حين صدر كتاب ادوارد سعيد "خارج المكان" عام 1999 باللغة الانكليزية بدا اشبه بالحدث لا عبر ما حمل من خصائص ادبية فحسب بل في استعادته جزءاً من ماضٍ عام، سياسي واجتماعي عبر كتابته اجزاء من ماضٍ شخصي او سيرة ذاتية. فالكتاب هذا عمل استثنائي عن المنفى وسردٌ لارتحالات عدة واحتفال بماضٍ لن يستعاد. وكان ادوارد سعيد تلقى عام 1991 تشخيصاً طبياً مبرماً أقنعه بضرورة ان يترك سجلاً عن المكان الذي ولِد فيه وأمضى طفولته. في هذه المذكرات، يعيد ادوارد سعيد اكتشاف المشهد العربيّ لسنواته الاولى - "أماكن عدة زالت، وأشخاص كثيرون لم يعودوا على قيد الحياة... باختصار، إنه أساساً عالم قد اندثر". لقد طرأتْ على ذلك المشهد تحولاتٌ كثيرة: فلسطين تحولت اسرائيل، وانقلب لبنان رأساً على عقب بعد عشرين سنة من الحروب الأهلية، وزالت مصر الملك فاروق الكولونيالية إلى غير عودة عام 1952. يحيي الكتاب عالماً يصعب تخيله من الشخصيات الغنية الجذّابة. إنّه نصّ غنائيّ وجميل الصنعة، يبلغ أحياناً درجات عالية من الصراحة بقدر ما هو، في الآن ذاته، حميمٌ ومرح. ويكشف ادوارد سعيد فيه دقائق ماضيه الشخصيّ، ويَستعرض الأفراد الذين كوّنوا شخصيته ومكّنوه من أن ينتصر ليصبح واحداً من أبرز مثقفي العصر. هنا المقدّمة التي وضعها سعيد للطبعة العربية وهي ستصدر قريباً عن دار الآداب بيروت في ترجمة انجزها الكاتب فواز طرابلسي. صدر أولُ كتاب لي في العام 1966. كان عن جوزف كونراد، الروائيّ البولونيّ الكبير الذي غادر وطنه عام 1874 وهو في السابعة عشرة من العمر. عاش كونراد في فرنسا وعمل قرابةَ أربع سنوات في البحرية التجارية الفرنسية. وفي عام 1878، جدّد حياته فجأةً فعمل بحّاراً في البحرية البريطانية إلى العام 1895 عندما نشر روايته الأولى، جنون آلماير. سحرني في الرجل أنه كتب باللغة الانكليزية أعماله الكثيرة من روايات وقصص ومذكرات، وكلها يغرف من حياته الغنية على نحو مستبعد التصديق بوصفه بحّاراً ومكتشفاً ومغامراً. ومع ذلك كانت الانكليزية لغته الثالثة بعد البولونية والفرنسية. في كتابي عن هذا الكاتب الذي ظل يثيرني، بل إني بالتأكيد مهووس به من نواحٍ عدة، أحاجج أنه عاش تجاربه في اللغة البولونية لكنه وجد نفسه مَسوُقاً إلى الكتابة عن تلك التجارب في لغة ليست هي لغته. فإذا النتيجة كاتبٌ متفردٌ في الأدب العالميّ من حيث الأسلوب والمحتوى معاً. وما من أحد له نبرة كونراد، وما من أحد مِثْله يكتب عن أوضاع غريبة ومتطرفة، وما من أحد حقق تلك الآثار الكابوسية والمقلقة كالتي حققتها كتبه. وأعتقد أنّ السبب في ذلك يعود إلى شعور كونراد بوجود تفارق دائم بين تجاربه وبين اللغة التي استخدمها لوصف تلك التجارب. فكأنه عاش في لغة وكَتَبَ في لغة أخرى. وإذا ادراكه لذلك الاختلال المربك هو في الصميم من كل أعماله. لست أريد أن أضع نفسي في مصاف كونراد، وإنما أن أقارن فقط بيني وبينه من حيث استخدام اللغة الانكليزية. غير أنّ الفارق بين لغتي العربية الأم، والانكليزية التي نشأتُ عليها واستخدمتُها في كل ما كتبتُه تقريباً، أكبرُ من ذلك الفارق بين البولونية والانكليزية الذي وسم أدبَ كونراد. وحتى لو اعترفنا أنّ بولونيا بلد سلافيّ، فيما انكلترا بلد أوروبيّ غربيّ، يبقى أنّ العالم الذي نشأ فيه كونراد واللغة التي استخدمها في أعماله ظلا محصوريْن ضمن أوروبا بوصفهما وجهَيْن لمنطقة واحدة. وأما في حالتي أنا، فالفارق بين الانكليزية والعربية يتّخذ شكل توتر حاد غير محسوم بين عالمين مختلفين كلياً بل متعاديَيْن: العالم الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الأولية الحميمية - وهي كلها عربية - من جهة، وعالم تربيتي الكولونياليّ وأذواقي وحساسياتي المكتسبة ومجمل حياتي المهنية معلِّماً وكاتباً من جهة أخرى. لم يُعفْني هذا النزاعُ منه يوماً واحداً، ولم أحظَ بلحظةِ راحةٍ واحدةٍ من ضغط واحدة من هاتين اللغتين على الأخرى، ولا نعمتُ مرةً بشعور من التناغم بين ماهيتي على صعيد أول وصيرورتي على صعيد آخر. وهكذا فالكتابة عندي فعلُ استذكارٍ، وهي، إلى ذلك، فعلُ نسيانٍ، أو هي عمليةُ استبدالِ اللغة القديمة باللغة الجديدة. لذا ساورني شعور عظيم بالارتياب عندما أقدمتُ على تأليف هذا الكتاب عن حياتي المبكرة وقد عشتُها في معظمها في القدسوالقاهرة وضهور الشوير. إذ ادركتُ أنني مقدم على عمل متناقض جذرياً هو إعادة بناء عالم في مصطلحات عالم آخر. كان ليّ أن أستخدم اللغة الانكليزية، ولكنْ كان عليّ أن أستذكر التجارب وأعبّر عنها بالعربية. طبعاً، كان من العبث إنكارُ التغاير والتباعد الكاملين بين هذين العالمين. ولكنْ لا يُعقل أن يكونا منفصلين وحدهما عن الآخر، كأنما نتيجةً لعملية بترٍ جراحية، ما داما قد تعايشا سنواتٍ وسنوات داخل شخص واحد. الأحرى أنهما كانا جسميْن متوازيْين، بل توأمين، يتحسّس واحدهما ايديولوجياً وروحانياً كلَّ عنصر غريب يتعذّر استيعابُه عند الآخر وينفعل إزاءه. لقد اختبرتُ دوماً ذلك الشعور بالغربة المزدوجة. فلا أنا حققتُ كلياً في العربية ما قد توصلتُ إلى تحقيقه في الانكليزية. هكذا طغى على كتاباتي كمٌّ من الانزياحات والتغايرات والضياع والتشوّه. ولكني كنتُ مدرِكاً في الأقلّ لكل ذلك وقد حاولتُ استظهاره في مؤلفاتي. فالذي عشتُه صبيّاً في البيت مع شقيقاتي وأهلي، مثلاً، اختلف كلياً عمّا قرأتُه وتعلّمتُه في المدرسة. تلك الانزلاقات والانزياحات هي قوام هذا الكتاب، وهي السبب التي يحدوني إلى القول إنّ هويتي ذاتها تتكوّن من تيارات وحركات لا من عناصر ثابتة جامدة. على أنّ الفكرة التي أحاول التعبير عنها هنا هي أنّ السبب الوحيد الذي مكّنني من خوض غمار هذا المشروع المتناقض الذي هو كتابة مذكراتي، هو أني، بعد سنوات من حياتي خارج العالم العربيّ، هي سنوات دراسة وتعليم وعيش وكتابةٍ كلها باللغة الانكليزية، اتخذتُ قراري، بُعَيد حرب 1967، في أن أعود سياسياً إلى العالم العربيّ الذي كنتُ قد أغفلتُه خلال سنوات التعليم والنضج الطويلة تلك. ولكنّ ما عدتُ إليه لم يكن له أن يكون عالم طفولتي، تلك الطفولة التي دمّرَتْها أحداثُ العام 1948 والثورة المصرية والاضطرابات الأهلية اللبنانية التي بدأتْ عام 1958. كان العالم العربيّ الجديد عالماً سياسياً وثقافياً - على الصعيديْن الشخصيّ والعام - يتكوّن