يتساءل إدوارد سعيد في الصفحات الأولى من مقدمة الطبعة العربية لكتاب سيرته عن رأي القارئ في الترجمة، قائلاً: "انتظر بشغف ردود فعل القرّاء العرب على ترجمة فواز طرابلسي". وإذ يصعب على من لا يتقن الانكليزية إبداء الرأي، فحسبه ان يستمتع بالصيغة العربية للكتاب. هذه الصيغة التي نجحت في بلوغ هدفها بجعل الكاتب يتكلم اللغة الأم. وكانت على حد تعبيره، أشبه "بإعادة توزيع عربي" لمعزوفة كان يمكن ان تُكتب بالعربية لولا أنّ كاتبها عاش "في غير مكانه". وبفضل هذه الترجمة، التي يصفها الكاتب بالأناقة، سيتمكن قراء كثر من الاستمتاع والإفادة من هذا المؤلف الجميل الذي إن قرأته فستظل زمناً تحدث نفسك به وتتحاور بشأنه معها ومع الآخرين. والذي حظي بقراءات عدة قيّمة تناولت في غالبيتها الحيز النفسي وكرسي التحليل الذي جلس عليه بجرأة وريادة إدوارد سعيد حين عرف أنه مصاب باللوكيميا. لا ملاحظات تذكر على الترجمة اللهم سوى ما يتعلق بالعنوان الذي يمكن "قراءته"، وبالتالي ترجمته، بصورة مغايرة. فعبارة "في غير مكانه" تفي - برأيي - بغرض الترجمة بصورة أفضل من عبارة "خارج المكان". والعبارة المقترحة ليست من ابتكاري بل أوردها المترجم نفسه في النص الفصل الأول ص43 وجاءت على لسان الكاتب في معرض تساؤله حول أزمته: "هل يمكن لإدوارد والحال هذه ان يكون إلا في غير مكانه؟"، وما يعزّز هذا الاقتراح أن الأصل الإنكليزي لهذه العبارة، out of place شديد الشيوع، ويُستخدم عادة لوصف من وُجد بصورة ناشزة في مكان ليس له. مكان وفد إليه بطريق الصدفة أو الخطأ أو الالتباس حتى صار وجوده فيه مثاراً للتساؤل. تساؤله هو أو تساؤل الآخرين، تماماً كما هو حال إدوارد سعيد. وبالتالي فإن "في غير مكانه" تفي بغرض هذا التخصيص في مقابل التعميم المجازي أو حتى المطلق الفلسفي الذي توحي بها عبارة "خارج المكان". اعتبارات كثيرة تدفع أيّ قارئ الى التوقف أمام عنوان الكتاب. فالمعضلة التي يتحدث عنها المؤلف هي في جوهرها معضلة مكان. والانفصال عن المكان الأصلي. والانتقال للعيش في أمكنة أخرى بديلة ومستعصية حتى أنها باتت الدليل الدائم على الفقدان الأول. فالجغرافية - كما يقول الكاتب - كانت في مركز ذكرياته. "جغرافية الارتحال. من مغادرة ووصول ومنفى وشوق وحنين الى الوطن... بين القاهرةوالقدس ونيويورك ولبنان..." ليبقى الكاتب "في غير مكانه" بلا مصالحة. فمَن كان في غير مكانه فهو في الغالب في غير ثقافته ولغته "يحيا في لغة ويكتب بأخرى... في توتر حاد غير محسوم... يضطره ان ينسى ليتذكر...". ومَن كان في غير مكانه سيكون على الأرجح في غير زمانه وخارج أحداثه، إذا ما كان الحدث هو ما يقيم الدليل على الزمن. الحدث الدليل الذي خرج منه الكاتب، قسراً لا طوعاً، حين خضع لنتائج قرار أبيه بمغادرة المكان الأصلي، فلسطين. واختيار المواطنة الأميركية في بلدان المغترب، مصطدماً بالتالي بالانتزاع الأول من المكان الأول قبل أن يُنتزع سائر أهله ومواطنيه من أرضهم في تلك الهجرة التي ستبقى شاهدة على صلف العصر. وسيُعمّد اصطدامه بالانتزاع الثاني حين استكبر أبوه على رغم أنه من عائلات القدس، أن ينتمي الى النكبة. وأنِف، الى حد الإنكار، التماثل بها شأن غيره ممن تركوا فلسطين قبل 1948 ثم عادوا اليها وجدانياً ومصيرياً. هكذا أطبق على