بدأت أعداد متزايدة من الفتيات والنساء العيش وتحمل مسؤوليات الحياة من دون رجل أو زوج. بعضهن اختار هذا الوضع بإرادة واقتناعٍ شخصيين. فهن إما غير راغبات في الزواج والأمومة، ولهن أحلام خاصة في أدوار اجتماعية خارج البيت والزواج، مثل العمل والفكر والإبداع، وإما يؤجلن الزواج الى حين يصبحن قادرات على تحمل مسؤوليات الارتباط اقتصادياً ونفسياً. وهناك فتيات لم يخترن العيش بمفردهن. فبينهن من ترغب في الزواج، ولا تجد الشريك المناسب الذي يقدر طموحاتها خارج الزواج، ويكون عوناً لها على مزيد من التحرر والانطلاق. وهناك فتيات لا يحلمن إلا بالزوج والبيت والأمومة، ولكن انتهى بهن الأمر إلى العيش بمفردهن نتيجة صعوبة الوضع الاقتصادي. ولا ننسى المطلقات اللواتي يعشن بمفردهن. تتعدد الأسباب، والنتيجة واحدة، وهي أن مجتمعنا العربي التقليدي يبدأ في مواجهة وضع اجتماعي جديد، هو المرأة من دون رجل، أو المرأة من دون زوج. يشكل نموذج "المرأة الوحيدة" من دون رجل، من دون زوج، أكبر تحدٍ للثقافة الذكورية. وكلما كان اختيار المرأة لهذا النموذج نابعاً من ارادتها الحرة وقناعتها الشخصية، وليس مفروضاً عليها، كلما زاد اضطهاد المجتمع لها. تُرى ما هي الرسالة التي توجهها "المرأة الوحيدة" الى المجتمع الذكوري، وبسببها تقع المرأة فريسة الإضطهاد؟ ببساطة، وبخطوة عملية واحدة، تهدم "المرأة الوحيدة" كل مقولات الثقافة الذكورية التي جرى ترسيخها منذ آلاف السنين. تقول "المرأة الوحيدة" إن الحياة يمكن أن تُعاش، من دون رجل أو من دون زوج، وعلى رغم هذا لا تفقد بهجتها وتألقها ودوافع نموها. "المرأة الوحيدة" تعيل نفسها، تحمي نفسها، تواجه العالم كله بقدراتها الذاتية على الفعل والتفكير والحركة وصنع القرار. أليس هذا كسراً للثقافة الذكورية؟ تلك الثقافة التي تزعم أن "ظل الرجل" أفضل من "ظل الحيط"، وأن الرجل هو وحده المؤهل فكرياً ونفسياً، لإعالة المرأة، وحمايتها، وأخذ المسؤوليات والقرارات بالإنابة عنها، وأن المرأة من دون رجل كائن مسكين، ضعيف، بائس وتعيس. تشكل المرأة التي اختارت بحريتها أن تواجه الدنيا بمفردها خطراً على الثقافة الذكورية. إذ هي ترغم هذه الثقافة على إعادة صوغ فهمها لقدرات النساء وعلى التخلي عن تحيزها المطلق إلى الرجال. لابد أن تشعر الثقافة الذكورية بالحرج أمام نموذج "المرأة الوحيدة". فهي لسنوات طويلة تعمدت إضعاف النساء بترويج الاكاذيب والأوهام عن طبيعتهن، وأفكارهن ومشاعرهن، وجعلتهن في مصاف العبيد والجواري. وتعمدت "تأليه" الرجل وجعله في مصاف السيد المطاع. حين يواجه المجتمع الذكوري بامرأة اختارت الوحدة، تعمل وتكسب وتخوض الحياة بمفردها، فإنه يخرج من جعبته قائمة من الاضطهادات، خصوصاً الاضطهاد النفسي. يصفها بأنها امرأة "شاذة" او "غير طبيعية". فالمرأة "الطبيعية" لا تعيش بمفردها. وإذا حدث هذا تكون مضطرة، وليس باختيارها. وتنعكس عليها هذه الوحدة تعاسة، وتوتراً. أما المرأة الوحيدة والسعيدة فهي حال شاذة. وتُصنف بال"مسترجلة" وتوضع أنوثتها في محل شك. وهناك الاضطهاد الاجتماعي، فنجد أن المرأة الوحيدة يهرب منها الناس، فلا أحد يريد التقرب منها، أو توطيد علاقة معها. وهناك الاضطهاد الأخلاقي الذي تقع "المرأة الوحيدة" فريسة له. اذ يروج المجتمع الذكوري أن المرأة الوحيدة تختار الوحدة، كي "تمشي على حلّ شعرها" وتثير في الأرض المفاسد والشرور. وتفاجأ المرأة من دون رجل، أن عليها في كل لحظة الدفاع عن أخلاقها، وإثبات أنها "شريفة" وأنها "ماشية بما يرضي الله" على رغم أنها من دون رجل. هذا من الثقافة الذكورية التي توظف الرجل منذ نعومة أظافره رقيباً وحامياً لأخلاق المرأة. ولا تتصور هذه الثقافة أن