في أيار مايو من العام 1996 شهدت الحياة الحزبية الأردنية، اندماج ثمانية أحزاب وسطية ومحافظة متشابهة الرؤى والمفاهيم في حزب واحد، حمل اسم "الحزب الوطني الدستوري"، وترأسه منذ ذلك الحين المهندس عبدالهادي المجالي، الذي كان يرأس "حزب العهد" احد الأحزاب المنضوية في اطار الاندماج. واعتُبر "الدستوري" في حينه، أحد الشواهد على تقدم الحياة الحزبية، اذ ضرب مثالاً على تجاوز الذات التنظيمية الضيقة وتمثيل مصالح فئة عريضة من الجمهور أغلبها من الطبقة الوسطى، علاوة على تمثيل الوطنية الأردنية، والنأي عن الاعتصام بأيديولوجية محددة مسبقة، لصالح تشكيل حزب برامجي. غير ان هذا الطموح الذي أذن به تشكيل الحزب الموحد لم يتحقق، فقد تراجعت عضويته خلال ثلاثين شهراً من أربعة عشر ألف عضو الى ألف عضو فقط. وانشق بعض الاحزاب المندمجة ومنها "حزب النهضة" الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي عبدالرؤوف الروابدة، و"حزب الوطن" الذي كان يقوده الراحل عاكف الفايز، اذ عاد الحزبان لاستقلالهما التنظيمي، كما خرجت من الحزب قيادات عديدة اخرى، وتضاءلت فروع الحزب من ثمانية عشر فرعاً الى أربعة فروع فقط. ليس الغرض من هذه المقالة مراجعة المسيرة المتعثرة لحزب أردني بعينه، وانما هو استخلاص المؤشرات والافكار حول أزمة الحياة الحزبية السياسية الأردنية ومستقبلها، انطلاقاً من تجربة الحزب الدستوري. وقبل دخول هذه المحاولة، فإن من المفيد الإشارة الى ان هذا الحزب أصدر أخيراً بياناً سياسياً مثيراً، حمل فيه على تكريس العشائرية في إشارة لتنظيم زيارات لوفود بعض العشائر الى دار رئاسة الوزراء لإعلان التأييد لإجراءات الحكومة التي اتخذت بحق عدد من قيادي وناشطي حماس، وتضمن البيان الى ذلك دعوة الى الاصلاح الجذري وتجديد الحياة السياسية. وقد تبين لاحقاً ان البيان لم يحظ بموافقة ولا بعلم هيئاته العليا المنتخبة، بمن في ذلك رئيس الحزب المهندس المجالي، رئيس مجلس النواب الحالي. وقد أدى صدور البيان الى خروج نائبين من نواب الحزب، لكن بياناً مضاداً أو توضيحاً لاحقاً، لم يصدر، وقد فهم ان معارضة الرئيس المجالي قد تركزت على عدم مرور البيان على القنوات الشرعية، اضافة الى تحفظه على صيغة ونبرة البيان، من دون ان يشمل التحفظ فحوى ومضمون البيان. مغزى ما تقدم، ان الأزمة الداخلية التي عصفت بالحزب الوسطي الكبير والذي كان يطمح لمنافسة التيار الاسلامي بات ينظر اليها في الأوساط القيادية للحزب، على أنها جزء أو تعبير عن أزمة سياسية وحزبية أشمل وأعم، وهو ما يفسر دعوة الحزب الى اصلاح سياسي، علماً بأن الدعوة للاصلاح كانت خافتة في أدبيات هذا التنظيم الذي يضم في صفوفه عدداً كبيراً نسبياً ممن سبق ان تبوأوا مواقع قيادية في الادارة الحكومية، بمن فيهم الرئيس المجالي، الوزير ومدير الأمن العام السابق. وفي رأي أوساط قيادية ان تجربة التحول الديموقراطي منذ عقد من السنين، اضافة الى تجربة الحزب الدستوري ذاته، قد اثبتت ان الحياة الحزبية السياسية لا نظام الحكم تشهد أزمة تكوينية أو بنيوية، فعلية، وانه ليس من الحكمة والمصلحة انكارها، والمظهر الأولي لهذه الأزمة هو الأمد