لمناسبة تنظيم استفتاء شعبي عام على التعديلات الدستورية، المتزامن مع اجراء أول انتخابات للمجالس المحلية في محافظات الجمهورية اليمنية ومديرياتها تقرر عقدها في 20 شباط فبراير الجاري، تقدم مواطن يمني يهودي الديانة يدعى عازر ابراهيم بطلب ترشيح نفسه لعضوية المجلس المحلي في مديرية ريدة في محافظة عمران التي تبعد 115 كيلومتراً شمال العاصمة صنعاء. ويقدر عدد اليهود اليمنيين الذين بقوا في بلادهم بنحو 250 يعيش اغلبهم في محافظة عمران. ويعتبر عازر ابراهيم المرشح الوحيد من ابناء طائفته، وواحداً من بين 21577 مرشحاً ممن تقدموا بطلبات ترشيح لهذه الانتخابات. فاذا كان طلب الترشيح هذا يعتبر الأول من نوعه منذ بداية الانتخابات العامة في دولة الوحدة، فان اكثر ما أثار الانتباه اليه على المستوى الداخلي ان عازر ابراهيم رشّح من حزب المؤتمر الشعبي العام الحزب الحاكم، ورفض اللجنة العليا للانتخابات قبول هذا الترشيح بحجة عدم استيفائه لشروط الترشيح وفقاً لنصوص قانون الانتخابات المعدل وقانون السلطة المحلية. والأغرب في القضية ردود فعل بعض اجهزة الاعلام العربي من خلال ما جاء في مقالة داود الشريان في "الحياة" بتاريخ 31 كانون الثاني يناير الماضي تحت عنوان "تطبيع المسيار"، وتم نقاش المقالة في برنامج "بلا حدود" في قناة "الجزيرة" الذي خصص بالمصادفة لموضوع "التطبيع في الخليج والجزيرة العربية" واستضاف الدكتور عبدالله النفيسي رئيس المؤتمر الشعبي الخليجي لمقاومة التطبيع مع اسرائيل. نتوقف بداية عند مقالة داود الشريان الذي أثار الدهشة والاستغراب حين رأى في طلب ترشيح المواطن اليمني اليهودي لعضوية المجلس المحلي في مديريته انه يمثل شكلاً من اشكال التطبيع! ومن الواضح ان إلصاقه اصطلاح التطبيع على هذه الواقعة يعتبر تحريفاً لمفهوم التطبيع بمعناه البسيط. فالتطبيع بأشكاله المختلفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع الكيان الصهيوني أمر مرفوض شعبياً في اليمن رفضاً مطلقاً طالما ان الحقوق الفلسطينية والعربية لم يتم استردادها كاملة غير منقوصة، وحتى في حال استردادها فان طبيعة الصراع بين العرب والصهيونية سيظل قائماً ويشكل أكبر التحديات التي يواجهها العالمان العربي والاسلامي في ظل العولمة. فاذا كانت الحكومة اليمنية قامت فعلاً قبل سنوات طويلة بالتطبيع سراً وعلناً تحت حجج واهية كالسماح لليهود من اصول يمنية بزيارة اليمن، لم تنجح في خداع الشعب اليمني وقواه السياسية الوطنية والقومية، فانه من المقرر أيضاً ان تبوء بالفشل وجهة النظر الداعية الى اعتبار اعطاء اليمني اليهودي حقوق المواطنة المتساوية كبقية المواطنين يشكل مظهراً من مظاهر التطبيع مع اسرائيل. فالمسألة هنا لا تتعدى رفض التمييز بين المواطنين حسب معتقداتهم الدينية، وذلك حتى لا تضاف مشكلة اخرى تعاني منها دولة الوحدة في غياب التمثيل السياسي العادل بين مختلف مناطق الجمهورية اليمنية من جهة وبين فئات المجتمع اليمني من جهة اخرى. فكما هو معروف انه بعد الحرب الأهلية ومحاولة الانفصال الفاشلة أحسّ مواطنو المناطق الجنوبية ما كان يشكل في السابق اليمن الجنوبي بأنهم مهمشون سياسياً مقارنة بالمحافظات الشمالية. والمؤسسات الحزبية ذات المنشأ الجنوبي كالحزب الاشتراكي اليمني الذي