ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    استراتيجية الردع الوقائي    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن فك الارتباط بين تكفير الأعمال وتكسير الأشخاص
نشر في الحياة يوم 11 - 07 - 2000

معيار تكفير الأفكار والاتجاهات في الإسلام، ينطلق من تعادلية صلبة، لا تتداخل فيها الحواس، ذات معايير موضوعية، تبرز ميزان الاعتدال، بين المداهنة والتساهل، والتنطع والغلو.
وعلى هذه القواعد يعتبر فكراً كافراً" كل مقال أو قصيدة، أو قصة أو كتاب يسخر صراحة، من مبادئ الدين التي جاءت بها النصوص الصحيحة الصريحة، في مجال الغيب أو الشهادة، أو رموزه وشعائره، أو يسب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينكر السنة النبوية.
وكيف يصح أن تنسب إلى الإيمان، تلك الآراء التي تقول: إن القانون الجنائي الإسلامي، كالقطع على السرقة، كان مناسباً لمجتمع بدوي، وإن المجتمع الآن تحضر، فلنستبدل السجن بالقطع، وكأن الله شرع لمجتمع غير مدني" عندما قال: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" وكأن العباد أعلم من ربهم أو أرحم! ينبغي أن يوضح أن هذا كفر بالدين، فتكفير تلك المقالات والآراء" ليس غلواً فكرياً، ولا تشدداً في الدين، بل هو أمر واجب على كل قادر، لكي تفرز الأمة بين الأفكار الكافرة والأفكار المؤمنة. وكيف تعتبر من الإسلام، تلك القوانين التي تخالف قوانين الإسلام، في المجال الجنائي والمدني والدولي، ويعتبر تطبيق الشريعة دلالة على التخلف والانحطاط.
إذاً لا بد من فرز مستويات وأنواع العلمانية:
فالسيكيولارزم عرّبها جيل التنوير، في عالم العروبة والإسلام، ونسبها للعلم أو العالمية، ولكنها في نسختها الأصلية الأساسية" منظومة ذات نسق شامل، لا يمكن تصورها، إلا من خلال تاريخها ومناخها وتطبيقها في الغرب، فإذا كانت العلمانية هي اللادينية، التي يكشف مصطلحها الفرنسي اللائكية، عن إيحائها بالإلحاد، فهي تعادي الدين، ودعاتها ملحدون يعلنون إلحادهم، وهؤلاء أناس أعلنوا كفرهم، فلماذا ينزعجون إذا نسبوا إلى الكفر؟ ما داموا شرحوا بالكفر صدراً. وهناك علمانية لائكية مشركة، لم تعاد تياراتها الدين الإسلامي، بمعنى العقيدة القلبية الفردية، ولكنها رفضته شريعة اجتماعية، هؤلاء ينبغي أن يقدم لها الفكر الإسلامي المستنير، بالحكمة والكلمة الحسنة، والبرهان المقنع، وسيدركون أن فصلهم الحياة الاجتماعية عن الإسلام، خروج عن المنهج العلمي، الذي يهمهم الانتساب إليه، أو خروج عن الإسلام، الذي يتوسم أنه يهمهم الانتساب إليه.
أما أن تلتبس على الإنسان الأمور، ولكنه لم يشرح بالكفر صدراً، ولم يؤثر على الاسلام ديناً، ولكنه وقع في الأمر في خاطرة عابرة، لا تمثل موقفاً فكرياً أو عملياً، جاهلاً أو غافلاً أو مضطراً، في أمور عمت بها البلوى، ناتجة عن الهزيمة النفسية والفكرية، التي تمر بها الأمة" بسبب عجز المسلمين الحضاري، عن إنتاج الأنظمة والنظريات، والآليات التي تتصدى للحداثة، ومطاولة التفوق الغربي، الذي أخضع المسلمين لعلاقات غير متكافئة، فهذه تأويلات وعوارض، تدل على أنه لم يشرح بالكفر صدراً.
وهناك علمانية الابتداع التي يقع فيها مسلمون بل وإسلاميون، لا ينكرون أصول الدين القطعية، ولكن لهم آراء وأفكار، ليست أكبر من مخالفات الخوارج، الذين لم يكفرهم الصحابة، ونحوهم من الاتجاهات الفكرية القديمة، ولذلك لا ينبغي التورط بتكفيرها بل تكفيرهم.