من عناصر كثيرة، لكنّ علاماته الفارقة عندي كانت الهزيمةَ العربية وانبثاقَ الحركة الفلسطينية والدروسَ الخصوصية في اللغة والأدب العربيين التي كنتُ أتلقاها يومياً خلال عام بأكمله على يد الأستاذ أنيس فريحة، وهو معلّم رائع، ومَعِينٌ لا يَنْضب من الحكمة اللغوية في اللغات الساميّة كلها. إلى ذلك نما لديّ شعور متزايد بأنه إذا كنتُ أشعر بوجود هوّة من سوء التفاهم تَفْصل بين عالميّ الاثنين، عالم بيئتي الأصلية وعالم تربيتي، فإنّ مهمة تجسير تلك الهوّة إنما تقع عليّ وحدي من دون سواي. فلم يكن لي من خيار غيرُ السعي إلى هويتي العربية وتمثُّلِها تمثلاً، على رغم المحاولات الحثيثة التي بُذلتْ لإثناعي بالتخلي عنها خلال فترة تربيتي وبواسطة أهلي، وإنْ يكن بدرجة أقل. بعبارة أخرى، كان عليّ أن أعيد توجيه حياتي لتسلك حركة دائرية تعيدني إلى نقطة البداية مع أني كنتُ قد بلغتُ نهاية الثلاثين من عمري. اخترتُ أن أستعيد هويتي العربية، ولكني عربيّ لا يتلاءم تاريخُه تماماً مع تقدمه في العمر. ومن منظاري الجديد بوصفي عربياً بالاختيار، أعدتُ قراءةَ حياتي المبكرة بما هي حياة من البحث عن الانعتاق والتحرر من القوالب الجامدة للعائلة والدين والقومية واللغة أيضاً - قراءةً تعيد إليَّ ما كناُ أرغب فيه من تكيّفٍ أفضل وأكثر تناغماً بين ذاتي العربية وذاتي الأميركية. وكلمات أوغلتُ في ذلك الجهد ازددتُ اقتناعاً بأني إنما أسعى إلى تحقيق فكرة طوباوية. ذلك أنه لم يعد يوجد في حياتنا المعاصرة دعم كبير للفكرة القائلة بأنّ الانتماء العربيّ لا يزال يقتضي، بحكم العادة والتقليد، إقامة علاقة متنافرة مع الغرب. وأعتقد أنّ هذا الكتاب، فيما يؤول إليه، هو صورةٌ شخصية غير تقليدية لتلك العلاقة التي تنطوي على مقدار من التوتر، نعم، ولكنها لا تقتصر على العداء وحده. وآمل أن لا أبدو متبجِّحاً إنْ قلتُ إنّ الجديد في "ادوارد سعيد" المركّب الذي يظهر في خلال هذه الصفحات، هو عربيٌّ ادّت ثقافتُه الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإنّ تلك الثقافة، إذ تلقي ظلال الشكّ على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تَفْتح الآفاقَ الرحبة أمام الحوار بين الثقافات. بين عالم وآخر ولكنْ إذا كان تأليف الكتاب قد اقتضى المراوحة بين عالم وآخر، فإنّ استقباله في العالم الناطق بالانكليزية كان مراوحةً أكثر تعقيداً وتدويخاً. فقبل شهر من صدور هذا الكتاب في ايلول سبتمير 1999، كانت الحياة التي يصفها موضوعَ هجوم مذهل في مجلة كومنتري، الشهرية الاميركية اليهودية اليمينية المتطرفة. فقد زعم الكاتب، وهو مُحامٍ أميركيّ - اسرائيليّ مغمور، أنه أمضى ثلاث سنوات بكاملها ينقِّب عن حياتي المبكرة، مُجْرياً مقابلاتٍ مع عشرات من الأشخاص وقد عمد إلى تشويه شهاداتهم أو أغفالها كلياً، ومنصرفاً إلى قراءة الوثائق في القارات الأربع. وقد مَوَّل دراستَه نصّابٌ عالميّ أميركيّ - يهوديّ معروف أمضى وقتاً في السجن لتعاطيه الإجراميّ بما سمّي "سندات خزينة مزوّرة". وكانت خلاصةَ تلك التحريات المزيفة في معظمها هي "إثباتٌ" أني لستُ فلسطينياً حقاً، مع أنّ الكاتب بدا عاجزاً عن تحديد هويتي الفعلية. إنّ هجوم ذلك الكاتب هو هجومٌ مكشوف للطعن في مصداقيتي. وكانت عملية التزوير كلها معدّةً بهدف سياسيّ محدد هو إظهارُ أنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين عنما يتحدثون عن حق العودة. فإذا كان مثقف بارز يكذب، فما بالك بما قد يُقْدم عليه الناسُ العاديون من أجل "استعادة" أرضهم، تلك الأرض التي لم تكن لهم أصلاً؟ ولكنْ إلى جانب سَيلٍ من المراجعات، كانت ردود الفعل الأكثر إثارةً على الكتاب هي تلك التي صدرتْ عن أناس مذكورين في الكتاب ذاته، والكثير منهم لم أره ولا سمعتُ عنه منذ خمسين سنة. اكتشفتُ ألفرد كورونيل، الصبيّ الإسبانيّ اليهوديّ الذي كان يركب الباص معي إلى المدرسة الأميركية في المعادي، وهو الآن يعيش في البرازيل، منكفئاً على ذاته، ولا يزال يعتبرني أفضل صديق عرفه إطلاقاً، منذ إحدى وخمسين سنة تماماً. قال في رسالة كتبها لي إنه لا يذكر أيّ ظل لعداوة نشبتْ بيننا، على رغم قصة فلسطين التالية. واكتشافي الآخر هو آدا، أرملة الدكتور فريد حداد، التي تعيش الآن في اوستراليا مع ابنيها الابن البكر طبيب سمّي على اسم جده النادر المثال، وديع وابنتها. قبل أن تغادر الشرق الأوسط نهائياً، عام 1964، عملتْ آدا معلّمةً عند مسز بولِن المديرة العجوز لمدرسة "إعدادية الجزيرة" في بيروت، حيث أنشأتْ هذه الانكليزية العاصية مدرسةً على مثال المدرسة التي كانت لها ولزوجها في القاهرة. والأشد مفارقةً في الأمر أنّ آدا أبلغتني على الهاتف من منزلها في سيدني أنّ فريد كان طبيب مستر بولِن أيضاً. فإذا فكرةُ أنّ معذِّبي الرئيسيّ وأنا طفل قد كان في عناية نموذجي البطوليّ الرئيسيّ مفاجأةٌ لا توصف. وأخيراً، بعد أسابيع قليلة من صدور كتابي في انكلترا، تلقيتُ رسالة من مادلين دابل، التي تعيش الآن في لشبونة، والتي كانت في "مدرسة القاهرة للأولاد الاميركيين"، فملأت الفراغات عندي في ما يتعلق بالكثير من زملائنا. والأكثر إثارةً للمشاعر أنها أرسلتْ صورةً لي وقّعتُ لها عليها عام 1948 لم يتغيّر خطي كثيراً منذ ذلك الوقت بصفتي "بابا غوميز"، الجنتلمان الإسبانيّ العجوز الذي مثّلتُ شخصيته في المسرحية المدرسية عن شوبان التي أصفها في هذا الكتاب. ولعلّ المفاجأة الأكثر إشباعاً هي التي وردتْ من ميشلين ليندل، الصبية التي طالما سحرتني وأنا صبيّ عندما كنتُ أشاهدها ليلةً بعد ليلة في دور أليس في مسرحية "أليس في بلاد العجائب" منذ أربع وخمسين سنة في القاهرة، وقد منعني خجلي الشديدُ حينها من أن أتحدث إليها. وها نحن نتراسل بسهولة عبر البريد الالكتروني، هي المحامية الساكنة في أوستراليا أيضاً وأنا البروفسور الساكن في نيويورك. ربما توجد عناصر لتأليف كتاب جديد يسجِل ردود الفعل هذه على الكتاب وسواها. والكثير منها وَرَدَ من قراء عرب، لا من مجرد فلسطينيين يشاطرونني الشعور بأنّ نشأتهم وهويتهم التالية هما بمثل ارتباك الهوية التي أصفها في مذكراتي أو بمثل تعقِّدها على الأقل. وقريباً تصدر ترجمة عبرية من الكتاب، وسوف أراقب ردود الفعل عليها بافتتان عظيم. كذلك أنتظر بشغفٍ كبير ردودَ فعل القراء العرب