تحظى ايرلندا باقتصاد حيوي سريع التمدد وأنفقت بلايين الدولارات على تحسين البنية التحتية لقطاع الأعمال مدفوعة جزئيا بعضويتها النشطة في الاتحاد الأوروبي ومهارات مواطنيها وموقعها الجغرافي ولغتها، كما أصبحت عاصمتها السياسية دبلن مركزاً دولياً مهماً للخدمات المالية. وحتى ثلاثة أعوام خلت كان من المعلوم تماما أن من يرغب بتأسيس شركة "أوفشور" لدى واحدة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سيجد الفرصة لتحقيق غرضه من طريق تأسيس شركة ايرلندية "غير مقيمة". وكان من شأن ذلك أن يتيح للمرء الحصول على الميزات التي تتمتع بها شركات الأوفشور المقامة في الملاجئ الضريبية التقليدية مثل "تشانل ايلاندز" أو "ايل أوف مان" أو حتى "بريتش فيرجن آيلاندز"، إلا أن إنشاء شركة ايرلندية غير مقيمة كان يتيح أيضا الحصول على شركة تقع داخل الحدود الجغرافية للاتحاد الأوروبي وتملك عنوانا في دبلن. ولم تكن ايرلندا ذائعة الصيت في ما يتعلق بشركات الأوفشور فقط بل كانت أيضا ذات شهرة واسعة كمركز رئيسي للاستثمارات المتعددة الجنسية، بسبب المعدل المنخفض من ضرائب الشركات الذي طبقته منذ عام 1980 بواقع عشرة في المئة على نشاطات اقتصادية محددة مثل الصناعات التحويلية وتطوير برامج الكومبيوتر والخدمات المالية الدولية. واعترض الاتحاد الأوروبي على حصر تطبيق المعدل الضريبي المنخفض في نشاطات اقتصادية محددة معتبرا ذلك عملا غير منصف من جانب ايرلندا، التي رأى أنها بعملها هذا تحابي قطاعات محددة من اقتصادها وتسيء في الوقت نفسه إلى الوضع التنافسي للقطاعات المماثلة في الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد التي تخضع لمعدلات ضريبية أعلى. ووصف الاتحاد المعدل الضريبي المنخفض بأنه منافسة ضريبية غير عادلة. وعوضا عن الاستجابة لضغوط الاتحاد الأوروبي بإخضاع الصناعات التي ترغب في اجتذابها للمعدل الضريبي المرتفع الذي تخضع له الصناعات الأخرى، تبنت الحكومة الايرلندية سبيلا بديلا إذ خفضت معدل ضريبة الدخل التجاري للشركات الايرلندية إلى 12.5 في المئة ما يعتبر أقل معدل ضريبي من نوعه يطبقه أي بلد لا يعتبر نفسه ملجأ ضريبيا. وتعامل غالبية البلدان ذات النظم الضريبية المتقدمة "المرتفعة" الدخل التجاري للشركات وفق معدلات ضريبية تراوح من 30 إلى 40 في المئة وفي المحصلة عمق المعدل الضريبي المنخفض الذي تبنته سلطات الضرائب الايرلندية من قدرة ايرلندا، ودبلن على وجه الخصوص، في مجال اجتذاب مشاريع الأعمال والشركات. ووفق ما هو معتاد في القوانين الضريبية يتضمن القانون الايرلندي قيوداً لا بد من التنبه لها. وحري بكل من يريد مزاولة نشاط تجاري عالمي انطلاقا من شركة ايرلندية مقيمة بذل قصارى جهده لضمان أن يكون دخل هذه الشركة من النوع المطلوب، إذ أن الدخل الناتج عن عمليات استثمارية لا يؤهل الشركة للاستفادة من المعدل الضريبي المنخفض. وينطبق هذا أيضا على الدخل الناجم عن عمليات خارجية. ولتفادي دفع الضرائب وفق معدلها العادي الذي يحسب بواقع 25 في المئة لا بد أن يأتي دخل الشركة من نشاط ذي طبيعة تجارية. ومن الصعب القول بدقة ان هذا النشاط تجاري بحت وذاك غير تجاري. وكمثال على ذلك يمكن لشركة ما أن تتعامل بأصول ذات طبيعة فكرية وتجني عوائد من الامتيازات التي تمنحها للشركات الأخرى، ويمكن أن