- 1 - الإصرارُ على النظر الى الإرهاب بِوصفه المشكلة الكونية الأولى، والإلحاحُ على أنّ الخلاف منه هو المهمة الكونية الأولى، إنما هما نوعان من الارهاب الفكري والحياتي، عدا أنّهما يموّهان الأسس والأسباب التي تكمن وراءه، تلك التي تمثل، فعلياً، المشكلة الأولى، وبالتالي، المهمة الأولى. لماذا لا تعلن الولاياتالمتحدة والدول الحليفة الحرب على هذه الأسس وهذه الأسباب، وهي قادرةٌ، خصوصاً أن "الحربَ" هنا أقلّ كلفةً، عدا أنها حربٌ إنسانية ونبيلة. اضافةً الى أن العالم كلّه سيؤيدها، بحرارةٍ وقوةٍ. أم لعلّ الولاياتالمتحدة تشعر، لسببٍ أو آخر، أنها في حاجة كيانية لكي "تبتكر، حرباً تتطاول دون أن يكون لها حدٌّ تقف عنده وتتنوّع دون أن تَنْتهي؟ ربما، ربما - لكي تُجابِه تلك "الحرب" الأخرى التي تُعلنها، هذه المرة، لا الدول ولا الأنظمة أو المؤسسات، بل الشعوب: الفقراء، المحرومون، المضطهدون، المشرَّدون، الجياع. أولئك الذين لا يريدون من هذا العالم إلاّ خبزهم، وإلاّ احترام الحقّ الانساني بالحرية والعدالة. هذه الحربُ "الفقيرة"، اليوم، ستكون، غداً، الأكثر غِنىً، ولسوف تَنتصر. وتلك هي تجلياتها: هناك، على المستوى الكوني، غضبٌ اقتصادي ضد السياسة الاقتصادية الاميركية: تحويل العالم الى مجرد سوقٍ، هو في أساس الفقر والبؤس في هذا العالم، وازدراء الانسان والكرامة البشرية. وهناك غضب سياسي يمتزج غالباً بالكراهية. وهناك غضب ثقافيّ: الأمْركة تُحيل الثقافة الى حركة هائلةٍ من الابتذال لا تؤدي الى قتل الثقافة وحدها، وإنما تؤدي كذلك الى "قَتْل" الانسان إبداعياً وجمالياً وتذوقاً. وهناك غضب آخر قد يكون الأشد عُنْفاً لأنه الأكثر التصاقاً بأحشاء الانسان - الغضب الطالع من أولئك الذين يعيشون، كما لو أنهم خارج الحياة، وخارج التاريخ. كأنهم مجروفون كالقشّ في هذا الطوفان الذي تصنعه الولاياتالمتحدة وتعممه، طوفان السوق والابتذال، طوفان "التصنيع": كأنها لا "تُصنّع" الاقتصاد والثقافة وحدهما، وإنما "تصنّع" البشرَ كذلك. - 2 - لكن، أين نحن العرب، من هذا كلّه؟ "نتظاهَرُ" ضدّ السياسة الاميركية فيما نتسابَقُ لدخول أسواقها وامتلاك مُنتجاتها. نكره الولاياتالمتحدة ونحبّها في اللحظة ذاتها. إنها الجحيم والجنة في بيت واحد. ذلك نوعٌ من النفاق يتخطى النفاق الكلاميّ. إنه "نِفاقُ الوجود". كيف لا نشعر أن الولاياتالمتحدة، حين تنظر الينا بوصفنا "عالماً ثالثاً"، أو تجعلنا في موقع "التابع"، تجرّدنا من "هوياتنا" الحقيقية، من تراثنا الانساني الثقافي الفني؟ كيف لا نتجرّأ على القول لها إنها إذ تتخذ لنفسها الحق بأن تكون قائدة العالم، لا بُدّ من أن تكون لها رسالةٌ في مُستوى هذه القيادة؟ كيف نسكت على بشاعة الحرب التي تعلنها الولاياتالمتحدة على أفغانستان، بحجة القضاء على "الارهاب" الطالباني؟ ولقد تأكد للعالم أن معظم العرب يقفون على الطرف النقيض الكامل من أفكار طالبان وأخلاقهم و"قيمهم"، ويحاربونها، لكن هذا لا يجوز أن يحول دون ان ينظروا اليهم بعينٍ إنسانية - خصوصاً أنهم أصبحوا في موقع المُضطهَد، أو المُنْكسِر. ومن الصعب إذن الفصل بين شناعة الهجوم على بُرجَيْ نيويورك، وشناعة الهجوم الأميركي على أفغانستان. فلئن كان الهجوم الأول خَلّف وراءه ضحايا بالآلاف، فإن الهجوم الثاني سيخلّف وراءه خراباً هائلاً وضحايا موتاً، أو تشرّداً، أو جوعاً بالملايين. وهل نتحدّث عن الجثث الطالبانية التي عمّمها بشيءٍ من الزَّهْو، كثيرٌ من وسائل الاعلام؟ وعن أساليب قَتْل الطالبانيين وبخاصّة الأسرى المقيدين منهم، التي لا يمكن أن تُوصَف بأقل من الوحشية"، وهي هذه المرة وحشية "غربية"، أو يشارك فيها الغرب المتقدم، المتحضّر. - 3 - وأين نحن العرب، خصوصاً من "التأويل" الديني الذي يفكّر بن لادن وصحبه، بِهَدْيه، ويعملون بِهدْيه كذلك؟ إن جهاديّةَ "القاعدة" شيءٌ آخر غير "الجهاد" الاسلاميّ. إنها "جهاديّة" قائمة على تأويلٍ خاص للاسلام - حيث يرفعها هذا التأويل الى مَرتبة المُطلَق، نظراً وعملاً، والمفارقة هي أننا لَوْ حَلّلنا "الأسلوب" الذي استخدمه بن لادن لتحقيق هذه "الجهادية"، فإن هذا التحليل يؤدي الى نتيجة واحدة: هذا الأسلوب لا يحقّق هذه الغاية. ويوصلنا التحليل الى أحد أمرين: إما أن لبن لادن "قضيةً" لا يعرفها أحدٌ إلا هو، وإما أنه أكبرُ صورةٍ عرفها التاريخ تتجسّد فيها الدونكيشوتية. ويبدو، في الحالين، كأنه يحارب عدوَّه هكذا لوجه الحرب. كأنّه يُمجّد العبثَ ويموت ويُميت من أجل اللاشيء. هذا "اللاشيء" قد يكون بالنسبة اليه، نفسياً وعقلياً، "كل شيء". ولعله يعتقد أن الوصول الى هذا "اللاشيء" إنما هو وصول الى أعظم الأشياء. لنكن، لنحاول أن نفهم "منطق" هذه "الجهادية"، من داخل. فهذا "اللاشيء" مرتبط، في "منطقها" بهذا العالم "الفاسد"، "الفاني"، لكن الظالم، وغير العادل - أساساً. ويقوده "الشرّ" مجسداً في "شيطان" هو، هنا، بَعْدَ الشيوعية الولاياتالمتحدة. هكذا يريد بن لادن أن "يَعبث" بهذا "الشرّ"، بمن يظنّه عدواً، كما يَعبَث هذا الشرُّ - العدوُّ بالعالم، خصوصاً بمن يعدّ بن لادن "صديقاً". عَبَثٌ - هو، في بعض وجوههِ، نوعٌ من العيثِ" - فساداً وظلماً. غير أن كلاً من بن لادن و"عدوّه"، يعبث بنفسه، أولاً، فيما يعبث بالآخر. عَبثٌ على مسرح اسمه العالم. أعظم مسرحية مُثّلت حتى الآن: مسرحية - حربٌ على مستوى الأرض. ولئن كانت هذه المسرحية بدأت في نيويورك، فإننا لا نعرف أين تنتهي ومتى، وكيف. مسرحية اللاشيء. مسرحية مفتوحة كمثل اللاشيء، كمثل العبث. وهي بوصفها كذلك، لا مخرج لها، لا نهاية لها، في رأي بن لادن على الأقلّ، إلا في السماء. "الأرض للطوفان محتاجةٌ" يقول المعرّي، قولٌ يردده بن لادن في صيغة ثانية: الأرض محتاجةٌ الى التَّطْهير من الظلم والفساد. وهو قولٌ لا يقوله إلا من يؤمن بأن "رسالته" ليست مجرد رسالة "أرضية"، وإنما هي، قبل كل شيء، رسالة "سماوية". ولا يستطيع أن يقوم بهذا التطهير إلا "المؤمنون". وهؤلاء المؤمنون لا "خوفََ" عليهم. إنهم في "أحضان" السماء، وسوف يكونون بعد موتهم في "أعلى عِلّيين". - 4 - "البطل" الأساس في هذه المسرحية، البَطل الكلّي الشامِلُ، "فِكْرةٌ" تتجلى أو تتجسد في صورٍ مُتَعدّدة. ليس بن لادن هذا البطل. إنّه محرّكٌ، مديرٌ، مُنتج. البطل هو الموت: هو هذا النوع من الموت الذي ربّاه بن لادن، ورعاه، وسهرَ عليه، وتعهده، وكشف عنه، وأطلقه. هذا "النوع من الموت"، بوصفه "فكرة" لا يتجلى في أية صورة. وإنما هناك أشخاص - صُوَرٌ تُهيَّأُ، وتُنْتقَى، لكي تكون جديرةً ولائقة. ومنذ أن يتجسّدَ في صورةٍ يُصبح عصياً: لا يُرَدُّ، ولا يُغلَب. ذلك أنه ليس "مدينةً" ولا "بلاداً"، ولا "جيشاً" ولا "جبهة"، إنه هذا كلّه - مبثوثاً في الهواء، لا يُرى وإن رؤيت آثارهُ، ولا يُلتقَطُ إلاّ "رماداً". الشخص الذي تتجلَّى فيه هذه "الفكرةٌ - الموت"، يُصبح هو نفسه "مَوْتاً" - عاجلاً، أو