وهناك صنف رابع من المسلمين، يحاول أسلمة الأفكار والنظم والقيم العلمانية، فيأخذ منها ما يتسق مع أصول الإسلام وفروعه، بحسب علمه وخبرته، في مجالات سياسية وإدارية، واجتماعية وثقافية، وهو يأخذ فكراً وقيماً وآليات، لا وَطن لها ولا جنسية ولا دين، ويمكن، إذاً، تطويعها في المنظومة المعرفية والتربوية الإسلامية، وفي رحلة التأصيل لا بد من التجريب والتأمل، والخطأ الصغير والكبير وارد.
من أجل ذلك ينبغي فرز مستويات العلمانية، ولا يجوز التعميم بالتكفير أو ضده، كي لا نقع في موقف الرفض الذي لا ينبثق من موقف علمي نقدي، فنكرر المواقف العاطفية، التي تعامل بها بعض أجدادنا، الذين نمذج موقفهم ابن الصلاح، في الحكم على الفلسفة بالضلال على الإطلاق.
إن الدقة هي الأسلوب الشرعي في الحكم على الأشياء، وتقتضي الدقة في الأمور الملتبسة في المذاهب والآراء" أن يمهد الذي يريد أن يحكم على ظاهرة أو جماعة" فيبدأ بالحيثيات الموضوعية المسلمة" التي بنى عليها الرأي، ويذكر الأدلة البرهانية، لأن كل رأي لا يستند على معلومات صحيحة" فهو باطل لأنه بني على باطل، وكل رأي يضمر المعلومات ويظهر الحكم" فهو أسلوب تلقيني، يبني عقلية التقليد، ولا يتيح للآخرين أن يتأكدوا من صحة المعلومات، أو صحة الاجتهاد.
فالذي يكفر العلمانية جملة وتفصيلاً، أو يضلل الفلسفة جملة وتفصيلاً، كلاهما مخطئ واهم، في المنهج العلمي، فضلاً عن الحكم، والله يقول: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً". القول السديد الذي تفرزه التقوى" أن يقول الإنسان: إن الذي يقول: كذا" هو كذا وكذا بدليل كذا فيقدم التوصيف على التقييم، ويشفعهما بالدليل، كالقاضي الذي يبيّن حيثيات الحكم قبل إصداره.
أن ينكر الباحث الاحتجاج بالسنة مطلقاً" هذا أمر يخالف أصول الدين القطعية، فإذا كان اتجاهاً نابعاً من جهل بالدين وأحكامه، فهو يرد بالعلم، وإن كان عن علم وإدراك وقصد، فما الذي يمنع من أن يقال له: إن هذا كفر.
- ومن الضروري توعية الرأي العام، بالانحرافات التي سرت في كيان الأمة، سريان الخمر والفيروسات في الدماء، ولا ريب أن التركيز على الأفكار والأعمال" هو الأتقى والأجدى، وأنه يجب مع هذا تنبيه الرأي العام، إلى أن تكفير المقولات والأعمال، لا يستلزم تكفير القائلين والعاملين، لأن كثيراً من طلاب العلم، فضلاً عن الناس العاديين، يتورطون في الإثم الكبير، عندما يستنتجون تكفير الأشخاص من تكفير الأفكار والأعمال، فإذا لم يبن المكفِّر الفرق بين هذا وذاك، أوحى تكفيره الأفكار والأعمال، بتكفير الأشخاص آلياً. فيرتكب إثماً، وإن ظن نفسه من المحسنين، لأنه دعا إلى الله بالموعظة السيئة، أو جادل بالتي هي أسوأ، وتجنب الحكمة المطلوبة في إنكار المنكر، فصار ضرر إنكاره أعظم من ضرر سكوته.
لا بد إذاً من فك الارتباط بين تكفير الأعمال والمقولات والأفكار، الذي ينحصر في الموضوعات والأشياء، وبين تكفير الأشخاص، الذي له ضوابط دقيقة، لا ينتبه لها كثير من طلاب العلم، فضلاً عن غيرهم، لأن الأصل في المسلم هو الإسلام، فالحكم بإسلامه هو اليقين، واليقين لا يزول إلا بيقين، فليس على المتهم إثبات البراءة، بل على المدعي إثبات الجريمة إذاً، هذا هو الفقه القانوني الإسلامي، الذي، يحفظ حقوق الناس، من القذف والأذى، والمصادرة والقمع.
فمن زعم أن مسلماً قد كفر، فعليه أن يقدم البرهان القاطع، فإن لم يقدم البرهان، استحق عقوبة قذف أخيه المسلم، وهي في الدنيا عقوبة تعزيرية، في الفقه القانوني الإسلامي، وهي في الآخرة عذاب عظيم.
