تنطلق أول انتخابات للمجالس المحلية في اليمن منذ إعادة تحقيق الوحدة اليمنية منتصف عام 1990، في 20 شباط فبراير الجاري تنفيذاً لقانون السلطة المحلية الذي صدر في 10 شباط من العام الماضي، وأقره مجلس النواب بعد مخاض استمر خمس سنوات ونقاش وبحث واسعين على الصعيدين الحزبي والبرلماني. فأدخلت عليه تعديلات وإضافات كثيرة، وحذف منه الكثير ليصدر في صيغته الراهنة، علماً أنه مفتوح على التعديل في ضوء تجربة الانتخابات المحلية التي بدأ العد التنازلي لإجرائها للمرة الأولى بعد ايام، ولأنها تجرى في ظل أجواء تغلب عليها تبعية المجالس المحلية للسلطة أو بالأصح لجزء منها. وكانت دولة اليمن بشطريها، قبل الوحدة، خاضت تجربتي نظام الإدارة المحلية في ضوء نظاميهما السياسيين. فعرف الشطر الشمالي أول تجربة لهيئات التعاون الأهلي للتطوير على مستوى النواحي والمديريات والمحافظات عام 1973، وهي تشبه المجالس البلدية التي تعنى باقتراح المشاريع التنموية والخدمية وتنفيذها في المنطقة، بتمويل مالي يعتمد موازنات مرصودة من حساب الإيرادات العامة في موازنة الدولة إضافة الى تبرعات المواطنين في المشاريع الصغيرة. وخلال 17 عاماً حققت تجربة "التعاونيات" في الشمال إنجازات كبيرة خصوصاً بعدما اصبحت منذ العام 1982 جزءاً من كيان المؤتمر الشعبي العام الذي كانت تنضوي تحت لوائه الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات الاجتماعية والقبلية والنقابات والمنظمات الشعبية نظراً الى تحريم الدستور كل أشكال "الحزبية". وفي المقابل كانت تجربة الجنوب في مجال المجالس البلدية تتمثل في مجالس الشعب المحلية وهي جزء من تركيبة الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم آنذاك في الجنوب وكيانه، لم تحقق إنجازات مقارنة بما حققته الهئيات التعاونية في الشمال. إلا أن إعادة تحقيق الوحدة قضت على تجربة الشطرين في جانب السلطة المحلية. ولما اندلعت الخلافات بينهما قبل الحرب الانفصالية عام 1994، اتفقت الأحزاب والقوى السياسية على أن يصدر قانون للإدارة المحلية يكرس ما يشبه النظام الفيديرالي بين المحافظات ويفصل المحافظاتمالياً وإدارياً عن الحكومة المركزية بهدف تحقيق اللامركزية في الحكم، فتعتمد كل محافظة نسبة اكبر من مواردها وإيراداتها لتنفيذ المشاريع التنموية والخدمية التي تحتاج إليها في معزل عن البيروقراطية المركزية. وشمل مقترح الأحزاب والقوى السياسية انتخاب المحافظ من ابناء المحافظة وبقية اعضاء المجالس المحلية، في وثيقة العهد والاتفاق التي تم الاتفاق عليها بهدف تجاوز تداعيات الأزمة السياسية ومنعاً لاندلاع الحرب، وتم توقيعها في عمان أوائل عام 1994، برعاية العاهل الأردني الراحل الملك حسين. إلا أن اندلاع الحرب وسقوط مشروع الانفصال الذي أعلنه قادة الحزب الاشتراكي صيف عام 1994 وانتصار القوات الحكومية ولدت متغيرات جديدة، وشعوراً بمسؤولية الحفاظ على الكيان اليمني الموحد بتجاوز الصيغ والأطروحات التي تم تداولها قبل الحرب، ومنها نظام الإدارة المحلية ليكون قانون السلطة المحلية بديلاً منها، كمشروع لحكومة المؤتمر الشعبي العام الذي حاز الغالبية المريحة في الانتخابات النيابية الثانية عام 1997، بما يضمن تحقيق اللامركزية في صورة تدريجية، في بلد حديث العهد