كان الأمر محض صدفة أن يخرج مقال الصحافي المصري المعروف محمد حسنين هيكل في صحيفة "السفير" اللبنانية قبل ثلاثة أيام من الإنتخابات الإسرائيلية. ما هي العلاقة بين المقال والإنتخابات هنا؟ العلاقة تتمثل في أن الفكرة التي شكلت محور المقال - سيطرة مبدأ القوة على الفكر السياسي الإسرائيلي ونتائج ذلك في حرب حزيران - عبرت عنها نتيجة الإنتخابات التي عاد فيها الناخب الإسرائيلي مرة أخرى إلى فكرة القوة في هذه المرحلة. ولذا، فبقدر ما يعيدنا المقال إلى قراءة صفحات من ماضي الصراع العربي - الإسرائيلي، تدفعنا نتيجة الإنتخابات في الإتجاه نفسه أيضاً. لكن هناك إختلافاً بين ما يصرح به مقال هيكل، وما توحي به نتيجة الإنتخابات الإسرائيلية وردود الفعل العربية، والفلسطينية تحديداً، عليها. وهو إختلاف يقتضي التعليق على أحدهما بقراءة الآخر. كتب العرب كثيراً عن حقيقة أن الصراع العربي - الإسرائيلي يمثل حالاً تاريخية حية لمعادلة الصراع بين حق يفتقد إلى عنصر القوة وبين قوة تفتقر إلى منطق الحق. لكن في إطار هذه المعادلة تمكنت قوة السلاح السافرة من فرض أمر واقع. بل إن الإسرائيليين يبدون، وكما تشير إنتخاباتهم الأخيرة، جذلى وكأنهم يشاهدون مقولة "الشعب المختار" تتحقق على مسرح الأحداث وعلى أرض الواقع. كأن هذه المقولة تحولت في الوعي الإسرائيلي إلى حقيقة تاريخية، وليس مجرد تعبير تتناقله الكتب المقدسة، ويكاد صداه لا يتجاوز لغة الياديش اليهودية. كتب العرب عن كل ذلك لإثبات حقيقة بدت لهم بسيطة، وهي أن هناك فرقاً شاسعاً بين فرض أمر واقع بقوة السلاح والإكراه، وبين تغيير الواقع وفقاً لمنطق العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ. فرض الواقع بقوة السلاح قد يخلق واقعاً، وقد فعل، لكنه سيظل واقعاً معلقاً، يتكئ على مدى قدرة ذلك السلاح على الفعل وعلى الفرض. لكن السؤال الذي بقي من دون معالجة يتعلق بمدى قدرة القوة على تغيير مفهوم التاريخ، وتغيير علاقته بالجغرافيا، ومن ثم تغيير الإطار التاريخي لمفهوم الحق ودلالته. إن طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي بكل تعقيداته، وتداخلاته مع المصالح الإقليمية والدولية، تجعل منه حالاً تاريخية نموذجية للتعامل مع مثل هذا السؤال. عاد هيكل في مقاله المذكور إلى المعادلة نفسها، ولكن من خلال قراءة أرشيف الوثائق الإسرائيلية عن حرب حزيران 1967، ليجد أن تحولاً كبيراً حدث في السياسة الإسرائيلية بين مرحلة التخطيط لهذه الحرب، وبين مرحلة الحرب ذاتها، أو تنفيذ ما تم تخطيطه لجهة إعتماد "السلاح" أداةً وحيدةً لحل النزاع و "بظن أن تفوق السلاح قادر" على تحقيق ذلك. "وفي المحصلة النهائية فإن غواية التفوق أساءت في حين كان ظنها أنها أخلصت وزادت". والغريب أن المسكون بقضية العلاقة بين التاريخ والجغرافيا لم يستطع مقاومة إلحاح البعد الأخلاقي في قراءته التاريخ. لماذا يعتقد هيكل أن "غواية التفوق" أساءت؟ لأن تفوق السلاح لا يكفي وحده لتحقيق النصر وحل الأزمة. ولذا جاءت الإساءة، كما يقول، من أن القيادة الإسرائيلية إعتمدت على هذا التفوق وحده، الأمر الذي ترتب عليه أن "تفوق السلاح أنساه حدوده، فإذا هو يجوز على الحيز المخصص له في الإستراتيجية العليا التي يخدمها". كانت الإستراتيجية العليا للحركة الصهيونية تتمثل في "الفصل بين الناس والأرض" في فلسطين، وفتح ثغرة ينفذ منها المشروع الصهيوني إلى ميدان معركته. وقد تأتت الفرصة لتحقيق ذلك بعد قيام الدولة الإسرائيلية، ثم نجاحها بالتوسع والإستيلاء على 78 في المئة من أرض فلسطين، والتطلع "بثقة نحو تحويل هذا النجاح إلى نصر". لكن النصر لا يمكن تحقيقه في هذه الحال إلا بالإنفراد بمنطقة الشام التاريخية، معزولة عن وديان الفرات والنيل. وإزاء ذلك كان لا بد من عزل مصر عن الشام. وكان هذا هو الهدف الإستراتيجي لإسرائيل من وراء حرب الأيام الستة في عام 1967، كما تثبت الوثائق الإسرائيلية ذلك بحسب هيكل. ولتحقيق ذلك كانت خطة الحرب الإسرائيلية تنص أولاً على إحتلال غزة ورفح والعريش ووسط سيناء، "وأثناء ذلك تطويق القوة الرئيسية للجيش المصري وتدميرها"، وفي الوقت نفسه تنص الخطة على عدم الإقتراب من الساحل الشرقي لقناة السويس. وثانياً، تجنب أي أشتباك على الجبهتين السورية والأردنية، إلا في حالات الضرورة، وللدفاع عن النفس. بعبارة أخرى، لم يكن إحتلال الضفة الغربية والجولان ضمن أهداف خطة الحرب الأساسية. والهدف واضح هنا، وهو عدم إستعداء منطقة الشام بإعتبارها المنطقة الحيوية لإسرائيل، ومن ناحية أخرى إرغام مصر على الإنكفاء عن هذه المنطقة، وعلى القبول بإتفاق مقابل إستعادة سيناء. لكن الذي حدث فعلاً في الميدان هو أن الجيش الإسرائيلي تجاوز في عملياته وتوسعه أهداف الخطة. ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى عاملين مهمين: الأول كان إستيلاء جنرالات الجيش على القرار السياسي في إسرائيل على رغم مقاومة القيادة السياسية لذلك، ممثلة برئيس الوزراء ليفي إشكول آنذاك. والعامل الثاني كان إنهيار الجبهات العربية كلها بسهولة وسرعة لم تكونا في حسبان القيادة الإسرائيلية، حيث مثّل هذا الإنهيار إغراءً لم يتمكن الجنرالات من مقاومته، ومن ثم فإن "الزحف العسكري أغوته مساحة الأرض المفتوحة"، من دون إعتبار لما تتطلبة الإستراتيجية العليا للدولة. وكان أن تم إحتلال سيناء بكاملها بما في ذلك خط الماء على القناة، وإحتلال الضفة الغربية بكاملها ومعها القدسالشرقية، بالإضافة إلى إحتلال هضبة الجولان. وقد تمت كل هذه التوسعات الإضافية تقريباً من دون مقاومة أو قتال. والنتيجة التي ترتبت عن هذه التجاوزات، كما يرى هيكل، أنها إستفزت مصر وأهانتها، مما فرض عليها التمسك بالمقاومة والتطلع نحو الشام كحليف طبيعي لمواجهة المشروع الصهيوني. ومن ناحية أخرى، فإن عدم القدرة على مقاومة إغراء التوسع في الشام إستعدى هذه المنطقة على عكس ما كانت الخطة تهدف إليه. وقد