- وهذا يشير إلى أننا اليوم، مطالبون بالفرز بين ثلاثة مواقف في معيار تكفير الأفكار والأعمال.
الاول: موقف التساهل، الذي يقدم باسم الحرية تارة، وباسم التسامح الإسلامي تارة أخرى، وهو موقف استخذاء، من أثر الصدمة الحضارية، يؤدي إلى الانسلاخ من الهوية، والغرق في المحيط الأطلسي، وهو موقف الشك أو اللامنتمي، الذي، نمذجه ابن عربي في تراثنا العربي القديم، فتساوت لديه المذاهب والنحل والأديان. وبه دخلت فلسفات الإلحاد والحلول والتناسخ والباطنية والإباحية، عبر أفكار نشرها أمثال ابن سينا والفارابي، ودافع عنها عبر التأويل الفاسد والغالي، بل حاول صك مشروعية إسلامية لها، عدد من المفكرين والعلماء، كابن رشد الحفيد.
الثاني: موقف الغلو والتنطع، الذي ابتدعه قدامى الخوارج في الزمن القديم، فصكوا مبدأ الغلو الفكري والسلوكي، وهو مبدأ لم تنج من استثماره، غالب الفرق الإسلامية. وهو يعتمد على الغلو في التكفير، وعلى الإكراه والإجبار، فجمع غلو المذهب، وعنف الوسيلة، والعلاقة تراتبية بين غلو الفكر وغلو الممارسة.
الثالث: منهج الصحابة عموماً والسابقين خصوصاً، وهم سلف الأمة، "والذين اتبعوهم بإحسان"، ينبثق من عدل الإسلام وتسامحه، ولعل من أبرز رموزه في تراثنا الفكري القديم، بعد المحدثين" الإمام الغزالي في كتبه، ولا سيما التهافت والمنقذ. والإمام الذهبي ولا سيما في كتاب النبلاء. ونحن محتاجون إلى ترسيخ هذا الاتجاه" في مسارنا الفكري والسياسي ونشره لتكوين الرأي العام المستنير. لأنه هو منهج الكتاب والسنة، وهو الوسط بين أهل التساهل وأهل الغلو. وهو الذي يقي مجتمعاتنا ودولنا، من خطر التناحر والشقاق باسم الدين، ومن خطر اضمحلال الهوية باسم الحرية.
- وفي مجازفات بعض أجدادنا بالأمس عظة أخرى، هي أن تكفير المسلم من دون برهان، خطأ فظيع في الدين، من أجل ذلك استثنى الرسول صلى الله عليه وسلم" مسألة التكفير من الاجتهاد المأجور، فلم يقل عمَّن كفر مسلماً من دون حق: إنه مجتهد مأجور، كما يتوهم بعض الذين يكفرون من دون يقين. بل قال كما في صحيح مسلم: كتاب الإيمان: "أيما امرئ قال لأخيه كافر" فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإن لا، رجعت عليه". أي إن كان المحكوم عليه بالكفر كافراً كفراً شرعياً، وإن لا صار المفتي الذي حكم عليه كافراً، أي كافراً كفراً حقيقياً أكبر. كما أخذ بمنطوق الحديث ابن عرفة وابن رشد، نسأل الله السلامة والاستقامة. أو كفراً مجازياً أصغر، كما أخذ بمفهومه علماء آخرون، أي أنه تحذير عن المجازفة.
ولذلك عنون الإمام مسلم قضية التكفير بقوله: "باب بيان حال من قال لأخيه المسلم يا كافر"، فهو تحذير من المجازفة، وأسلوب من أساليب الزجر، يؤكد حفظ الحقوق الإنسانية للافراد والجماعات، ويفهم من الحديث أن الإسلام اعتبر تكفير المسلم، وإن كان من الآراء الاجتهادية، له صفة المعلومات التي يجب أن تعتمد على اليقين الجازم، لأنها شهادات، يثاب فيها الصادق، كما يعاقب الكاذب، وليس من الآراء التي للمخطئ فيها أجر، وللمصيب أجران. ويلزم المدعي إثبات ذلك بالبرهان الذي يفيد اليقين، لا بالقرائن والدلائل، التي تفيد غلبة الظنون.
وهذا الحديث يدل أيضاً على أن التكفير من دون برهنة جريمة جنائية، ليست أمراً في مستوى الجنحة أو المخالفة البسيطة، فهو أشد جريمة من قذف المحصن. وقياساً على حد جريمة قذف المحصنين والمحصنات، يعزر القاذف أخاه بالكفر من دون برهان، وقد نص الشافعي، على أنه يؤدب ولذلك فإن من حق المتهم بالكفر أو الردة، أن ينتصف من راميه عبر القضاء.
