- 1 - لا يكمنُ خَطرُ الرّقابة في ممارستِها وحدَها. يكمن كذلك، وعلى نَحْوٍ أشدَّ، في دلالتها. إنّ مَنْع قصيدةٍ أو أغنيةٍ أو مقالةٍ أو كتابٍ... إلخ، لا يَنْحصرُ في حدود "القَتْل الثقافيّ" - قَتْلِ الكلام واللّغة، وإنّما يتخطّاه الى القتل الآخر، قَتْلِ فِعْلِ التّفكير وفعل الإبداع وفعل المسؤولية - وتبعاً لذلك، "قتل" الإنسان نفسه - كاتِباً وقارئاً، على السّواء. فالرّقابة تشملُ الكتابةَ والقراءة كليهما، ومراقَبةُ الكاتبِ هي في الوقت نفسه، مُراقَبةٌ للقارئ. - 2 - تتمثَّلُ هذه الدّلالة، نظريّاً وعمليّاً، في ثلاثة أمور: الأمر الأوّل، هو أنّ النّظامَ الذي يُمارس الرّقابة لا يفرضُ نفسه سيّداً على السّياسةِ وحدَها، وإنّما يفرضها كذلك سيّداً على التّفكير وعلى الإبداع. وهو، إذن، يُنَصِّب نفسَه معياراً وَحَكماً في كلّ ما يمكن أن يقال حول المجتمع، ماضِياً وحاضِراً ومُسْتقبلاً. ومثل هذا النّظام لا "يملك" سياسةَ الأفراد، وحدَها، وإنما "يملك" أيضاً فاعليّاتهم الفكريّة والخياليّة. و"يملك"، تالياً، حياتَهم نفسَها. وهذا، في حَدّ ذاته، طَامةٌ كبرى. ومن يرجع الى سَيْرورَةِ تاريخنا سيَرى أنّ هذا كلّه كان علامةً على نَوْعٍ من السُّبَاتِ والقَهْقَرى في ماضينا، يومَ عَبَّر الطُّغيان عن نفسه بحْرقِ الكتب أو قَتْلِ أصحابها. وسيرى كذلك أَنّه في حاضرنا علامَةٌ مِن علاماتِ غيابِنا عن خريطةِ الإبداع البشريّ. وتبلغ هذه الطّامّة ذروتَها المضحكة المبكية معاً، حين نعرف مستوى الممارسة الرّقابيّة، ومستوى المعايير والقراءة والفهم والرّؤية في هذه الممارسة. ولا يمكن آنذاكَ إِلاّ أن نَرْثيَ لِثقافتنا الرّاهنة وللإنسان العربي الذي يبدو، في هذه الممارسة، كأنّما يُرادُ له أَنْ يظلَّ أعمى وأَصمَّ ومَشلولاً. الأمر الثاني، هو أنَّ ممارسةَ مِثل هذه الرّقابة تُشير الى أنَّ البلادَ التي يُهيمن عليها النّظام المراقب، إنّما هي "مملكته" الخاصّة، وأنَّ المفكّرين العاملين بالكلام في هذه "البلاد" ليسوا مواطنين يقولون آراءهم وأفكارهم كما يفعل المواطنون في بلدان العالم، وإنّما هم "ضيوفٌ" في هذه البلاد الخاصّة أو، في أحسن تقدير، "تلامذةٌ" في مدرستها الإصلاحيّة و"قاصرون"، ولصاحب هذه المدرسة الحقّ في أن يمنعهم من "الكلام" أو من "الحركة" أو حتّى من "العمل". وله، الى ذلك، الحقّ في أن يعلّمهم كيف يكتبون، وبِماذا يفكّرون، وأن يرسمَ لهم حُدُودَهم في هذا كلّه. تُشيرُ هذه الممارسة كذلك الى أنّ ما نُسمّيه "الأمّة" ليست إلاّ "لفظةً" يقتصر محتواها على مجموعة الأفراد الذين يوالونَ نِظامَها ويديرون مؤسّساته وأَجهزته. وفي هذا امتهانٌ وتَغْييبٌ للوطن ومفهومه وللأمّة نفسها. ولا نَتحدّث عَمّا نتحدّث عنه دائماً: حقوق الإنسان، والديموقراطيّة، والحرّيات... الخ. انه