المحدود لعمر الحكومات، ولطريقة تشكيلها. فالحكومات تعمر في المعدل سنة واحدة، حتى بات الأردن ينافس ايطاليا في عدد الحكومات التي شكلت منذ الاستقلال. اما طريقة التشكيل فإنها تخضع في الأساس لاعتبارات جهوية ولاستمالة مكونات الحياة الاجتماعية. وهذه الطريقة في تشكيل الحكومات فضلاً عن انها غير ناجعة وغير عصرية، فإنها تثير متطلبات اجتماعية لا حصر لها، وغير قابلة للوفاء بها، اكثر مما ترضي الطامحين للتوزير وهم كثرة متكاثرة الى جانب مئات من الوزراء السابقين الذين ينالون رواتب تقاعدية. هذا الاسلوب في رأي تلك القيادات الحزبية أفقر الحياة السياسية على رغم المظهر الخادع بزيادة عدد الوجوه الوزارية وفي الإدارات العليا. وهي أزمة لا مثيل لها في بلدان شهدت تحولاً ديموقراطياً مثل مصر وتونس واليمن. حيث هناك أحزاب حاكمة و"مستقرة" يحف بها عدد من الاحزاب المعارضة، وعدد أقل من احزاب الموالاة، ولئن كان الهامش الديموقراطي ليس واسعاً في هذه الدول، بما لا يجعله محل مقارنة مع الديموقراطيات الغربية الحزبية، الا ان هذه التجارب العربية تظل ذات معنى وتحمل سمة الاستقرار، كما ان التعاقب على السلطة يتم وفق معايير واضحة لا موضع يذكر فيها للاعتبارات المناطقية والعائلية، هذا فضلاً عن التجربة الأكثر تقدماً التي تمثلها المملكة المغربية. هذا التشخيص الذي تسنده الوقائع ومجريات الأمور. وحيث تنتصب البنى التقليدية كقوة اجتماعية ثابتة ومانعة للتداول السياسي، يظل قاصراً بذاته لدى الاكتفاء به عن مواجهة المشكلة ومعالجتها. اذ يبدو حتى الآن انه لا بديل فورياً عن اتباع هذا السلوك وذلك للضعف المتمادي للاحزاب، وتذرر هذه التشكيلات التي يفترض انه حديثه نحو 16 حزباً يتميز من بينها حزب جبهة العمل الاسلامي الذراع التنظيمي لجماعة الاخوان المسلمين، والذي يضاهي في حجمه وفعاليته الاحزاب الأخرى مجتمعة. ويفاقم من ذلك ان الحكومات والادارات وبأشخاصها - وليس وفق سياسة موضوعة بالضرورة - عملت على تهميش الاحزاب، سواء بالحد من نشاطاتها الجماهيرية، أو بالحؤول دون مزاولة حقها في مخاطبة الجمهور عبر وسائل الاعلام، أو بعدم تقديم اي دعم مالي لها، مما أسهم في افلاس الكثير منها، بما في ذلك الحزب الدستوري، الذي واجه في الأساس مشكلة تمويل فروعه العديدة وتغطية نفقات صحيفته المركزية مما أدى الى اغلاقها. هذه الأمور مضافاً اليها دوام نظرة الارتياب التقليدية ازاء الاحزاب، أسهم الى حد بعيد في اضعاف التجربة الحزبية، وحيث تعذر على الاحزاب، باستثناء التيار الاسلامي والحزب الدستوري، الترشح في الدورتين الأخيرتين للانتخابات النيابية على أساس حزبي، مما حال في النتيجة دون الاحزاب والاسهام في تطوير الحياة السياسية. ولمواجهة هذا الواقع والذي هو أقرب الى حلقة مفرغة، يقترح قياديون في الحزب الدستوري، ان تقلع الحكومات عن التشكيك بالاحزاب وان تعمد الى صياغة قوانين لتمويل هذه التنظيمات بالإفادة من التجربتين التونسية والمغربية، بحيث تتم الانتخابات في جانب منها على نصف عدد المقاعد ومجموعها ثمانون وعددها غير كاف بالنسبة الى النمو السكاني على اساس التمثيل الحزبي، بينما يصار