لان التكفير من دون برهان، يفضي إلى رفع الحصانة عن المسلم، وما يتبع رفعها من تعريض حياته للاعتداء، وسمعته وجاهه، للكسر والغمط، وتعريض ماله للنهب، ومنها تعريضه للكفر فعلاً. وما أفدح القمع والقهر والقذف، إذا مارسه المنتسب إلى الدين باسم الدين، وكم دفع ذلك عدداً من المثقفين، إلى الانسلاخ من الهوية، كما أشار الشيخ الغزالي، رحمنا الله وإياه.
واستبصار تاريخ الصراع القديم، الذي مزق انسجام الأمة وأمات فاعليتها" يدل على ضآلة إنتاج المنهج، الذي يعالج قضايا الفكر بالتخويف والتحذير، فهل يكفي أن يقال للنابغين: لا تقتربوا من الفلسفة والمنطق؟ أو لا تتعمقوا في علوم الطبيعة والكيمياء، أو لا تتوسعوا في دراسة الفلك والرياضيات؟
فإذا كان النوابغ وكبار العقول، عندما يطلعون على تراث الأمم الأخرى، ينزلقون وينبهرون، فالقضية ليست قضية أفراد، ولا قضية مذاهب محدودة الانتشار، إنما هي خلل في بنية الثقافة التراثية الشائعة، إذ لم تقدر على الهضم، أي على الاستقلاب، الذي يتم به فرز العناصر، واستبعاد الناشز منها والشارد، واحتواء المنسجم منها والصالح، ضمن التشكيل الإسلامي للمعرفة. فالقضية إذاً في النظام المعرفي، قبل أن تكون في النظام التربوي.
يكن الاغتراب والاستلاب بالامس، مسألة فرادى تاهوا، بل قضية ثقافة استنونت، أي صارت يونانية، بل صار بعض روادها" أكثر يونانية من أرسطو وأفلاطون، وظهر أثر استنوانها، في بناء علوم عديدة، كعلم الكلام والنحو.
فهل كانت الثقافة الاجنبية، هي مثلث برمودا، الذي من قاربه هلك؟ عندما يغرق كل سباح، تصبح المسألة عجزاً في النظام المعرفي، لأن الغارقين من السباحين المهرة.
والبرهان على هذا، أن يقال عن علم كبير من أعلام الفكر الإسلامي، كأبي حامد الغزالي: إنه ابتلع الفلاسفة أو ابتلعوه، ولم يستطع أن يهضمهم ولذلك لاذ بالوجدان والحدس، وهو الذي حاول مقارعة العقلانية التجريدية والشركية اليونانية، بالعقلانية التوحيدية الإسلامية. وهذا يدل على أنه لا خلاص من القلق المعرفي والتربوي، إلا بالتركيز على بناء صلب، للمعرفة والتربية في الإسلام، يؤسس على الكتاب والسنة.
والأولى في التكفير التركيز على نقض العقائد والأفكار والأعمال، من دون تكفير الاشخاص: للاعتبارات الآتية:
الأول: ان التبديع أو التكفير أحياناً، ينبني على تأويل النص اللغوي، فقد يعبر بعض الناس عن الفكرة تعبيراً سيئاً، لضعف أدائه اللغوي، أو لضعف ثقافته الدينية، أو لجهله بالمصطلحات. فتظن مقالته كفراً، كما وصف أبو حامد الغزالي، نوعاً من الخلاف بين الفلاسفة الإسلاميين المستنونين المبهورين باليونان، وبين الفلاسفة الإسلاميين المؤصلين، فقال: "يرجع النزاع فيه إلى اللفظ" التهافت فالخلاف أحياناً "خلاف لفظي لا أكثر" كما ذكر ابن رشد الحفيد أيضاً في تهافت التهافت أيضاً.
الثاني: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره الدقيق، فتكفير الديموقراطية، صحيح إذا قصد بها العقيدة الأيديولوجية، التي تفضي إلى العلمنة، التي تؤله عقل الإنسان، فيكون له تحريم الزنا واللواط إن شاء، وله تحليلهما إن شاء. ولكن التكفير غير صحيح إذا كانت الديموقراطية" آلية للإدارة السياسية، أي بعد فك ارتباطها بالعلمانية.