على ترجمة فواز طرابلسي الأنيقة. لقد سبق لزميل عربيّ أنْ قال إنّ بعض ما ورد في كتابي لا يُسِرّ به المرءُ إلا لطبيبه النفسانيّ. وأنا طبعاً مدرك أنّ الكتابة الصريحة عن الذات نادرة في تراثنا. وإني لآمل أن يُسْهم هذا الكتابُ في تنمية هذا التقليد. فإذا تحقق ذلك، بلغتُ الغايةَ في الرضى. وربما عليّ أن أضيف أنّ هذا الكتاب ليس الجزء الأول من مذكراتٍ متسلسلة. بل إنه كلُّ ما نويتُ أن أكتبه في هذا النوع الأدبيّ. ابعاد السيرة وفي مقدمة اخرى ضمها الكتاب في طبعته الانكليزية يوضح ادوارد سعيد ابعاد سيرته قائلاً: كتبتُ معظم هذا الكتاب خلال فترات من المرض أو العلاج، أحياناً في منزلي في نيويورك وأحياناً أخرى حين كنتُ أنعم بضيافة أصدقاء أو مؤسسات في فرنسا ومصر. بدأتُ العمل عليه في أيار 1994 خلال فترة نقاهة على أثر ثلاث وجبات أولية من العلاج الكيميائيّ لمرض سرطان الدم. بعطف وصبر مبذولين بلا حساب، اعتنى بي دايل جونسون والممرّضاتُ الرائعات في "وحدة العلاج الكيميائي ونقل الدم" التابعة لمستشفى لونغ آيلاند اليهوديّ خلال الأيام والأسابيع والشهور التي أمضيتُها في عنايتهم. وخلال السنوات الخمس التي استغرقها تأليفُ هذا الكتاب، تحمّل معي أفراد عائلتي - مريم ووديع ونجلا - نوبات المرض والغيابات والعلاجات إضافة إلى تحمّلهم حالتي العامة الصعبة الاحتمال أصلاً. وقد سهّلتْ فكاهتُهم ودعمُهم غير المشروط وقوّتُهم عيشتي في تلك الأثناء إلى حد كبير، مع أنّ الأمر لم يكن دائماً بمثل تلك السهولة بالنسبة إليهم هم. وأنا عميق الامتنان لهم على ذلك. منحني صديقي ريتشارد بوارييه، وهو خيرةُ نقّاد الأدب الأميركيين تأكيداً، التشجيعَ منذ وقت مبكر، وقرأ مسودّات مختلفة من هذا الكتاب، وكذلك فعل ديردري وآلان برغسون. وأنا مَدين لهم حقاً. ويجب منح زينب استرابادي، مساعِدتي الممتازة في جامعة كولمبيا، جائزةً تقديرية لمقدرتها على فكّ ألغاز خطّي وطبعه في شكل مقروء والمساعدة في مسودّات عدة، وذلك كله دائماً بصبر ومن دون تذمّر. وقد منحني سوني ميهتا صداقته ودعمه، وهو الناشر والرفيق النادر. وأود أن أشكر أندرو وَايلي مرة أخرى لمتابعته هذا العمل من البداية حتى النهاية. إنه لأمر تقليديّ، بل روتينيّ، أن يشكر الكاتب محرِّري كتبه. ولكنْ في حالتي أنا، لا تنطوي مشاعرُ المودة والإعجاب والامتنان التي أحملها للصديقتَين فرانسِس كودي، من دار "غرانتا"، وشيللي وانغر، من دار "كنوبف" على أية مجاملة. فلقد ساعدتني فرانسِس على أن أتبيّن بوضوح ما أحاول القيام به وقدّمتْ مقترحات ثاقبة من أجل نَحْت مخطوطةٍ مثقلة ومضطربة لتتخذ الشكل المناسب. أما سيللي فقد جلستْ معي بصبر وفكاهة دائمين، وقدّمت النصح خلال مراجعتنا معاً لمئات الصفحات من النثر الخام المكتوبة غالباً بطريقة متكلّفة. أما الدكتور كانت راي فقد أعانني، بعظيم خبرته الطبية وإنسانيته الرائعة، على أن أستمر في الكتابة وأن أنجز الكتاب أخيراً. ومنذ بداية مرضي، تعاونَ هو ومريم، بانسجام، على منعي عملياً من الانهيار. بامتنان، أهدي هذا الكتاب إلى مريم لدعمها المحِبّ. وإلى كانتي لمهارته الإنسانية وصداقته.