الغاءٌ لبعد المسؤولية والاختيار لدى المواطن، فوق ما يتضمّنه من التمويه والخداع - خداع الذات والآخرين، لا سيّما في زمن يَستحيل فيه حجب المعلومات، وحجب الممنوعات - هذه التي تسري بحرّية بعيداً عن المناقشة والنقد، وسلطة المعايير الجماعية. الأمر الثالث، هو أنّه يستحيل أن يأخذ الإبداع الأدبيّ والفنّي والفكريّ، ومختلف الأنواع الأخرى من النّشاط المنتج اقتصاديّاً وصناعيّاً - أقول يستحيل أن يأخذ مَجراه التَّطويريَّ المغيِّر في مجتمعٍ تُهيمن عليه مثل هذه العقليّة الرّقابيّة. وإذا أدركنا أنّ هويّة الشعب أو الأمّة لا تتجلّى في عمقها وأصالتِها وحَركيّتها، إلاّ في الإبداع، نُدرك الى أيّ حدٍّ تَقتلُ العقليّةُ الرَّقابيَةُ حيويّة المجتمع وتطلّعاته، وكيف تُقَزّم الهويّة وتخنقها، وكيف تجعل من الشَّعب قوّةً "عاطلةً" لا تتحرّك إلاّ كما تتحرّك "الدّميةُ" أو "الآلة". ندرك، بتعبيرٍ آخر، أنّ مثلَ هذه العقليّة الرّقابيّة ليست ضدّ "الثقافة" وحدَها، وإنما هي كذلك ضدّ "الوطن" وضدّ حضوره الخلاّق على خريطة الكون، وهي إذن ضدّ "النظام" نفسه الذي يمارسها، بوصفه جزءاً من هذا الوطن، ومن تاريخه. يمكن أن نضيف الى هذا أنّ الرّقابة سلاح سياسيّ تابعٌ للظرف والمصلحة، وليست في أيّ حالٍ هادياً أو رادعاً أخلاقيّاً. فلكلّ رقيبٍ معاييرهُ، وأهواؤه ومصالحه وحساباته. فما يباح اليوم، قد يُحرَم غداً، أو العكس. - 3 - يمكن، في ضوء ما تقدّم، أن نرَى الى أيّ حدٍّ يُخطئ السياسيون الذين يجعلون الثقافةَ تابعةً لِلسياسة. والخطأ هنا مزدوج: بِحقّ أنفسهم، وبحقّ الهويّة الحضاريّة التي ينتمون اليها. ويعلّمنا ماضينا أنّ رجلَ السّياسة لا يُشارِك إيجابيّاً في صُنْع تاريخنا الحضاريّ بمجرّد مؤسَّساته وأجهزته، وإنما يُشارك بقدْرِ سَماحتهِ الفكريّة، وتمجيده لحرّيات الإنسان وفي طليعتها حريّة الإبداع. واليوم، عندما نلقي نظرةً على ماضينا السّياسيّ نجد أنّ الحُكّامَ الذين فتحوا للإبداع مجالاته الحرّة، ناظرين إليه بوصفه عنواناً لحيويّة المجتمع، هم الذين تحوّلوا الى رموزٍ تاريخيّةٍ مُشِعّة. ونجد، على مستوىً آخر، أَنّنا حين ندرس الهويّة العَربيّة الإبداعيّة، لا نلتمس خُصوصيّة هذه الهويّة وفرادتَها في المؤسّسات التي أقامَها رجالُ السياسة والحكم، الخليفة معاوية، أو الخليفة هارون الرشيد، تمثيلاً لا حصراً، على أهميّة هذه المؤسّسات وعلى أهميّة هذين الرَّجلين، وإنّما نلتمسها، على العكس، في إبداعات المفكّرين والعُلماء والشّعراء والموسيقيين والمعماريّين وأهل الصّناعة. ونجد، الى ذلك، أنّ عظمةَ أولئك الحُكّام تُقاس بِمدَى إطلاقهم الحرّيات وتوسيع مَجالات الفكر والعمل لهؤلاء جميعاً. ذلك أَنّ الدّور الأوّل للسياسيّ الحاكم ليس في مجرّد استمرار نظامه والحفاظ عليه، وإنّما