هل تتكرر القصة؟ بدا لي أنها قد تتكرر عندما قرأت مقالا في صحيفة "تايمز" أواخر الشهر الماضي كتبه مراسلها الديبلوماسي ريتشارد بيستون، مشيرا الى تقارير أميركية بأن العراق لا يزال يحاول صنع أسلحة للدمار الشامل، واحتمال رد عسكري من قبل الرئيس الجديد جورج بوش. وكانت مصادر استخباراتية أثارت امكان عودة العراق الى تصنيع السلاح الكيماوي والبيولوجي في ثلاثة مصانع في الفلوجة الى الغرب من بغداد. وخضع هذا المجمع الصناعي لمراقية فرق التفتيش الدولية حتى اجبارها على مغادرة العراق في 1998 . ثم تعرض للقصف أثناء عملية "ثعلب الصحراء" التي تلت المغادرة. وجاء في مقال بيستون أن "مصنعين من المصانع الثلاثة "قد اصلحا، فيما عاد الثالث الى الانتاج. المصانع الثلاثة ذات استعمال مزدوج، أي ان لها قدرات مدنية وتسلحية في الوقت نفسه. وينتج واحد منها مادة الكلورين المستعملة في الصناعة المدنية، لكن يمكن استعمالها أيضا لتصنيع الغاز السام، فيما ينتج آخر الزيت المستعمل لصيانة المحركات، لكنه يدخل أيضا في تصنيع مادة الرايسين العضوية السامة". هذا النوع من المعلومات يعيد الى الأذهان التقارير الكثيرة الخاطئة من الاستخبارات الأميركية عن السودان، خصوصا تلك التي أدت في آب أغسطس 1998 الى تدمير مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، ثم تدمير السفارة الصينية في بلغراد أثناء حرب كوسوفو، ومن هنا يجب معاملتها بأكثر ما يمكن من الحذر. وشهدت الأعوام الأخيرة سيلا من المعلومات المضللة عن العراق - لا شك ان مصدر البعض منها كان جهاز "موساد". موقف بريطانيا، كما طرحه واحد من المسؤولين هو أن "معلوماتنا تتفق مع التقدير الأميركي. لدينا شكوك قوية حول هذه المصانع، لكن لا نملك برهانا على ان تنتج أسلحة الدمار الشامل، ولهذا نريد عودة مفتشي التسلح للتحقيق". لكن الواقع ان مصدر الكثير من معلومات بريطانيا عن العراق هو الولاياتالمتحدة نفسها. وكانت السياسات الخاطئة تجاه العراق من قبل الدولتين السبب في سحب فرق التفتيش الدولية. وكانت هذه الفرق مخترقة بكثافة من مختلف اجهزة الاستخبارات، التي يعمل كل منها حسب اجندته الخاصة. لا يتوقع من الاستخبارات الأميركية، بعدما قدمت هذه الادعاءات، أن تتراجع عنها الا عند بروز أدلة موثوقة مناقضة، وهو أمر مستبعد حالياً. من هنا ليس أمامنا سوى محاولة استقراء تفكير الرئيس الأميركي الجديد وكبار مسؤوليه. ويمكننا في هذا المجال ان نجزم أن أي قرار من بوش سيحظى فورا بدعم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، لأن الأخير سلم كل الأوراق البريطانية الى واشنطن لتلعبها نيابة عنه. اننا سنقوم بدور الحليف الوفي الذي ينفذ كل ما يطلب منه. الأمر نفسه ينطبق على عملية السلام. تحظى سياسة التشدد تجاه صدام حسين بشعبية كبيرة في الولاياتالمتحدة، حيث نجد لا مبالاة وجهلا بمعاناة العراقيين يفوق حتى ما في أوروبا الغربية. وبالطبع فان التشدد يلقى ترحيبا كبيرا من اللوبي الاسرائيلي النافذ في واشنطن وغيرها. ولا شك ان هذا كان من بين أسباب تعهد بوش في خطاب التسلم التصدي لانتشار أسلحة الدمار الشامل، ثم تأكيده بعد أيام من ذلك على أن أميركا مهيئة للهجوم على العراق في حال ثبوت عودته لصنع تلك الأسلحة. تدمير المصانع باستعمال صواريخ "كروز" مهمة سهلة - كما برهن على ذلك قصف مصنع الشفاء - ولا يتوقع ان ترافقها خسائر كبيرة في أرواح العراقيين. وسينظر الأميركيون الى مواجهة بوش لعدو والده اللدود على انها تأكيد لهيبة أميركا في العالم، وبرهان على صلابة الرئيس الجديد، وذلك دون كلفة كبيرة للولايات المتحدة. واذا كان للهجوم على العراق بصواريخ "كروز" سيثير اعتراض بعض الأطراف الدولية فان وزارة الدفاع الأميركية، المسؤولة الرئيسية عن الملف العراقي، لا تكترث لذلك. وسيكون للهجوم تأييد واسع في الكويت المستغرب ان أجواء الخوف مستمرة فيها حتى الآن، فيما سترفضه غالبية العالم العربي، حيث الألم العميق لمعاناة الشعب العراقي. روسيا والصين ستعترضان بقوة، فيما ستوجه فرنسا بعض الانتقادات. أما الاتحاد الأوروبي فلن يجد الكثير مما يقوله بسبب الخلافات الداخلية. لا شك ان الرئيس بوش يعرف الآن محدودية الخيارات المتاحة. وكان أكد خلال حملته الانتخابية على أن موقفه من العراق سيكون أقوى من ادارة بيل كلينتون. ولا بد ان الطاقم الجديد يدرك أن دعم محاولات المعارضين العراقيين الاطاحة بصدام حسين ينطوي على اخطار كبيرة بالنسبة لأميركا، خصوصا وان كارثة "خليج الخنازير" لا تزال حية في الأذهان. اخذا بهذه الاعتبارات يبدو ان هجوما صاروخيا على تلك المصانع أقرب احتمالا مما يرى كثيرون. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.