يعتبر نشاطها تجارياً في حال تمكنت من الاستمرار في توسيع تطبيقات أصولها الفكرية. لكن يمكن أيضا القول ان هذه الشركة انما تمارس في الواقع نشاطا استثماريا وتجني عوائد ذات طبيعة استثمارية بحتة. وعليه يغدو من الضروري التأكد قبل إنشاء شركة ايرلندية مقيمة أن الدخل الذي ستجنيه سيؤهلها للاستفادة من المعدل الضريبي المنخفض. وتحرص الحكومة الايرلندية حسبما هو متوقع على ضمان عدم استخدام الشركات الايرلندية مجرد قنوات من قبل الشركات الأجنبية التي ترغب في تمرير أرباحها عبر دبلن بالاستفادة من التسهيلات الضريبية، وترغب في أن تنال دبلن والاقتصاد الايرلندي بعض المنافع وتعمل بالتالي على تشجيع الشركات الأجنبية على إقامة وجود نشط لها في ايرلندا. وعلى رغم أن تعريف النشاط التجاري غير واضح تماما في قوانين الضريبة الايرلندية إلا أن السلطات تفسره على أنه "شركة ذات نشاط". وفي اطار هذا التفسير فإن مجرد إنشاء مكتب مسجل وتعيين مجلس إدارة مهمته مهر القرارات التي يتخذها أصحاب الشركة المقيمون في الخارج بخاتمه الصوري، لا يكفي. ويقول ديرموت كلارك شريك مؤسسة "إرنست آند يونغ" الدولية للمحاسبة في دبلن موضحا: "تقدم الشركات الايرلندية المقيمة للشركات العالمية الراغبة في إنشاء قواعد لها في ايرلندا فرصا عظيمة لتنظيم شؤونها الضريبية. وتستفيد هذه الشركات من تسهيلات ضريبية على الدخل التجاري تتمثل في تطبيق معدل ضريبي منخفض لا يتعدى 12.5 في المئة، إلا أنه من الأهمية بمكان ضمان أن يكون الدخل الذي ستجنيه الشركة المراد إنشاؤها في ايرلندا من النوع الذي يؤهلها للاستفادة من المعدل الضريبي المنخفض". ونبه ديرموت إلى الضرورة القصوى لضمان أن "تزاول الشركة المراد إنشاؤها نشاطها من وجهة نظر تجارية وألا يزيد التخطيط الضريبي من صعوبة إدارتها ويجعلها في نهاية المطاف أقل قدرة على جني الأرباح". وقال: "أتيح في الماضي إنشاء شركات غير مقيمة في ايرلندا ما سمح باستخدام الشركات الايرلندية أداة رئيسية من أدوات التخطيط الضريبي المعتمد على مبادئ الاوفشور وذلك على رغم عدم وجود أي علاقة حقيقية بين هذه الشركات وبين ايرلندا. وتغير الوضع الآن وتوسعت ايرلندا في تسهيلاتها الضريبية وبمقدورها الآن تقديم ميزات جدية للشركات التي ترغب في أن تكون لها قاعدة في الاتحاد الأوروبي وتحديداً ضمن منطقة اليورو وأن تتمتع بمعدلات ضريبية تقل كثيراً عن المعدلات المتوافرة في أماكن أخرى". ويعتبر المعدل الضريبي الذي تدفعه شركة ما إزاء دخلها التجاري عاملاً مهماً في تخطيط شؤونها الضريبية، لكنه من الضروري أيضا تقرير الطريقة التي سيتم بها اخراج الأرباح وتوزيعها على المساهمين بعد تسديد ضريبة الشركات. ولا تختلف ايرلندا عن غيرها من البلدان إذ أنها تجبي ضريبة محتبسة عن الأرباح التي توزع على مواطنين تابعين لدول لا تقيم معها اتفاقات تمنع الازدواج الضريبي. وتقيم ايرلندا شبكة واسعة من اتفاقات عدم الازدواج الضريبي المعقودة مع عدد كبير من البلدان الشديدة الاختلاف. لكن في حال أراد أحد مواطني بلد لا يقيم ترتيبات من هذا النوع مع ايرلندا الحصول على حصته من أرباح أسهم يملكها في شركة ايرلندية فسيتوجب عليه دفع الضريبة المحتبسة التي تحسب بواقع 20 في المئة. ومن الواضح أن هذه الضريبة مرتفعة ويمكنها أن تقضي على المنافع المستفادة