وتبديع المنطق منصب على اعتباره آلة لدراسة عالم الغيب، لا على أنه آلة منهجية، لضبط صحة التفكير، يمكن أن نأخذها عن غيرنا.
الثالث: أنه لا يجوز في الشريعة، تكفير الأشخاص، إلا بعد التأكد من إزالة الشبه والعوارض، وهذا لا يتم بالمناقشة والبرهنة وحدها، كما قال ولي الدين العراقي في كتابه الأجوبة المرضية "أما ابن عربي فلا شك في اشتمال النصوص المشهورة عنه، على الكفر الصريح، الذي لا شك فيه، وكذا فتوحاته المكية، و]لكن[ ينبغي عندي، أن لا يحكم على ابن عربي نفسه بشيء، فإني لست على يقين من صدور هذا الكتاب عنه، ولا من استمراره عليه إلى وفاته، ولكننا نحكم على هذا الكلام بالفكر" كما نقل عنه محمد البهي، في كتاب الفكر الإسلامي في تطوره، ص 60.
و"لو أن ]الإنسان[ هاجم العقائد، من دون الأشخاص الذين أسندت اليهم هذه العقائد، لسلك طريقاً أدق وأدخل في جانب النقد العلمي" البهي، ص 59.
الرابع: بذلك ينقض المناقش الظاهرة الفكرية والاجتماعية، لكي لا يتأصل الفكر المنحرف، وينجو من التكفير من دون برهان، ومن الحكم على النيات والبواطن، على أن تكفير العمل والقول، ينبغي أن يقترن بتوضيح كاف، ينور أذهان الرأي العام، بعدم التلازم بين تكفير الأعمال والأفكار، وتكفير الأشخاص، كي لا يسهم رأيه وفتواه، في اندفاع مندفع لا يفرق بين هذا وذاك.
وبالتركيز على المستوى الفكري، تنقض الأفكار الهدامة، فتموت في مهدها، وتترك الفرصة للأحياء عسى أن يرجعوا، من دون أن يوحى إلى الرأي العام بالبغي، تحت راية القرآن. ويدع الباحث حساب الأموات على خالقهم، ما دام لم يقاضهم ويزل عوارضهم أو شبههم.
- لأن الشريعة فرقت بين الحكم بالكفر على الأعمال والأقوال، التي تصدر من الشخص والحكم على الشخص نفسه، فالحكم بالكفر على الكلام أو العمل، إذا كان واضحاً صريحاً، لا يحتمل تأويلاً سائغاً، أمر مشروع بل ضروري أيضاً، لتنوير الرأي العام، أما الحكم على الأشخاص، فهو أمر يحتاج إلى ضوابط أخرى، يدخل فيها أن لا يكون لكلام الإنسان أدنى احتمال بالإسلام، وأن يكون الإنسان مصراً، وأن يكون الكفر بواحاً واضحاً صريحاً، ليس فيه أي شبهة، ولا أي تأويل سائغ، ولا أي عارض. فيجب تكفير الفلسفة العلمانية التي تقول إن الانسان حر في أن يزني ويشرب الخمر، ما دام لم ينتهك حرية أحد، وكذلك الشيوعية، لكن تكفير الشيوعي أو العلماني، يعتمد على الخلو من العوارض، التي يعذر بها الجاهل والغافل والمضطر.
ولعل ذلك يبين أن تكفير الشخص المعين، مسألة لا تتم - عملياً - إلا عبر جهاز القضاء. وأن الحكم بالردة على الأشخاص خاص بقاض ذي ولاية، أما الحكم على الأفعال والأقوال، فليس خاصاً بقاض ذي ولاية.
وإنما قلنا إن تكفير الشخص المعين، لا يتم عملياً إلا عبر جهاز القضاء، لأنه لا يمكن أن يتم إلا بشرطين: التأكد من صدور ذلك منه بصفة قطعية. وإقامة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. وهذان الشرطان لا يكادان يتوافران، من ناحية واقعية.
ولكن عدداً غير قليل من دعاة الدين ومثقفيه، يجازفون بالتكفير، ويقفزون فوق الضوابط الشرعية، المطلوبة للحكم بردة الشخص المعين، وهي إجراءات فكرية وعلمية وقانونية، لا تتوافر عند التطبيق" إلا بمناقشة موضوعية، ومحاكمة علمية عادلة. بل إن تطبيقات عدد غير قليل من العلماء في القديم والحديث، لتكفير الجماعات، فضلاً عن الأشخاص، لم تنضبط بالضوابط الشرعية.
* كاتب واكاديمي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.