بالتجربة الديموقراطية ونظام التعدد الحزبي والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، إضافة الى أن القانون وفقاً لتأكيدات الحكومة والبرلمان نابع من البيئة اليمنية ويلامس احتياجات اليمنيين وتطلعاتهم، في بناء الدولة الحديثة. وهو أساس تشريعي للانتقال الى نظام السلطة المحلية القائم على مبدأ اللامركزية والمشاركة الشعبية من خلال مجالس محلية منتخبة ديموقراطياً تسهم في النهضة التنموية وتسيير إدارة شؤون المواطنين العامة. لكنه القانون لا يمنح السلطة المحلية استقلالاً مطلقاً في إدارة شؤون التنمية والموارد المالية والنظام الإداري، بل يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من السلطة التنفيذية الدولة، ما يعني التقليل من دورها الرقابي ودورها المستقل في اتخاذ القرار. إذ ينص على أن المحافظ الذي يعينه رئيس الجمهورية بدرجة وزير، هو في حكم منصبه رئيس المجلس المحلي للمحافظة، وأن المدير العام للمديرية الذي يتم تعيينه بقرار من رئيس الوزراء هو، في حكم منصبه، رئيس المجلس المحلي للمديرية، وأن مسؤولية المجلس المحلي ومهماته لا تتجاوز مهماتها الشكلية في وضع الخطط والبرامج التنموية ومتطلبات المناطق والمديريات والمحافظات كآلية لوضع برامج احتياجات واقتراحات لا ترقى الى درجة رصد التمويلات المالية وتنفيذ تلك الخطط والبرامج، على اعتبار ان لهذه مسؤوليات رئيس المجلس المحلي المحافظ. ثم إن دور المجالس المحلية في فرض رقابة ومحاسبة على السلطة التنفيذية على مستوى المحافظة والمديرية حيال مسؤولياتها، غير متاح للمجالس المنتخبة ويكاد يكون مجرد حق في طرح اقتراحات، والقرار الأخير في يد المحافظ الذي يترأس السلطة التنفيذية في المحافظة، وفي الوقت نفسه مجلسها المحلي. تجربة مثيرة للاهتمام وفي هذا السياق، تبدو تجربة الانتخابات المحلية في اليمن مثيرة للاهتمام على الصعيدين الداخلي والخارجي، لأنها تتيح مقداراً من المشاركة الشعبية على مستوى القرى والمناطق والمديريات والمحافظات باختيار ممثليها عبر صناديق الاقتراع، وتحديث صيغة جديدة من الشراكة بين ممثلي الشعب وممثلي السلطة التنفيذية، والمركزية من خلال المجالس المحلية التي ينص عليها قانون السلطة المحلية، وحظيت بقبول مشاركة معظم الأحزاب السياسية الرئيسية في الانتخابات المحلية، بعد ايام قليلة، للمرة الأولى منذ الانتخابات النيابية الأولى في تاريخ الوحدة، وعلى رغم اعتراضات وتحفظات من أحزاب وقوى معارضة لقانون السلطة المحلية، رأت في القانون خطوة ايجابية وفضلت ان تكون مشاركة في هذا المتغير من مبدأ "شيء أفضل من لا شيء". لكن طبيعة المنافسة الحزبية في انتخابات كهذه وخضوع هذه المنافسة لمعايير سياسية تنطلق من مفاهيم وحسابات حزبية عبر اختيار المرشحين واستقطاب الناخبين من خلال البرامج الانتخابية، ولدا حراكاً اجتماعياً طغى على أجواء الانتخابات المحلية منذ مراحلها الأولى. وتمثل في جانبها الأول تأثير التنافس بين الأحزاب السياسية في الحكم والمعارضة، لفرض حضورها والحصول على التمثيل المقنع في المجالس المحلية، لتعكس درجة هذا الحضور في أوساط الناس في المدينة والريف، على حد سواء، خصوصاً أحزاب المعارضة التي تجد نفسها امام منافس قوي الحزب الحاكم يمتلك من النفوذ والإمكانات ما