وكلام الليل يمحوه النهار. المسؤولون أكدوا اعادة فتحه لكن القلق موجود". وتأييد غازي للخطوة التي اتخذتها الحكومة في اصلاح الشركة، أكد كثر سواه. وقالت ندى الحوت وهي محررة في قسم الأخبار، انها تؤيد هذه الخطوة "لأن هناك محسوبيات وأشخاصاً لا كفايات لديهم في مراكز قوة ما لا يفسح في المجال أمام كفيين". ويكاد يكون أفضل تشبيه لمشكلة التلفزيون ما قاله رئيس مجلس ادارته السابق فؤاد نعيم ل"الحياة": "كأنه مصغر عن لبنان، أي انه كان مزدهراً قبل الحرب وأثناءها تضررت هيكليته ومعداته وسرق. وهكذا التلفزيون كان مزدهراً وأثناء الحرب تضرر ودخله مثل كل المؤسسات في لبنان، بعض الموظفين غير الكفيين بحكم سلطة الميليشيات. لا يمكن "اقفال" لبنان وبناؤه مجدداً بل يمكن اقفال التلفزيون وبناؤه مجدداً على رغم انه كان أعرق مؤسسة في الشرق الأوسط اذ تأسس في العام 1958". واذ أشاد نعيم بهذه الخطوة ولم يعتبر ان "الدولة تخلت عن التلفزيون تبعاً لهذه الاسباب"، فان ما كان سائداً لدى الرأي العام ونشر في الصحف، ان "تخلي الدولة الحكومة والمجلس النيابي عن حقوق هذا التلفزيون لمصلحة تلفزيونات تجارية اخرى يملكها مسؤولون فيها، والمصاريف المتزايدة تستكمل حلقة العجز المالي والفني وانعكاس كل اوضاعه على ادائه الثقافي والسياسي". ويدفع التلفزيون رواتب مليون و300 ألف دولار، في حين ان مردود الاعلانات التلفزيونية في السوق المحلية اللبنانية يقدر سنوياً بنحو 50 مليون دولار تذهب 40 في المئة منها لشركات الاعلانات و60 في المئة لكل محطات التلفزيون في لبنان. واذا اضيف الى كلفة الرواتب كلفة البرامج والانتاج نحو 700 ألف دولار، فان التلفزيون ينفق شهرياً مليوني دولار وهذا ما يجعله في حاجة الى دخل يقدر بنحو 24 مليون دولار سنوياً في حين ان السوق الاعلانية تنتج 30 مليوناً، لا تبلغ حصة التلفزيون منها الربع أو ربما أقل. ولعل هذا ما يوقعه فعلياً في عجز دائم. وأمام هذه الكلفة العالية يمكن ان تعمل مؤسسة تلفزيونية ناجحة بمليون دولار كلفة الرواتب والبرامج وتكون فضائية وأرضية في آن، وتحقق أرباحاً بدلاً من العجز الذي يقع فيه التلفزيون. فقانون الاعلام المرئي والمسموع الذي اقترحته الحكومة ووافق عليه المجلس النيابي، لحظ الغاءً للحق الحصري الذي كان لتلفزيون لبنان في الفضاء اللبناني، من دون تعويضات تدفعها له الشركات التلفزيونية المرخص لها. واستتبع هذا الامر سحب الكثير من الدعاوى القضائية التي كان ربحها تلفزيون لبنان ضد مؤسسات اعلامية اعتدت على حقوقه في برامج بثتها وكان له الحق الحصري في بثها في فترة الفوضى، وأدت الى خسارته مدخوله الاعلاني. وما ادى الى سحب هذه الدعاوى تعهد الحكومة امام مجلس النواب اثناء اقرار قانون الاعلام الطلب الى تلفزيون لبنان سحب الدعاوى، واضطر التلفزيون الى الاستجابة، وخصوصاً بعد ان تملكت الدولة كل اسهمه بعدما كانت مناصفة بين الدولة والقطاع الخاص. والمشكلة الثانية التي رزح تحتها تلفزيون لبنان تتمثل في عدد موظفيه نحو 500 موظف، الذين تشكل مصاريفهم السنوية نحو عشرة ملايين و200 ألف دولار، اي ضعف الانتاج الاعلاني للتلفزيون. وأما تضخم عدد الموظفين فاسبابه عدة واهمها العقد الذي وقعته ادارته عام 1989 مع نقابة عمال التلفزيون. ومع توالي الادارات عليه، ورغبة كل منها في فريق اعلامي خاص بها تضاعف عدد الموظفين حتى بات يشكل ضعف الحاجة. ناهيك بالموظفين الذين "دخلوا" التلفزيون تحت غطاء من بعض الاحزاب خلال الحرب. وواجه التلفزيون مشكلات منعته من الافادة من إمكانات متوافرة له وغير متوافرة لغيره، كالأرشيف. فالمادة الارشيفية في العمل التلفزيوني عنصر أساس ومن دونها يصعب ان يستقيم. ويقول المختصون ان لا معنى لأي معلومة تبث عبر التلفزيون من دون ان تكون مقرونة بصورة لأن الأرشيف بمثابة الذاكرة الحية. لكن جزءاً كبيراً من أرشيف تلفزيون لبنان سرق اثناء الحرب وبيع الى مؤسسات اعلامية كانت تعمل في حينه. وبعض هذا الارشيف يعلوه غبار الأهمال والفوضى و"الشيخوخة". وبعدما اتخذ القرار الحكومي بالاقفال اتخذت اجراءات أمنية في المبنى الذي يوجد الأرشيف فيه في الصنائع، ويخضع الخارجون للتفتيش حفاظاً على ما بقي منه. والمشكلة التي عاناها هذا التلفزيون ليست مالية او ادارية، بل سياسية وإعلامية. فبين ان يكون تلفزيوناً عاماً او تلفزيوناً رسمياً، كان يتخبط في عدم قدرته على منافسة غيره، خصوصاً على مستوى البرامج السياسية والاخبار، لان هامش الحرية متروك لغيره، فيما كان هو مكبّلاً بولائه للدولة بل اكثر من ذلك بتجاذبات أركانها... واذ تجرى اليوم عملية جرد واسعة لكل موجودات التلفزيون، في حين ينهمك الموظفون في أخذ اشيائهم الخاصة، فان الأمل من الخطوة هذه والتلفزيون العتيد ان يكون تلفزيوناً عاماً ويعنى بشؤون الناس. واذا لم يأتِ كذلك فهو يبقى أمام احتمالين: اما ان يعود تلفزيوناً رسمياً يعنى بشؤون اركان الحكم واخبارهم، وإما ان يبقى مقفلاً ولا يعاد تأسيسه.