أنفاس الفلسطيني الصغير انكار مزدوج. ليحرم "إدوارد" من نعمة تعميم مأساته والتماثل مع "المصير". هذه النعمة التي لا عزاء لفلسطيني - إن كان هناك ثمة عزاء - إلا بها. لتظل مأساته، ولأمد طويل، ذاتية جوانية وبرهان انتقاص للأصل لا إدانة للغشم. ولينعكس هذا الإنكار المركّب على الانتماء الثقافي والهوية بل ولعلّه ينعكس على المذكرات ذاتها. مذكرات أرادها الكاتب تسجيلاً لدراما مزدوجة: دراما تاريخية تمثّلت في الانتزاع من المكان واللّغة والزمان، ودراما شخصية تمثّلت في الخضوع لأب متسلط وشديد التناقض. يتراوح بين مثقّف متنوّر متأمرك وبين غاشم ذي نزعة عربية تركية، سائدة ومميزة لآباء ذاك العصر للتسلط غير المحدود ولاضطهاد الأبناء الذكور والإقلال من شأنهم. وتمثّلت في الخضوع لأم متناقضة هي أيضاً، تراوح بين الرقة المدنية الغربية والرهافة وبين جبروت المرأة، المحافظة. أم شرقية بوريتانية صعبة الشروط لا تمنح بركة إعجابها بأولادها إلا لتنقضها في الحال. وتمثلت أخيراً بتحالف ضمني واتفاق شبه علني ما بين المدرسة والأبوين على اعتبار إدوارد ولداً منحرفاً فاشلاً ومشكوكاً في مستقبله. هل كان من شأن هذه التحالفات، أن تنعكس على علاقة الذكريات - موضوع الكتاب - بعضها ببعض، لجهة حضورها وغيابها؟ ولجهة الحيّز الذي أُفرد لكل منها في السياق ولجهة توزّع الضوء والعتمة عليها؟ ليخرج بعض هذه بيسر ساطع الحضور بينما يتردد - أو هكذا يبدو - بعضها الآخر في الظهور؟ إذا كان من الصعب الجزم فمن اليسير الملاحظة، أنّ الذكريات الجسورة الساطعة في الكتاب التي التهمت غالبية مساحاته هي ما يقع في الحيّز النفسي. وأنّ تلك المحاصرة في مساحات ضيّقة هي ما يقع في الحيّز التاريخي. وبنتيجة ذلك طغت تفاصيل على أحداث وأمكنة على أخرى. وليس أقلّها شأناً المدارس وأمكنتها. حتى بدا كلّ فصل من فصول الكتاب تجديداً وتطويراً لما سبقه لجهة إلقاء المزيد من الأضواء على فكتوريا كوليدج أو المدرسة الأميركية. أمكنة وقاعات رافقنا الكاتب طويلاً في أمكنته وفي قاعات فصول مدرسته الإنكليزية التي تفوق، تعنتاً وعنصرية، أختيها الأميركيتين في مصر والولايات المتحدة. كما رافقناه في ملله القاتل في ضهور الشوير وفي مخيمات الصيف وفي الأندية والكليات والجامعات ومع زملائه المتشابهين على رغم تنوّعهم. كلّها أماكن بدت في مذكرات إدوارد سعيد موحشة لدارسين بلا انتماء ولقائمين على التربية غير تربويين وأساتذة صلفين مغرضين. ولجيوش من صبيان "رياضيين" أشداء أجلاف صلفين وبلا رحمة. مدارس كالغاب تسودها شريعة الحق للأقوى. غاب لا مكان فيه لذوي الحساسية أو الخصوصية أو الإبداع. وبالتالي لا مكان فيه لإدوارد سعيد. وفي هذا العالم الصعب دخلنا مع الكاتب في أدق التفاصيل حول عقم المناهج الدراسية والتقاليد والأنظمة الصارمة والملابس المفروضة والأزياء من قمصان وسراويل وأحذية وجوارب. وحول النزاعات التي تنشب بين التلامذة وانتصار فئة لأخرى وعزلة إدوارد والخوف من طغيان زملائه ومعلّميه. هذا الطغيان الذي لازمه طيلة دراسته. يسرقنا الكاتب الى تفاصيل عالمه حتى نتساءل لِمَ إلى الحد طغت أماكن الغربة على المكان الأصلي فلسطين؟ وطغت مجريات أحداث هذه على تلك. وطغى الذاتي على العام، عند هذا الكاتب المرهف الذي عاش بصمت وعزلة مأساته الثقافية التاريخية؟ لمَ في الكتابة التي هي بالنسبة إليه كما يقول: "فعل استذكار ونسيان واستبدال لغة قديمة بلغة جديدة..." انحسر الى هذا الحدّ المكان الأول وتراجع التاريخي؟ على رغم معاناة الغربة والبصمات التي خلّفها في النفس الإنكار والتعالي على ذوي الأصول العربية. وعلى رغم اضطرار إدوارد لإخفاء حقيقة هويته عن أقرانه. وعلى رغم وجود العمة نبيهة ومحاولاتها الدؤوبة في هزّ الوجدان الفلسطيني الكامن لدى العائلة المبتعدة وإيقاظه. العمّة التي في فعل "التذكر والنسيان" وحدها في العائلة، كما بدا، تماثلت مع المصير الفلسطيني. ووحدها، صورتها في ظلال الأماكن تسطع. صورة هذه الفلسطينية الجسورة الدؤوبة وذات الحضور الكثيف. في هذا المشهد الفاتن الخاطف الفصل السادس. مشهد لا تعوزه سوى الكاميرا ليغدو سينمائياً ومن أفلام الواقعية الإيطالية. وفي هذا المشهد، يقبع الصغير إدوارد "هناك" في غرفة الانتظار "في شقة العمة نبيهة قرابة الساعتين. يراقبها وهي تدبّر شؤون "هؤلاء اللاجئين" المعذبين. شؤون عائلات كبيرة تكدّست في غرفة واحدة، وأطفال بائسين أصيبوا بسوء التغذية، ونساء مفصولات عن أزواجهنّ، ورجال عاطلين عن العمل أو مصابين بالسل والبلهارسيا. هناك حيث يطالعه العشرات من الفلسطينيين المحتشدين على السلالم صعوداً الى بيت شقتها... بحر متلاطم من البشر... يحاول البواب تنظيمه". هذا الفصل الذي يبدو استثنائياً والذي يتمنّى القارئ لو يطول ويتسع، لا يلبث أن يعود منه الكاتب سريعاً الى أمكنته الأخرى: المدارس والرحلات إلى أميركا والغرب وضهور الشوير. ليقطع علينا متعتنا. ويتركنا في حال شغف لسماع المزيد. وللتلهف على إقامة الجسر بين طرح المأساة والعثور على منافذ الخلاص منها. وبين مؤلفاته السابقة وهذه المذكرات. متلهفين على الإجابات: كيف اهتدى إدوارد الأميركي الى سعيد الفلسطيني؟ ما هي محطات التحوّل في حياته وفكره؟ وكيف، في أميركا وجامعاتها، واجه مواقف الآخرين منه كمواطن اميركي فلسطيني؟ بل وكيف خرج من جلده القديم ومن صورته المكرّسة، في البيت والمدرسة كما في ذاته، ليغدو المفكر اللامع الذي ترك آثار فكره على واحدة من أكبر مآسي التاريخ في عصره. ولعله ما كان يحق لنا ان نعترض على خيارات الكاتب في "تفضيل" موضوع على آخر وأمكنة على سواها أو أن نطلب منه أشياء... بل نكتفي بالأضواء التي يلقيها على هذه المحطات مثل صدمة 1967 التي جعلته "يقرّر العودة سياسياً الى العالم العربي". ما كان يحق لنا ان نطلب أشياء... لولا أن الكاتب ذاته طلبها من نفسه. ولولا أن عنوان الكتاب يؤكد الطلب. كما يؤكده جوهر المذكرات التي تتناول أزمة من عاش بين ثقافتين و"مكانين" وذاق لوعة مؤامرتي إنكار. ولولا أنه في خاتمة المطاف إدوارد سعيد. ذلك أنه هو نفسه يستغرب شطحاته المكانية استغرابنا نحن لها فيقول:"من الأمور التي أحاول استكشافها، السطوة التي مارستها تلك التجارب المدرسية المبكرة جداً عليّ، وسبب استمرار تلك السطوة، ولماذا ما أزال انبهر وأهتم بها الى درجة الكتابة عنها للقرّاء بعد مضيّ خمسين سنة... هذه الأمكنة التي لم تعد موجودة... اندهش باستمرار لاكتشافي الى أي مدى أستبطنها، وغالباً بأدق تفاصيلها بل بتشخيصاتها المروّعة". * "خارج المكان" عن دار الآداب، بيروت. ترجمة فواز طرابلسي، بيروت - 2000.