الى ملء مقاعد النصف الثاني على أساس الترشيح الفردي. ومع امكانية جذب مستقلين الى الكتل النيابية الحزبية، فإنه يسع المرء تصور ان تتمكن الكتل النيابية ومن يأتلف معها من تشكيل حكومة وبما يضع حداً لظاهرة نادي رؤساء الحكومات، والذي مهما اتسعت عضويته فإنه يظل قاصراً عن مواجهة حاجات البلد للتنمية الشاملة بما فيها التنمية السياسية، اذ ان التجديد في وجوه رؤوساء الحكومات، تضعف منه الاعتبارات التقليدية في تشكيل هذا الفريق الوزاري أو ذاك. هذه هي الخطوط العريضة للأزمة السياسية والحزبية ومخارج حلها، كما يعبر عنها قياديون في حزب وسطي كبير نسبياً مقارنة بسواه من الاحزاب، والتي يضيفون اليها دعوة الدولة للتفكير بانشاء حزب خاص بها، بدلاً من سياسة تحشيد الموالين هنا وهناك في المناسبات المختلفة أو لدى تشكيل الحكومات. وهذه الرؤية في ملامحها العامة، تلتقي عليها فاعليات سياسية وحزبية عديدة من شتى التيارات، على ان صيغة الحل المثارة على وجاهتها الظاهرة تظل قاصرة عن مواجهة المعضلة. فالاحزاب تشكو من تهميش متزايد، لا يعود فقط الى غياب الرعاية الرسمية لها، فهذه الهامشية تستمد أسبابها وجذورها، من شخصنة القيادات الحزبية ومن عدم امتلاك خطاب سياسي ملموس يخاطب الأجيال الجديدة بالذات، وهي المكمن الحيوي للتنظيمات الحزبية، فضلاً عن غلبة النزاعات الايديولوجية عليها، وبالمعنى المباشر الآلي، هذا الى جانب ان بعض هذه الاحزاب يشكو مما يعتري تشكيل الحكومات، من اختناقها بالمعايير الجهورية والعائلية في قياداتها وعضويتها، فيما تلوح مشكلات أخرى، منها افتقار الاحزاب لمنطق استثماري يجعل منها مؤسسات شبه اقتصادية لتنمية مواردها وتغطية نفقاتها، واذ تشكو هذه الاحزاب من وضع اقتصادي مأزوم ينعكس عليها فإنها تعجز حتى الآن عن الاسهام في حل مشكلتها باجتراح نجاح خاص بها في اطلاق أنشطة استثمارية ولو محدودة. وتبرز بعدئذ مشكلة اخرى أشد تعقيداً وتتمثل في الضعف المتزايد لإغراء الجمهور بالانضواء الحزبي. اذ ان وسائل الاعلام الحديثة من فضائيات وانترنت فضلاً عن الصحافة المقروءة، تشكل حيزاً أوسع واكثر جاذبية لتداول المعلومات والأفكار، بل ان المنتديات الثقافية والمنابر الاجتماعية، تؤدي مثل هذا الدور بحيوية اكبر. ومغزى الأمر ان ما يجري التفكير به كحاجة سياسية لتفعيل الحياة الحزبية، يتم في وقت بدأت تنحسر فيه على مستوى عالمي جاذبية ووظيفة الاحزاب، وذلك مع الايقاع المتسارع للحياة المعاصرة، ومع رغبة الجمهور في ضمان تحقيق الخير الخاص، كمقدمة ومدخل للانضواء الحزبي، أما ان تعمل الدولة لتشكيل حزبها الخاص فإن هذا الأمر يستحق معالجة مستقلة عن هذه المقالة. هذا بعض ما يجري التفكير به والتعبير عنه، وهو يشخص جانباً مهماً أو اكثر من جوانب الأزمة السياسية العامة، والثابت ان هناك اقراراً واسعاً بالأزمة، يقترن بازدياد الحاجة لمعالجتها، وهو ما لم يكن في الحسبان من قبل، أي قبل الدخول في مرحلة التحول الديموقراطي في ما يسمى بمرحلة الاحكام العرفية وحيث كان الاقبال على الانضواء في الحياة السياسية والحزبية أكبر بكثير على رغم المحاذير مما هو عليه الآن. * كاتب أردني