محلات تجارية مغلقة لشح الزبائن وأخرى فارغة لشح الخضروات والسلع الغذائية الاخرى لتعذر وصولها من قرية الى قرية. ازدهار لحم الدجاج مقارنة باللحوم الحمراء. مئات الشبان يلقون بانفسهم على كراسي المقاهي الشعبية منذ ساعات الصباح هاربين من نظرات افراد عائلاتهم المطالبة بالحد الادنى من المصروف اليومي لا يعودون الى عائلاتهم الا في المساء. وآخرون مصلوبون على الحواجز العسكرية المنصوبة على مداخل مدنهم وقراهم بعد فشل محاولاتهم للوصول الى ما تبقى من اماكن عمل لهم. فواتير الكهرباء والماء والتليفون ووسائل التدفئة واقساط المدارس تتكدس في جيوب الآباء والامهات لا تعرف لها للخروج سبيلا. سيارات تعبت أكثر من ركابها من الطرق الوعرة والمليئة بالحفر والطين يمضي الناس في عبورها ساعات بدل الدقائق التي كان يستغرقها "المشوار" ذاته في الماضي القريب. موظفون تسلل الى قلوبهم اليأس من امكان تسلم رواتبهم غير منقوصة وفي موعدها المحدد. صور من المشهد اليومي لحياة ثلاثة ملايين فلسطيني بات اقتصادهم ولقمة عيشهم هدفاً استراتيجياً تسعى اسرائيل الى تحقيقه منذ 160 يوماً من خلال عقاب جماعي وحصار عسكري محكم لم يسبق لهما مثيل... والعالم، يتفرج. الحصار الحالي ليس مثل الحصارات السابقة، لان اسرائيل لم تكتف بوضع الحواجز واغلاق الطرق المؤدية الى داخل الخط الاخضر اسرائيل لتحرم بذلك الاف العمال من الوصول الى اماكن عملهم في مصانعها وورشها، بل قطعت اوصال الضفة الغربية وقطاع غزة بحيث بات من الصعب على الانسان الفلسطيني التنقل بين منطقة وأخرى داخل "الكانتونات" الاربعة التي خلقتها المستوطنات اليهودية في الضفة واربعة شبيهة بها في قطاع غزة، وايضاً بين المدينة وقضاها وبين القرى نفسها. ووصل الامر في معظم الاحيان الى منع المواطنين من التحرك من حي الى آخر في المنطقة السكنية الواحدة. سعر كيلو البندورة الطماطم في رام الله اصبح ضعفي سعره في اريحا. الخضروات والفواكهة مكدسة في الاغوار، لا تجد امامها سبيلاً الى اسواق نابلس ورام الله وبيت لحم. سيارات الشحن التي يجازف اصحابها بالتنقل فيها عبر الطرق الوعرة والموحلة لايصال المواد الغذائية من مكان الى آخر، يجبرون على التوقف على الحواجز المتربصة بهم في زوايا الطرق. اذا حالفهم الحظ اجبروا على العودة من حيث اتوا ما يعني البحث عن طريق التفافي آخر. وان اتعسهم الحظ، دمرت السلع التي يحملونها وداست عليها بساطير جنود الاحتلال ونالوا قسطاً من الضرب والاهانة. المسافات بين المدن اصبحت طويلة. والمزارعون لم يعودوا يحلمون بالخروج من قراهم لجلب ضرورات المنزل من المدينة ويكتفون بما هو في البيت من زيت وزيتون وزعتر وسبانخ وما يفلحون بايديهم. فالرحلة شاقة ومتعبة وخطرة الى حد المجازفة بالموت في اجواء لا يستطيع احد ان يضمن فيها "مزاج" او "ضمير" الجنود الذين يقول مرؤوسيهم انهم "تعبوا ويئسوا ويمرون بحالات نفسية صعبة" تبرر عمليات اطلاق النار من دون سبب او "بسبب الارهاق". كان العامل زياد ابو صوي 22 عاماً من قرية ارطاس الذي سقط برصاص الجنود الاسرائيليين فجر امس الاثنين أخر ضحايا التنقل من اجل لقمة العيش. اذ اطلق الجنود المتمركزون خلف ساتر ترابي على مدخل قرية الخضر المجاورة نيران اسلحتهم