ساهم باسم دولة الجنوب في قيام دولة الوحدة بات اليوم مهدداً بالحل، والمصير نفسه قد يطاول احد اقدم الاحزاب السياسية اليمنية الذي تأسس منذ الخمسينات في فترة الاحتلال البريطاني للجنوب، نعني "حزب رابطة أبناء اليمن" اكثر الاحزاب اعتدالاً. والى جانب التمييز على مستوى المناطق بين الشمال والجنوب، يوجد ايضاً تمييز يصل الى حد التمييز العنصري في تركيبة المجتمع في المحافظات الشمالية قبل الوحدة وبعدها، وذلك بعدم اعطاء ابناء منطقة تهامة الزراعية وأغلبيتهم ممن يسمون "بالاخدام" ما يستحقونه من المشاريع الانمائية. وكذا أيضاً موقف المؤسسات الخدمية الحكومية في معاملتها التمييزية نحو المهاجرين اليمنيين العائدين من هجراتهم في افريقيا من الصومال والحبشة، ناهيك عن تقاعس مؤسسات الدولة بالاقرار بحقوق المغتربين السياسية في المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية او الاستفتاء في دول الاغتراب، وذلك على رغم وعود القيادة السياسية بتصحيح هذا الوضع، ومن تاريخه تم ادخال عدة تعديلات على قانون الانتخابات وإجراء انتخابات رئاسية ولم يؤخذ مطلب المغتربين اليمنيين المشكلة هنا ان الاطراف المنتصرة في حرب صيف 1994 فرضت نموذجها السياسي المتمثل سابقاً بما كان سائداً في الجمهورية العربية اليمنية، على دولة الوحدة. فأدخلت اضافات على المبادئ التي أقرت على مشروع التعديلات الدستورية قبل الحرب، وجاء تحريفها بعد الحرب ليتوافق مع فلسفة المنتصرين. فقد عدل نص المادة 27 من دستور الوحدة الذي قامت عليه دولة الوحدة في 22 أيار مايو 1990: "ان المواطنين جميعهم سواسية امام القانون وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو المهنة أو المركز الاجتماعي أو العقيدة". واستبدل النص في تعديلات الدستور بعد حرب عام 1994 وأخذ ما يقابله من نص كان موجوداً في دستور الجمهورية العربية اليمنية "المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة"، والغيت بقية نص المادة 27 من دستور الوحدة. وتناول التعديل ايضاً شروط الترشيح لعضوية مجلس النواب حيث اضيف شرط جديد لم يكن مطلوباً في دستور الوحدة والمتمثل بأن يكون المرشح مؤدياً للفرائض الدينية، على رغم هذه الاضافة فإن هذا الشرط يظل مع ذلك أفضل من الشرط الجديد الذي اضيف الى شروط الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية بأن يكون المرشح "محافظاً على الشعائر الاسلامية"، وهذا لم يرد من بين شروط الترشيح في نظام مجلس الرئاسة. فإذا كان شرط العضوية لمجلس النواب الذي أضيف بعد التعديل مفتوحاً من دون تمييز بين المواطنين الذين يرغبون بترشيح أنفسهم لمجلس النواب بأن يكون المرشح مؤدياً للفرائض الدينية، اسلامية أو مسيحية أو يهودية فإن شرط المحافظة على الشعائر الاسلامية يستبعد من الترشيح المواطنين غير المسلمين. وانطلاقاً من هذا الشرط الأخير في الدستور لمرشحي الرئاسة الذي استنسخه المشرع في تعديل رابع أو خامس لقانون الانتخابات وقانون السلطة المحلية في ما يخص المرشحين لعضوية المجالس المحلية رفضت اللجنة العليا للانتخابات طلب ترشيح عازر ابراهيم لأنه غير محافظ على الشعائر الاسلامية، لسبب بسيط انه غير مسلم. لا حاجة هنا الى التذكير بأن هذا الرفض مخالف لنصوص الدستور القائم