يؤهله للحصول على نصيب الأسد وحصة الثعلب في المجالس المحلية. اما الجانب الآخر الذي يعزز من التفاعل الشعبي ويجعل من الانتخابات المحلية حدثاً يتجاوز في اهميته الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية فيتمثل في تأثير النفوذ القبلي في أجواء المنافسة بين المرشحين، في ضوء التوزيع السكاني والتوازن المناطقي، إذ يتجاوز التأثير القبلي والتطلع الى النفوذ والوجاهات، الانتماء الحزبي والمصالح الحزبية في معظم المناطق، خصوصاً أن قانون السلطة المحلية ينص على أن المجالس المحلية هي جزء لا يتجزأ من سلطة الدولة، ولا تعني الاستقلال عنها بمقدار ما تؤكد وتعزز الشراكة بينهما، في الدفع بعجلة التنمية الشاملة الى الأمام، خصوصاً أنها ستعتمد في تنفيذ خططها وبرامجها وتغطية تكاليف نشاطها موازنة الدولة في جانبها الإيرادي، انطلاقاً من شح الموارد المحلية على مستوى المديريات والمحافظات وعدم إيفائها شروط الاعتماد الذاتي والاستقلال عن السلطة المركزية جهاز الدولة. ومما لا شك فيه ان تفاعل المنافسة الشخصية أو المناطقية القبلية مع التنافس السياسي الحزبي يعزز من أهمية التجربة الديموقراطية في اليمن على رغم انها تسببت في إثارة النعرات وأيقظت الخصومات القبلية والثارات بين الأشخاص، بحكم تركيبة المجتمع اليمني وخصوصيته، نظراً الى قلة إمكانات اللجنة العليا للانتخابات وقدرة السلطة المركزية على الفصل بين القرى والمناطق المتداخلة قبلياً واجتماعياً، أو المتجاورة على خصومات، وتوجس من بعضها من خلال تقسيم إداري جديد وتوزيع ديموغرافي يفي بمتطلبات الواقع ويمنع تداخل القبائل المتخاصمة على قلتها في تنافسها على فرض مرشحها في الانتخابات المحلية، ليصبح ممثلاً للطرفين معاً في المجلس المحلي. وهو ما عكس حالات من الصدامات ذات الطابع القبلي بين مرشحي الحزب الواحد، وخصوصاً حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم. وأحياناً وصلت الى حد اندلاع الحروب القبلية وسقوط ضحايا من الطرفين بين قتيل وجريح، كما حدث في بعض مناطق محافظة عمران، واضطرت اللجنة العليا للانتخابات الى وقف العملية الانتخابية في منطقة القفلة بسبب الخلافات القبلية والأعباء الأمنية التي تتحملها الحكومة والأعباء المالية التي توفرها للانتخابات، وهي باهظة ومحسومة من الموازنة العامة للدولة، فضلاً عن موازنات متفاوتة للأحزاب المشاركة في هذه الانتخابات لمواجهة نفقاتها الكبيرة التي لا يمكن مواردها الخاصة واشتراكات اعضائها ان تفي بجزء يسير منها. اما على صعيد التنافس بين الأحزاب السياسية فهو لا يتجاوز المكايدات والحملات الإعلامية، ولا يصل الى درجة المصادمات. ووفقاً لقانون السلطة المحلية الذي يتألف من 174 مادة موزعة على تسعة أبواب، يتكون المجلس المحلي على مستوى المحافظة من 15 عضواً على الأقل من مجموع الأعضاء المنتخبين على مستوى المديريات وبتمثيل متساو بواقع عضو لكل مديرية، ويمثلون جميع سكان المحافظة. ويترأس المجلس المحافظ المعين بقرار جمهوري وهو على رأس هرم السلطة المحلية في المحافظة. ويتولى المجلس لكل محافظة نحو 25 مهمة نص عليها القانون في المادة التاسعة عشرة أهمها دراسة مشاريع الخطط الشاملة وإقرارها، والتوجيه والأشراف والرقابة على أعمال المجالس المحلية