باتجاه سيارة تاكسي من نوع "فورد" تقل 25 عاملاً فلسطينياً في الساعة السادسة والنصف صباحاً اثناء توجههم الى اماكن عملهم، فقتل ابو صوي وجرح اربعة من رفاقه، فيما اضطر الباقون للعودة الى منازلهم من دون ثمن الرغيف. وبسبب الحصار العسكري الاقتصادي المحكم بات ما يزيد عن مليون وثلاثمئة الف فلسطيني يعيشون في ادنى مستوى تحت خط الفقر. ووفقاً لمعلومات المجلس الاقتصادي الفلسطيني الاعلى للتنمية والاعمار بكدار فان هذا العدد من السكان الذين يشكلون 45 في المئة من العدد الكلي في الضفة والقطاع يعيشون على ستة شواكل يومياً اقل من دولار ونصف دولار بقليل، فيما تبددت مدخرات معظم الناس الذين انفقوها في الاشهر الاخيرة. وترك الحصار بصماته ايضاً على المؤسسات والمصانع التي منحت موظفيها اجازات غير مدفوعة الراتب، وباتت ظاهرة "تسريح العمال" كابوساً يضاف الى كابوس اغلاق سوق العمالة داخل الخط الاخضر. وليست حال المستثمرين الفلسطينيين بافضل من حال المواطنين العاديين. فأولئك الذين حصلوا على قروض من البنوك لتمويل مشاريعهم لم يعد بامكانهم، بسبب الحصار، تسديد دفعات القروض. وأكد المدير العام ل"بكدار" الدكتور محمد اشتية ل"الحياة" ان الاقتصاد بات، منذ الانتفاضة، يعمل ب 25 في المئة من وتيرته العادية. ولا يعرف المواطن الفلسطيني كيف يتدبر اموره ببضعة شواكل ضمن مستوى معيشة مرتفع جداً. وحذرت المحافل الاقتصادية الفلسطينية من خطورة استمرار الوضع المتدهور في الشارع الفلسطيني الذي بدأ يعيش ظواهر مجاعة حقيقية من شأنها ان تلحق "خطراً جسيماً بالسلطة اذا لم تتمكن من مواجهة استحقاقات المواطنين من رواتب للموظفين وخلق فرص عمل للعاطلين عن العمل الذين تزيد نسبتهم عن 50 في المئة من مجموع القوى العاملة" كما اوضح اشتية. واضاف ان السلطة الفلسطينية لا يوجد لديها عائدات تواجه بها مصروفاتها "وهذا نذير شؤم". وزاد ان سياسة العقاب الجماعي الذي تمارسه الحكومة الاسرائيلية بزعامة ايهود باراك المنتهية ولايته بالاضافة الى منع دخول وخروج البضائع الفلسطينية وعدم تحويل المستحقات المالية للسلطة ادى الى عجز يبلغ 55 مليون شيكل شهرياً. وغطت الضرائب التي تجبيها اسرائيل من الفلسطينيين من جمارك وضرائب القيمة المضافة والمقاصة الضريبية وغيرها ما نسبته 70 في المئة من رواتب الموظفين الحكوميين الذين يبلغ عددهم 120 الف موظف. وبلغ اجمالي التحويلات لصالح السلطة 230 مليون شيكل شهرياً. وشكلت عوائد السلطة من هذه الضرائب 62 في المئة من الموازنة الفلسطينية. ومنذ الانتفاضة الفلسطينية تحتجز الحكومة الاسرائيلية هذه الاموال التي يبلغ حدها الادنى 340 مليون دولار وترفض تحويلها للسلطة الفلسطينية. ويأتي ذلك في اطار الضغوط الهائلة التي تمارسها اسرائيل على السلطة لارغامها على تقديم تنازلات في المفاوضات او في ساحة المواجهات المستمرة في الشارع الفلسطيني. يضاف الى ذلك التوقف شبه الكامل لعجلة الاقتصاد الفلسطيني، الامر الذي يهدد السلطة بالعجز عن مواجهة مصروفاتها اليومية. ودعا اشتية الدول العربية الى تعيين "شركات تدقيق عالمية" اسوة بما تفعله الدول المانحة قائلاً انه لا يعقل ان يستغرق صرف مساعدات "طارئة" هذا الوقت بينما الاراضي الفلسطينية مهددة بالدمار.