على رغم الانتقاص الذي ادخل عليه بعد تعديلات عام 1994. فالمادة 40 أكدت على المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، والمادة 42 أكدت على ان للمواطن حق الانتخاب والترشيح وابداء الرأي في الاستفتاء على ان ينظم القانون الاحكام المتعلقة بممارسة هذا الحق. فإذا كانت هذه المادة أجازت للمشرع العادي تنظيم الحقوق السياسية الثلاثة بما نصت عليه من أن ممارسة هذه الحقوق تكون وفقاً لأحكام القانون"، فإنه كما قضت المحكمة الدستورية في مصر في حكمها بتاريخ 19 أيار مايو سنة 1990 "انه يتعين عليه ان يراعي في القواعد التي يتولى وضعها القانون العادي تنظيماً لتلك الحقوق الا تؤدي الى مصادرتها أو الانتقاص منها والا تنطوي على التمييز المحظور دستورياً أو تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي كفلته الدولة لجميع المواطنين... وبوجه عام الا يتعارض التنظيم التشريعي لتلك الحقوق مع اي نص في الدستور حيث يأتي التنظيم مطابقاً للدستور في عموم قواعده واحكامه". وكان هذا الحلم صدر ضد القانون المصري الرقم 88 لسنة 1986 الذي جمع في كل دائرة انتخابية بين نظام الانتخاب بالقوائم الحزبية ونظام الانتخاب الفردي فميز القانون بذلك بين فئتين من المواطنين. اذ حظي المرشحون بالقوائم الحزبية بعدد من المقاعد النيابية تمثل ما يقرب من تسعة اعشار المقاعد النيابية في مجلس الشعب والعشر المتبقي خصصه لنظام الانتخاب الفردي وجعله مجالاً للمنافسة الانتخابية بين المرشحين من أعضاء الأحزاب السياسية والمرشحين المستقلين عن هذه الأحزاب وهو أمر اعتبرته المحكمة مخالفاً للدستور. فما بال الحال في واقعة المرشح اليهودي اليمني الذي بموجب قانون الانتخابات وقانون السلطة المحلية انه بسبب ديانته اليهودية لا يمارس الشعائر الاسلامية، وبالتالي لا يحق له ترشيح نفسه لعضوية المجلس المحلي، ولكن يحق له ان يكون ناخباً لا مرشحاً!! هذا في الوقت الذي يعتبر الانتخاب والترشيح حقين متكاملين لازمين لزوماً حتمياً. فإذا كانت المرأة الكويتية حرمت من حق الانتخاب والترشيح أسوة بالذكور، فإنه في اليمن ومع سابقة عازر ابراهيم تكون ابتدعت قاعدة جديدة، يحصر حقوق المواطنين غير المسلمين بحق الانتخاب من دون حق الترشيح. ومن المؤسف القول إن الكيان الصهيوني على رغم هويته العنصرية لم يميز بين الإسرائيليين اليهود والإسرائيليين العرب المسلمين والمسيحيين الذين لهم جميعاً حق الترشيح لعضوية الكنيست ولمنصب رئيس الوزراء. في الخلاصة: لا شك في ان الحزب الحاكم في اليمن خسر رهانه بترشيح حزبه ليهودي يمني بغرض كسب تأييد الدول الغربية. وبتراجعه امام رفض اللجنة العليا للانتخابات وهي لجنة يسيطر عليها الحزب الحاكم، يكون خسر رهانه الدولي وما كان يتوقعه من مكاسب من ذلك الترشيح، الى جانب خسارته الرأي العام اليمني الذي أثبت له ان مبدأ المواطنية المتساوية الذي أمل البعض بتحسنه في المستقبل نحو مساواة حقيقية، هو أمل بعيد، إذ أظهرت تجربة عازر ابراهيم اتساع نطاق التمييز بين المواطنية بانضمام فئة اجتماعية جديدة الى قائمة المواطنين الذين يعانون من التمييز والتهميش، ما سينعكس سلباً بشكل أو آخر في نتائج الاستفتاء وفي الدستور وعلى صدقية النظام أمام العالم الخارجي. * محام يمني.