هو، على العكس، في رعاية القوى الإبداعيّة والإنتاجيّة، وفي توفير الظّروفِ لنشاطِها وازدهارها. إنّ المؤسّسات والأجهزة، مهما كانت أهمّيتها، ليست في حركية الإبداع الحضاريّ إلاّ مجرَّد "وثائق"، أي جزءاً من حركة التاريخ - يتخطّاها التّاريخ، بينما يأخدُ التّاريخ معناه وعظمَته من الإبداعِ ومن الرّؤى الإبداعيّة. واليوم، على سبيل المثال، نرى أنّ التّاريخ هو الذي يعطي معنىً لمعاوية أو لهارون الرشيد، ونرى بالمقابل أن الشّعر في وَقتيهما هو الذي يُعطي مَعْنى للتاريخ: هما جزءٌ من التاريخ، والتّاريخُ جزءٌ من الشّعر. ولقد "مات" معاوية وهارون الرشيد، غير أنّ الفرزدق والأخطل وأبَا نواس لا يزالون "أحياء". وفي هذا ما يجعل دعوى "المراقبين" من أنهم يدافعون عن "القيم" و"الأخلاق" و"الدّين"، باطلةً، ويؤكّد أنّها ليست إلاّ "قناعاً" أو "وسيلة" لمصلحةٍ ما. بل إنّ فيه ما يُظهر "رجالَ المراقبة" كأنهم "رجالُ دينٍ"، مَقْلوبون: ذلك أنّ "رقابتهم" تُصبح هي كذلك "عقاباً" و"تكفيراً" لا مجرّد تكفير دينيّ لشخصٍ أو اثنين أو لجماعةٍ معيّنة، وإنّما هي "تكفيرٌ" سياسيّ وفكريّ واجتماعيّ لشعبٍ بكامله، ولثقافةٍ بكاملها، ولمرحلةٍ تاريخيّة بكاملها. وفي هذا "التكفير" تبدو الرّقابة نفسها كأنّها نوعٌ رهيبٌ من "أمبيرياليّة" داخليّة: فحين يُمنع إنسانٌ من حَقّ الكلام، أو يُمنَع نَشْرُ كلامه إِلاّ ب"إجازةٍ" من السّلطة، فإنّ ذلك يتضمّن عدمَ الاعتراف بكونه جديراً بالكلام أو بالحقّ فيه، أو بالمسؤولية عنه، أو الحصانة ضدّه. كلّ رقابةٍ هي، من حيث المبدأ، اتّهامٌ مسبَّقٌ للكاتب وللقارئ، معاً. كلّ اتّهامٍ مسبَّق يتضمن تجريدَ الإنسان من إنسانيّته، ذلك أن جوهرَ هذه الإنسانيّة هو البراءة المسبّقة، لا الخطأ المسبّق. هكذا نرى أنّ مثل هذه العقليّة الرّقابية تنظر الى المجتمع بوصفه كتلةَ أشياء، أو بوصفه قطيعاً، يقوده "راعٍ"، أوحد و"صالح" و"كامِلُ العَقْل والخلُق". إنّ كلاً من الرّقيب ومشرّع الرّقابة يخدع نفسه ويخدع غيره، لأنّه يريد أن يتبرّأَ فقط من "المسؤوليّة"، أمام "شخصٍ" ما، أو "فكرة" ما، عارفاً أنّ ما يراقبه هو الأكثر قدرةً على الانتشار والشيوع وراء الستارة وكلّنا يعرف أنّ أشدّ مراحل التّاريخ قمعاً وتَسلّطاً، كانت الأشدّ فساداً، لا سياسيّاً وحسب، وإنما دينيّاً واجتماعيّاً كذلك. لأنّ فرضَ ظاهرٍ آمِرٍ نَاهٍ، مُقيِّدٍ وسَجّان، يفرض بالضرورة باطِناً يمارس الحريّة، على جميع المستويات، حتى حدود الفوضى. وهي ظاهرة كونية، ولا تختص البلدان العربية والإسلامية، وحدها، وإن كانت هناك فروقٌ بين بلدٍ وآخر، وبين مَرْحلةٍ تاريخيّة وأُخْرى. أودّ أن أنهي هذه الخواطر بثلاثة أسئلة: السّؤال الأوّل موجهٌ الى رجال الدّين وأعني أولئك الذين حوّلوا الدين الى جهازٍ رقابيّ وهو: لماذا لا يأخذونَ من النصّ القرآنيّ نفسه معيارهم في الرّقابة؟ فليس اللفظ في ذاته هو المعيار، بل الدلالة الأخيرة في السياق الأخير. وكيف لا يجدون في ذلك البرهان المطلق على أنّ اللّه نفسه لا يُكره أحداً على الإيمان، أو كما قال "لا إكراهَ في الدين"، مِمّا يتضمّن، بالضرورة، القولَ: لا إكراهَ في الكلامِ على كلّ ما يتعلّق بالدين. وكيف يعطون لأنفسهم حَقّاً لم يُرِدْهُ اللّه جَلّ جلالهُ لنفسه، متجاوزين إرادته، فارضين فهمهم الخاصّ لِلدّين بالقوة والإِكراه؟ وكيف يريدون للإنسان أن يؤمنَ وهو مُقيَّد ومسجون؟ وكيف يجيزون لأنفسهم أن يلبسوا باسم الدّين لبوس الشّرطيّ والسجّان؟ وكيف يحقّ لهم أن يعطوا للدين صورةً يظهر فيها كأنّه عالَمٌ من القيود والسّجون وَمِن الأوامر والنواهي التي تُفرَضُ من خارج؟ أفلا يدركون أنّهم في عملهم هذا يبدون كأنّهم لا يكتفون بخنق الإنسان وحده، وإنما يكملون هذا الخَنْقَ بالقضاء على الدّين نفسه؟ السّؤال الثاني موجّهٌ الى الكتّاب أنفسهم، وهو: كيف يقبلون هم الذين ينتقدون الرّقابة، أن يتقدموا بكتبهم الى من يراقبها لأخْذِ الموافقة عليها، قبل نشرها؟ ألاَ يخونون كلامهم في ممارستهم هذه، وقبل ذلك، أنفسهم؟ وكيف يمكن، والحالة هذه، أن يُنظرَ الى نقدهم الرّقابة، نظرةَ احترامٍ وتصديقٍ - خصوصاً من سلطة الرّقابةِ ذاتها؟ ولماذا لا يقفون موقفاً موحّداً من الرّقابة في البلاد العربية كلّها، بوصف الثقافة العربية كُلاً واحداً، ولغويّاً، و"قوميّاً"، أيّاً كانت الكتب المراقبَة، وأيّاً كان أصحابها؟ ولماذا تتعالى أصواتُهم هناك في ما يتعلّق ببلدٍ ما، أو شخصٍ ما بينما يتجاهلون أو يسكتون حين يتعلّق الأمرُ ببلدٍ آخر، أو شخصٍ آخر؟ أفلا يُعطي الكتاب للسلطة، بممارستهم هذه، الفرصةَ و"الحقّ" للاستهانة بالكتابة والكتّاب؟ أفلا يعزّزون بهذه الممارسة بنيةَ الرقابة في الثقافة العربيّة، وهي بنيةٌ قديمة ومتأصّلة؟ ولماذا لا يظهر نقد الرقابة إلاّ في مناسباتٍ خاصة، حيث يختلط هذا النّقدُ بصراعاتٍ أخرى، وحيث يبدو الاحتجاج على الرّقابة كأنّه احتجاجٌ على أشياءَ أخرى؟ خصوصاً أنّ الجميع يعرفون أَنّ الرّقابة والمَنْعَ أساسٌ في ثقافتِنا، قديماً وحديثاً، وأَنّ بعضَ الكتّاب والمفكرين في بعض العهود، وبخاصّةٍ الحديثة، راقبوا بأنفسهم غيرهم، ومنعوهم، أو ناصروا من راقبهم ومنعَهم. السؤال الثالث موجّه لأهل الرقابة وهو: لماذا لا تقرأون تاريخكم الذي لا تكفّون على امتداحهِ، والفخر به، وتعظيمه؟ اقرأوا، وسوف ترون أنّ الذين صنعوا ويصنعون مجد العرب، إبداعيّاً في جميع الميادين، إلاّ الفقه، هم تحديداً أولئك الذين مُورست عليهم الرّقابة فمنعوا، أو قتلوا، أو حُرقت كتبهم. ولماذا إذن تراقبون، وما وراء هذه المراقبة، وما جَدْواها؟ قولوا، متَى تقرأونَ تاريخكم؟