إسشهد هيكل بأقوال كثيرين من أعضاء القيادة الإسرائيلية اعترفوا بخطأ تجاوز حدود خطة الحرب الأصلية، ومنهم وزير الدفاع موشي دايان وكذلك رئيس الوزراء إشكول الذي قال بحسب الوثائق: "إننا حوّلنا كل العرب إلى أعداء لنا، وجعلنا منهم جميعاً جبهة واحدة ضدنا. وهذا ما أخشاه". ومن ذلك يتوصل هيكل إلى القول بأن السلاح الإسرائيلي في حرب حزيران "صنع نجاحاً لا شك فيه، لكن النجاح وحده لا يصنع نصراً". ومن ذلك أيضاً يتوصل إلى نتيجة كبرى تقود إليها الوثائق الإسرائيلية، وهي أن الحل الذي كان صعباً قبل سنة 1967"أصبح مستحيلاً بعدها". إلى هنا نأتي إلى الأسئلة التي تفرضها هذه القراءة من قبل هيكل للوثائق الإسرائيلية، ولتحولات الصراع العربي - الإسرائيلي، والنتائج التي ترتبت عنه حتى الآن. هل صحيح، مثلاً، أنه كانت هناك إمكانية حل قبل 1967؟ وأن هذه الإمكانية إنعدمت بعد ذلك؟ ثم ما هو هذا الحل الذي كان ممكناً، وأصبح مستحيلاً؟ وهل يكفي الإعتماد على ما قالته الوثائق الإسرائيلية عن قناعة القيادة الإسرائيلية بخطأ تجاوز حدود خطة الحرب الأصلية وأهدافها، لمعرفة الإستراتيجية العليا للدولة العبرية؟ وهل صحيح ما تصورته القيادة الإسرائيلية من أن عدم إحتلال الضفة الغربية والجولان كان سيفرض على الشام السكوت والإهتمام بسلامتها فقط؟ ثم حتى مع إفتراض أن ضفة القناة نجت من الإحتلال، هل كان بإمكان مصر الإنسحاب من المشرق؟ هذه بعض أسئلة، لكن غيرها كثير لا يتسع المجال لأن نأتي عليها هنا. بالنسبة الى السؤال الأول ليس واضحاً تماماً ما المقصود ب "الحل" الذي كان ممكناً، ثم أصبح مستحيلاً. إن كان المقصود بذلك الحل العسكري، فإن مثل هذا الحل لم يكن ممكناً لا قبل 1967 ولا بعدها، لأن الإفتراض الذي قامت علية خطة الحرب الأساسية يقول أن سورية إذا لم تتعرض أراضيها للإحتلال فإنها ستجد نفسها مرغمة على قبول إحتلال فلسطين. وهذا إفتراض غير منطقي وغير عملي في الوقت نفسه. فمنطقة الشام بأكملها بقدر ما هي منطقة حيوية لإسرائيل، فإنها كذلك وأكثر بالنسبة الى سورية. ومن ثم فالصدام بين الطرفين كان محتماً بمجرد قيام الدولة الإسرائيلية. ولعل في هذا ما يفسر حقيقة أن مسار السلام السوري هو من أصعب المسارات، بعد المسار الفلسطيني. بل إنه يكاد ينافس الأخير في صعوبته. وبالمنطق نفسه لم يكن في قدرة مصر الإنسحاب من الشام كلية بما يمثله من خلفية إستراتيجية لها. فاحتلال أجزاء من أرض مصر، حتى من دون أن يطال ذلك القناة، يدفع بمصر أكثر في إتجاه الإرتباط مع الشام في مقاومة الإحتلال وليس العكس. أما إذا كان المقصود بذلك الحل هو القبول العربي ثقافياً، فإن هذا الحل لم يكن وارداً منذ البدايات الأولى للصراع. بل إن هذا الرفض القاطع كان السبب الرئيسي للصدام الدموي الذي بدأ محدوداً في فلسطين، ثم إمتد ليشمل العالم العربي كله بعد ذلك. بعد ذلك نأتي إلى قناعة القيادة الإسرائيلية بخطأ تجاوز حدود خطة الحرب الأصلية وأهدافها. كان