قرار البرلمان الفرنسي بأن تركيا ارتكبت بين سنتي 1915 و1916 ابادة ضد الارمن الذين نفتهم ثم قضت على مليون او مليونين منهم اتهمتهم بالتعاون مع العدو الروسي، اثار رد فعل مسعور في انقرة التي سارعت الى شن حرب تجارية على الشركات الفرنسية. ليست المرة الاولى التي توضع فيها تركيا في قفص الاتهام بخصوص الابادة الارمنية. فقد سبق ان ادانتها سنة 1985 اللجنة الفرعية الدولية لحقوق الانسان بذلك. كما ادانها البرلمان الاوروبي سنة 1987 بالتهمة ذاتها. ثم جاء اليوم دور البرلمان الفرنسي ليشهد بأن الارمن اصيبوا بكارثة خلال الحرب العالمية الاولى التي خاضتها تركيا كحليفة لألمانيا. الكونغرس الاميركي خاف من اتخاذ مثل هذا القرار محافظة على مشاعر تركيا ومصالح الولاياتالمتحدة فيها. لكنْ في فرنسا تحالف عاملان على استصدار القرار: رغبة البرلمانيين في الحصول على اصوات الفرنسيين ذوي الاصول الارمنية، وهم اقلية لا يستهان بها في الانتخابات البلدية المقبلة، وبعدها في التشريعيات والرئاسيات، وايضاً، وبالنسبة الى البعض على الاقل، مباشرة بعض الاتراك انصاف شهداء الارمن بصورة رمزية. فكما ان "المؤرخين الجدد" في اسرائيل أنصفوا الفلسطينيين عندما أعادوا كتابة تاريخ ميلاد دولة اسرائيل اعتماداً على الارشيفات الاسرائيلية والبريطانية ليبرهوا بالوقائع والارقام على طرد الفلسطينيين من قراهم من قبل الجيش الاسرائيلي، كذلك شرع المؤرخون الاتراك الجدد كما تقول صحيفة "لوموند" ينبشون الارشيفات العثمانية لاثبات المظلمة الفظيعة التي الحقتها دار الخلافة الاسلامية ب"اهل الذمة" عندما خانت ذمتهم وانتهكت اعراضهم وازهقت ارواحهم. وفي الواقع يدور نقاش في الصحافة الفرنسية حول شرعية موقف البرلمان الفرنسي من الابادة الارمنية، وما اذا كان مخولاً البت في مسألة تاريخية تعود في الاصل الى اختصاص المؤرخين المختصين. لكن المسألة تبقى ثانوية بالنسبة الى الواقعة التاريخية بذاتها والضرر الذي الحقته دار الخلافة برعاياها المسيحيين الارمن، الذين عاشوا في اراضيها منذ قرون. والحقيقة ان ابادة الارمن بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر ثم تكررت في 1909 واخيراً في سنتي 1915 - 1916. وتعريف الابادة كما قررته الاممالمتحدة في 1948، ينطبق بدقة على الحالة الارمنية. يقول تعريف الاممالمتحدة: "الابادة هي الاخضاع المقصود لجماعة وطنية او اثنية او عرقية او دينية لظروف حياتية تؤدي الى القضاء عليها جسدياً، كلياً او جزئياً". وهذا ما ينطبق على ما ارتكبته الخلافة لا باسم الاتراك فقط، بل باسم جميع المسلمين الذين كانوا خاضعين لها او لغيرها. والمعلوم ان المغرب، مثلا، لم يكن تابعاً لها بسبب الانغلاق الشديد لسكانه الذي دفعهم الى مقاومة شديدة لكل تدخّل خارجي. تركيا الآن مرشحة لدخول نادي دول الاتحاد الاوروبي، وهي لن تدخله ما دام سجلها في حقوق الانسان اسود، وسجلها في الديموقراطية بين منزلتين، وسجلها في اضطهاد الاكراد كله سواد، واصرارها على انكار "المحرقة" الارمنية يثير اكثر من علامة استفهام على جدارتها في الانضمام الى نادي الامم الاوروبية المتحدة. وثمن هذه الامور احترامها لمبادئ الديموقراطية، وحقوق الانسان، واحترام حقوق الاقليات، وانصاف الذاكرة التاريخية لمن حصدتهم ماكينة ارتكاب الجرائم ضد الانسانية باسم الدين كما في الخلافة العثمانية البائدة، او باسم الدين والاستعمار كما في البلدان الاوروبية. واذا لم تكن تركيا، دينياً او ثقافياً وسياسياً، امة اوروبية فلا اقل من ان تحاول التشبه بالامم الاوروبية في باب احترام قيم العصر التي لم يعد يتجادل عاقلان في لزومها وجدواها للامم على اختلاف لغاتها وهوياتها وتاريخها وحاضرها.