من التسهيلات الضريبية. وليس توزيع أرباح الأسهم الطريقة الوحيدة المتاحة لاستخراج الأرباح من شركة ما، إذ هناك أيضا فواتير الخدمات التي تقدم للشركة في البلدان الأخرى وكذلك كشوفات الرواتب التي تدفع لمستخدمين يعملون لحساب الشركة. وتشكل كل هذه الترتيبات وطريقة إعدادها جانبا من الخطة الضريبية الواجب تبنيها عند تأسيس شركة ايرلندية مقيمة. وتتوافر للشركات الأجنبية الراغبة في إقامة فروع لها في ايرلندا ميزات مهمة. ويقضي القانون الذي يحكم الطريقة التي تعامل دول الاتحاد الأوروبي بها هذه الفروع ضريبيا أنه عندما يتم دفع الضريبة في ايرلندا وتحويل الأرباح إلى الشركة الأم التي تتخذ مقرها في بلد آخر من بلدان الاتحاد يغدو من غير الممكن تطبيق أي ضريبة إضافية. وتمثل هذه فرصة ممتازة للتخطيط الضريبي على رغم أنها لا تحظى بقبول عام في الدول الأوروبية الأخرى. وليس من المستبعد أن تتعرض القوانين المحلية في هذه الدول للتعديل بعد فترة من الزمن وذلك لضمان تقييد الفرص الضريبية التي تتيحها الشركات الايرلندية المقيمة وتحصر عملية جني الأرباح في ايرلندا. وكانت ايرلندا خلاقة في تطوير كل من قانوني الضريبة والهجرة الأوروبيين. لكن المؤسف أن برنامج الهجرة الايرلندي الذي كان يتيح للمرء استثمار مبلغ ضخم من المال والحصول في المقابل على جواز سفر ايرلندي يعطي حامله الحق في الاقامة في أي بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي تم ايقاف العمل به. وتبقى ايرلندا مع ذلك مركزا خلاقا يجتذب من كل أنحاء العالم شركات الكومبيوتر والفنانين والكتاب وكل من يريد العمل في بيئة هادئة ليبرالية. ويبدو أن ايرلندا ستستمر في الاستفادة من عولمة قطاع الأعمال كما ستستمر الشركات العالمية في السعي الى اقامة المشاريع في مراكز مالية محترمة ذات أسس متينة ومعدلات ضريبية منخفضة. وعلى رغم أن فقاعة الانترنت التي دأبت على تقويم أسهم شركات الانترنت بمضاعفات لا نهاية لها من معدلات الأرباح انفجرت، إلا أن الانترنت لن تختفي من السوق. وتعمل شركات الانترنت في سوق دولية بكل ما في الكلمة من معنى، إذ أن مقر شركة الانترنت ومكان إيداع خوادمها لا يعني الزبائن في قريب أو بعيد ولا يعتمد اختيار موقعه إلا على أمور بعينها، مثل معدلات الضريبة والبنية التحتية ومدى مواءمة المكان لأصحاب الشركة وطبيعة نشاطها. وستظل بلدان مثل ايرلندا التي تتيح معدلات ضريبية منخفضة لكنها لا تعتبر ملجأ ضريبيا تقليديا وجهة مفضلة لشركات الانترنت. ويبدو من المحتمل أنه في غضون السنوات العشر أو ال15 المقبلة ستصبح الملاجئ الضريبية التي تستخدم عادة لخفض الالتزامات الضريبية أو تجنبها كليا مثل "تشانل ايلاندز" أو "ايل أوف مان" أو حتى "بريتش فيرجن ايلاندز" أقل مواءمة مع تزايد الضغوط التي تواجهها. ويبدو من المحتمل أيضاً أن الأشخاص والشركات من دافعي الضرائب الراغبين في خفض التزاماتهم الضريبية سيحتاجون مستقبلا للاستفادة من التنافس الدولي على اجتذاب الاستثمارات والشركات، بدل البحث عن الجزر المعزولة ذات المجتمعات الصغيرة التي تتواجد خارج العالم المالي المحترم والمنظم. * محام لدى مؤسسة "داونز سوليسيترز" في لندن ومستشار قانوني في الأمور المالية والأعمال والضرائب والهجرة. هاتف: 0207-936-2818 فاكس: 0207-936-281 [email protected]