آجلاً. ولا قوّةَ، أياً كانت، ومهما كانت تستطيع أن تغلبَ الموت. قد لا يتنتصرُ هو، بوصفه فَرْداً، أو "شخصاً - موتاً". بل إن المسألة ليست في انتصاره على "الخارج" بقدر ما هي في انتصاره من داخل، لأن هذا الثاني يتضمن حتماً شيئاً أو جزءاً من الأول، إن لم يكن الكلّ. المسألة، بتعبير آخر، تُصبح في الفِعل نفسه. العمل وليس النتيجة: تلك هي أولى الدرجات في السلّم الذي يَرْقى إليه هذا البطلُ على هذا المسرح. خصوصاً أن الصورة التي يتجسّد فيها الموت و"تموت"، لا تموتُ إلا ظاهرياً أو شكلياً. ذلك أنها "نائمة" في الحياة، و"موتها" هو الذي يوقظها. الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. حديث شريف. وهي، إذن، ليست موجودة بمجرّد حياتها، وإنما هي موجودة بموتها - وهذا هو وجودها "اليَقِظ"، "الحَيُّ"، والأكثر كمالاً. إنه المسرح الذي يمكن أن يكون شعاره ما يقوله المتنبي: "تقول: أَماتَ الموتُ، أم ذُعِرَ الذُّعْرُ؟". أُضيفُ أنّ في هذه الصورة ما يتخطاها، ما يتخطّى الفَرْدَ مَجْلاها الظّاهِر. ما وراءَها، ما وراء الفَرْد هو مَدارُ الأهميّة والمعنى. ذلك أنّ الكينونة هنا كامنةٌ في هذه "الماورائية". ولا يتغيّر الأمرُ سواءٌ كانت هذه الماورائية تتمثل في "الآخرة" - دينياً، أو تتمثل في الوطن أو المجتمع، سياسياً. في الحالين الانسان الذي يكون تجسيداً لهذه "الفكرة"، أو صورةً لها، لا يموتُ إلا ظاهرياً. وهذا ما يُفسِّره الإيمان بأن الحياة حجابٌ، والموت كشف. وخيرٌ للإنسان إذن أن يعيش في الكشف، من أن يعيش وراء حجاب. - 5 - مُتْ إذا أردتَ البقاء: تلك هي الراية التي يرفعها بن لادن. العمل الحقيقي هو العمل للموت. والرغبة النبيلة الكُبرى هي الرغبة في الموت. الوجود الأرضيّ جسرٌ بين الحياة والموت. جسرٌ في الفراغ، لا يُوصِل إلاّ الى الفراغ. المِلْءُ هو في أن نتجاوز هذا الوجود. والموت، وحده، هو هذا المِلْء. هكذا تبدو "الفكرة" أكثر أهميّة من حاملها - الإنسان. الكلمة التي ينطقُ بها الانسان، أكثر عظمةً منه. لا "الفكرة" هي التي يجب أن "تموت" من أجل الانسان. بل العكس: الانسان هو الذي يجب أن يموت من أجل "الفكرة". الإنسانُ موتٌ متواصل - مُؤجَّل، موقتاً، الى هنيهة، الى حين. فإذا أرادَ أن ينتصرَ على هذا الموت - اليوميِ البائس، فلا بُدّ له من أن يُحقّق موتَه العظيم: الدُخول في الحياة الأبديّة. - 6 - كيف يحيا الإنسان بموته؟ أو لماذا لا تَحضر الحياة إلا إذا غابت؟ في ذلك ما يتناقض مع قولة رامبو الشهيرة: "الحياة الحقيقية غائبة"، إلا إذا فهمنا هذه العبارة بأن الموت أو تغييب الحياة الحاضرة هو الذي ينقل الحياة الحقيقية من الغياب الى الحضور. ولا عدم! ليس هناك في هذا المنظور، عدمٌ - إلاّ هذا "العدم" الأرضيّ، إلاّ هذه الحياة البائسة، حياة الظلم والعدوان، التي يحياها الانسان على هذه الأرض. ما عدا ذلك، فيما وراءها، خلودٌ في الجمال واللّذة والغبطة. أبدياً. - 7 - هُوذَا رهانٌ بالحياة على اللغة، من حيث أنّ "الفكرة" في تأويل بن لادن، لغة. هُنا نجد ملامح لاتجاه يجعل من الألفاظ حقائق مُطلقة، ويوصي بالموت من أجل هذه الحقائق: هذا هو جوهر الخطاب الذي سيستند إليه بن لادن. الخطاب "دينيِ"، غير أن العَمَل شيء آخر. وهو خطابٌ يطلب من الإنسان أن يموت من أجل شيءٍ "لغويّ"، ينهض على الإيمانِ بالفكرة - اللغة! لنتخيّل، إذن، بن لادن يصرخ بنا جميعاً: الحياة سجن! إلى التحرّر، إذن، إلى الموت.