للمديريات والأجهزة التنفيذية في المحافظة، ودراسة مشاريع الخطط التنموية والاقتصادية والاجتماعية والموازنة السنوية وإقرارها، والموافقة على مشروع الحساب الختامي للمحافظة، إضافة الى دراسة الإحصاءات والمعلومات وإجراء المسوحات الميدانية التي تخدم اغراض التنمية ومراقبة تنفيذ القوانين ومعالجة الاختلالات وتحديد اجور الانتفاع ودراسة مستوى تحصيل الإيرادات وإقرار قواعد مساهمة المواطنين في تمويل المشاريع وتبسيط الإجراءات ودراسة الوضع الأمني وإصدار التعليمات المساعدة على تعزيز الأمن وإقرار مشاريع المخططات البيئية والعمرانية والبحث في المسائل التموينية والسياسات المائية والاستثمارات وتشجيع انشاء الجمعيات التعاونية ومراقبة نشاطها وتنشيط الاستثمار السياحي وحماية الآثار والمناطق الأثرية ومراقبة حسن استغلال الثروات الطبيعية ومراقبة سياسة التوظيف والقوى العاملة. وينص القانون على إنشاء لجان متخصصة لكل مجلس محلي وأمين عام له يكون منتخباً ويصبح مساعداً للمحافظين في حكم منصبه في إدارة المجلس المحلي. ويتولى المحافظ المسؤولية التنفيذية في شكل مطلق، لكل خطط المجلس المحلي ومشاريعه، وله حق القرار في اتخاذ الإجراءات التي يقترحها المجلس المحلي بما في ذلك تمويل المشاريع وآليات الرقابة على الأجهزة التنفيذية الحكومية. اما المجالس المحلية في المديريات فيتكون كل منها من رئيس المجلس، ويتولاه المدير العام للمديرية في حكم منصبه الرسمي، وكل مديرية يكون تعداد سكانها 35 الف نسمة. وما دون ذلك يتكون المجلس من 18 عضواً، وما تجاوز ذلك يتألف مما بين 20 عضواً و30 بحسب نسبة السكان. وتقسم اللجنة العليا للانتخابات المديرية دوائر عدة، وتتمثل كل دائرة بعضو واحد في قوام مجلسها المحلي. وينص القانون على تولي المجلس المحلي للمديرية الاختصاصات نفسها التي يتولاها المجلس المحلي للمحافظة، ولكن في إطار المديرية، فيكون المجلس المحلي للمحافظة هو المرجعية في إقرار مشاريعها وخططها، وفقاً للقانون، كذلك ينص على اختصاصات نافذة للمدير العام للمديرية المعين بقرار من رئيس الوزراء الذي يصبح رئيساً للمجلس المحلي في حكم منصبه. وفي هذا السياق، فإن مدة المجالس المحلية في اليمن المقرر انتخابها في 20 الجاري لا تتجاوز العامين في الانتخابات الأولى كمرحلة انتقالية تبدأ من تاريخ اول اجتماع للمجلس المحلي وتنتهي بموعد الانتخابات النيابية، لتتزامن الانتخابات المحلية والانتخابات النيابية. وتأمل الأحزاب السياسية والأوساط الشعبية بأن يعدل قانون السلطة المحلية في ضوء التجربة الأولى عامين، فيتم تجاوز الثغر الموجودة ويُلبى بعض تطلعات أحزاب المعارضة في استقلال المجالس المحلية عن السلطة التنفيذية، ومنها صلاحيات الرقابة والمحاسبة على جهاز الحكومة في المحافظات، إضافة الى تمكينها من الموارد المالية وتحديد موازنتها السنوية ودعم التوجه نحو اللامركزية من خلال السلطة المحلية المنتخبة ديموقراطياً بكل هيئاتها. وكان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح اكد عشية الانتخابات المحلية، عزمه دعم أي فكرة جديدة في اتجاه إجراء تعديلات على قانون السلطة المحلية يلبي حاجة التجربة الجديدة، ويعزز من نجاحها، بما في ذلك اعتبار اليمن دائرة واحدة في الانتخابات المحلية المقبلة.