المرأة بمفردها يمكن أن تكون على خُلق. أولاً هي لم تُرب المرأة على أن تحمي شخصيتها وأخلاقها بنفسها. وثانياً، تعتبر المرأة "فتنة" و"فساداً" يمشي على قدمين، وبالتالي تتوقع هذه الثقافة الذكورية، أن المرأة متى تُركت لشأنها، فإن الإنحلال الأخلاقي سوف يعم أرجاء الأرض! الانحلال وارد من جهة الرجل وتنسى أو تتناسى الثقافة الذكورية، أن الإنحلال، يمكن أن يصيب المرأة غير الوحيدة. ولكنها لا تنشغل كثيراً بإنحلال النساء غير الوحيدات. كما تنسى الثقافة الذكورية، أن الانحلال وارد من جهة الرجل، سواء كان متزوجاً، أو غير متزوج. لكن المجتمع بقيمه الذكورية لا يحاسب الرجال على فسادهم وإنحلالهم. أو هو لا يحاسبهم مثلما يحاسب النساء. فالرجل حر يفعل ما يريد، والثقافة الذكورية نشأت لتحمي هفواته الاخلاقية، ولا شيء يعيبه إلا قدرته على الإنفاق. ويمكن قياس إنسانية المجتمعات وتحضرها بمدى تقبلها واحترامها لنموذج "المرأة الوحيدة". إذا كنا نحترم ونتقبل النساء اللواتي اخترن العيش مع ازواج، فلا بد أيضاً أن نحترم ونتقبل النساء اللواتي اخترن العيش وحيدات. علينا أن نحاسب المرأة فقط على عملها وعطائها، لا أن نحاسبها على "وضعها الاجتماعي"، هل هي متزوجة، أم غير متزوجة، فذلك اختيارها الخاص. تماماً مثلما نفعل مع الرجل. نحن نحاسب الرجل على عطائه الاجتماعي، ولسنا ندينه أخلاقياً على تأخره في الزواج، أو حتى عزوفه عنه. وإذا كانت هناك إدانة أخلاقية للرجل الوحيد، فإنها أقل بكثير من الإدانة التي تتعرض لها المرأة الوحيدة. لا نريد أن يُفهم من كلامنا هذا، انه دعوة الى النساء للاستغناء عن الرجل، أو العزوف عن الزواج. لكنها دعوة الى المجتمع أن يتقبل، ويحترم، النساء اللواتي يواجهن الحياة من دون رجل، أو من دون زوج. وهي دعوة كذلك إلى أن نقدر، ونحترم، الأدوار الأخرى التي تقوم بها المرأة خارج الزواج مثلما نقدر، ونحترم دورها كزوجة وأم. إن الزواج او الأمومة دور واحد، من الأدوار الكثيرة الأخرى المتاحة في الحياة للمرأة مثلما هو دور واحد، الزواج او الأبوة في حياة الرجل. وسواء تزوج الرجل، وأنجب أو لا، تظل الحياة مفتوحة الآفاق، والإمكانات أمامه. نريد تربية جديدة للمرأة. تربية تؤهلها للحياة كلها، وليس فقط للزواج والامومة. تربية ترسخ في عقل المرأة والفتاة، أنه إذا حدث الزواج وإذا نجح، خير وبركة... وإذا لم يحدث أو إذا فشل، ليست هذه نهاية العالم، ونهاية المرأة. احترام نموذج المرأة الوحيدة، مؤشر ايضاً لمدى الديموقراطية التي يتمتع بها المجتمع. فالديموقراطية لا تقبل الآراء الاخرى المناقضة لآراء سائدة وحسب، ولكنها كذلك وبالدرجة نفسها من الاهمية، تقبل ادواراً مغايرة ومناقضة للادوار التقليدية السائدة. هذا إضافة الى أن "الرأي الآخر" ليس مجرد فكرة اخرى تعمل في العقل وبشكل نظري. فعلى "الرأي الاخر" ان يترجم نفسه في شكل ممارسات فعلية في الواقع، تعكس اختلافه عن السائد والتقليدي. وعلى النساء أنفسهن دور أساسي في تهيئة المناخ لتقبل واحترام وظائف جديدة للمرأة، وايضاً في تحديد الأولويات في هذه الادوار والوظائف. وذلك وفقاً لطموح المرأة، وقدراتها ونظرتها الى نفسها. انه حق اساسي من حقوق الانسان، أن يحدد كل مواطن، وأن تحدد كل مواطنة، مسيرة حياتها. الادوار التي تود القيام بها. وأي دور اهم. وأي دور اقل اهمية. وينبع من هذا الحق. حق آخر: أن يحدد كل مواطن ما هي الادوار التي يرفض القيام بها. لأنها لا تناسب قدراته. أو لأنها ليست طموحاته وأحلامه. أو لأنها تستنزف طاقاته في أدوار يعتبرها ثانوية. أو لأنها أدوار لا تعنيه في المقام الأول. وليس على المجتمع أن يدينه أو يجبره على أولويات لا تلائمه انسانياً وإجتماعياً.