المنطق يقتضي أن تتصرف هذه القيادة بعد الحرب وفقاً لما كانت تراه من تجاوز في هذه الحال. وبالتحديد كان من المفترض أن تعيد ما تم إحتلاله خطأً من الأراضي إلى أصحابها، على الأقل على أساس من مبادئ تفاوضية مرنة. لكن الذي حدث كان على العكس من ذلك تماماً. تحولت تلك الأراضي المحتلة إلى أوراق تفاوضية صعبة، تتطلب ثمناً باهظاً لإعادتها إلى أصحابها سواء في مصر أو سورية أو الفلسطينيين. فإستعادة سيناء تتطلب إخراج مصر من معادلة الصراع العسكري. وبذلك تحقق جزء كبير مما كانت تهدف إليه حرب حزيران. والغريب أن هذا تحقق بعد حرب رمضان التي نجحت فيها مصر بإستعادة الضفة الشرقية لقناة السويس. أما إستعادة الضفة الغربية فمرت برحلة أكثر تعقيداً، وأكثر إيلاماً من ذلك. ولا يزال معظم الضفة تحت الإحتلال حتى بعد كل التنازلات التي قدمها الفلسطينيون. أما هضبة الجولان فلا تزال هي الأخرى تحت الإحتلال أيضاً. بل إن اليمين الإسرائيلي، وقد تسلم الحكومة الآن، يرفض بشكل قاطع إعادتها إلى سورية. من الواضح، إذاً، أن تغييراً حدث في الإستراتيجية الإسرائيلية، وهو تغيير لا يسمح بالقول أن تفوق السلاح في حرب حزيران أساء من حيث أراد أن يخدم هدف الإستراتيجية العليا للدولة العبرية. وذلك لأن النتائج التي قاد إليها الأسلوب الإسرائيلي في إدارة الصراع لا تدعم فكرة الإساءة هذه. ولعله من المفيد الإشارة في هذا الصدد إلى أن كل ما كان مرفوضاً عربياً قبل 6719، أصبح مقبولاً بعدها، بدءاً بمبادرة يارنغ التي قبلها عبدالناصر عام 1969، مروراً بإتفاقات كامب ديفيد وإنتهاء بأوسلو. ولم يكن ذلك ليحدث لو لم تتحول مصر إلى وسيط في عملية السلام، بقدر ما أنها شريك عربي فيها. وهذا يعني أن الصيد "بالرمح المقذوف" على الجبهة الجنوبية في حرب حزيران حقق الكثير من أهدافه، ولو متأخراً. ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن الخطوة الأولى في إتجاه "عزل الجغرافيا عن التاريخ أي الفصل بين الناس والأرض" قد تحققت على المستوى العربي كله، وأن الثغرة المطلوبة لنفاذ المشروع الصهيوني تمت توسعتها بأكثر مما كان متصوراً في النصف الأول من القرن الماضي. ومما له دلالته هنا أن فوز شارون المتورط في مذابح غزة وصبرا وشاتيلا، لا يثير أي إستنكار رسمي عربي. على العكس، كان عرفات من أوائل المهنئين له على رغم أنه كان مهندس إجتياح لبنان والشتات الفلسطيني الثالث. إن ما إفتقدته إسرائيل بإعتمادها على قوة السلاح، وفرته أطراف المواجهة العربية كلها، بما في ذلك مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، وعبر مراحل الصراع المختلفة. وإذا كانت نقطة الضعف لدى الطرف الإسرائيلي تتمثل في الإنسياق بإستمرار، وبغير حساب، وراء إغراء تفوق السلاح، فإن نقطة الضعف العربية القاتلة تتمثل في التخلف" تخلف الأنظمة العربية، وتخلف مفهومها عن الصراع، وتخلف تخطيطها وأدائها داخل أتونه بمستوياته المختلفة. * كاتب سعودي.