مهرجان صبيا.. عروض ترفيهية فريدة في "شتاء جازان"    سوق بيش الأسبوعي.. وجهة عشاق الأجواء الشعبية    اكتشاف مخلوق بحري بحجم ملعبي كرة سلة    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    إسبانيا تفوز على الدنمارك وتتأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    نيوم: بدء تخطيط وتصميم أحياء «ذا لاين» في أوائل 2025    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    رتال تختتم مشاركتها كراعٍ ماسي في سيتي سكيب بإطلاق حزمة مشاريع نوعية بقيمة 14 مليار ريال وتوقيع 11 اتفاقية    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    المملكة تواصل توزيع الكفالات الشهرية على فئة الأيتام في الأردن    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    لماذا فاز ترمب؟    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة أديب خان فتال في أفغانستان قبل تسعين عاماً . الشعب والولاة ... وحكاية مزار الشريف ومنافسيها على النذور 2 من 5
نشر في الحياة يوم 05 - 12 - 2001

} نتابع في ما يلي مقاطع من مخطوطة "في الشعاب الآسيوية" للدمشقي أديب خان فتال، وهي تظهر للمرة الاولى بعد حوالى تسعين عاماً على كتابتها، وكان المؤلف احد المقربين من ملك الأفغان أمان الله خان في تجربة الحداثة المبكرة بعد الحرب العالمية الاولى، واستمر يدافع عنه بعد خلعه وفشل التجربة. في الحلقة الاولى امس تعريف بتحديات الاستقلال الافغاني، وهنا حلقة ثانية:
في اليوم العاشر من جلوس الملك أمان الله تشكلت لأول مرة أول هيئة وزارية مسؤولة في البلاد وأول ما فكر به الملك الجديد بعد اعلانه الاستقلال امارة بخارى وخيوة وحصة الحدود الشمالية. ورغم مشاغله الداخلية درسها مع هيئة وزرائه بروية ومن ثم طلبني الى مجلس سري وكان جلالته يعرف ما عندي من شوق الى الرحلة الى بلاد ما وراء النهر. وأولى اليّ بأوامر وتعاليم يجب عدم ذكرها الآن. وأمرني بالسفر حالاً الى بخارى تاركاً لي الخيار في اخفاء المهمة او الجهر بها حسب الضرورة وزودني بما يسهل مأموريتي من ... الاعتمادات الكافية.
ونظراً لأن المهمة كانت تتطلب الاسراع بادرت بتهيئة اسباب السفر حالاً وفي ليلة الجمعة من 25 جمادى الأولى 1337 ه تشرفت بالمثول لدى صاحب الجلالة الملك بقصد الوداع وكانت أعباء هذه الأسابيع الثلاثة ظاهرة على وجهه. لقد فارقته دعابته المشهور بها. ولازمه السكون الذي يوحي المهابة والعظمة لرائيه وعيونه تفيض نوراً يشع متواصلاً.
وكأني بجلالته وقد شعر بوجوس ومبلغ المي من موقف الوداع فاستقبلني بابتسامة مشجعة وأعاد عليّ تعاليمه ثانية، وهو يربت على كتفي وأوضح لي طرفاً من سياسته الشرقية واستعادني إياها وناقشني في بعض ما أبديته من الافكار ووافقني على البعض ...
كان جلالته يشرفني بنصائحه بسرعة وتدفق وما وقف على حرفه الأخير حتى ضم رأسي الى صدره علامة الوداع وقبلني في جبيني. ولما حاولت تقبيل يده سحبها بلطف فودعته وداعاً لا أنكر انه كان مؤلماً مشجياً مثيراً، لأن المملكة الافغانية لم تنته مهمتها عند اعلان استقلالها فحسب، بل كلنا يعرف مبلغ العراقيل والعثرات امام هذه الخطى التي مشيناها وغموض نتائجها وصعوبة التكهن بها. سيما بريطانيا ليست من الأمم التي تنزل على رغبة الشعوب دون عنف ولا قسوة. خصوصاً وقد خرجت من الحرب العامة ظافرة ظاهرة على جميع امم العالم وأعداؤها صرعى بين أقدامها تقف على تلال اجداثهم لتنادي لمن الملك اليوم.
فكل هذه الأفكار كانت تثير اشجاني وتملأني بالوساوس والخيالات. فخرجت من القصر وما وعيت على نفسي حتى وصلت باب دار وزير الخارجية محمود خان طرزي ركن الأساس في هذه النهضة الحديثة وأبو الحرية في الافغان. دخلت عليه فوجدته بين أهله وولده هانئاً هادئاً يوحي بالطمأنينة الى قلب رائيه حتى كان العسير يسيراً عنده. استقبلني بضحكته الرنانة وبكلماته العذبة وبروحه النشيطة التي بعثرت جميع ما كان يجلل هامي من الخيالات والتطيرات. وبعد سمر طويل استأذنته بالوداع فبدت علائم الجد على وجهه وانتحى بي ناحية يكرر عليّ ارشاداته وأوامره ...
خرجت الى قافلتي وأحمالي فتفقدتها وأرسلتها تدلج في الليل البهيم. تحت رئاسة الغازي أحمد.
في الصباح الباكر من يوم الجمعة 15 جمادى الأولى 1337 هو شباط 1919 ودعت من حضر لوداعي من الأهل والصحاب وامتطيت سيارة من سيارات البلاط أمرت بنقلي الى آخر طريق ممكنة في المناطق الجبلية. فسارت تتخطى القصور المتفرقة في جادة شهرارا حتى اشرفت على قصر شهرارا وبرجه الأثري المشهور الذي بناه الأمير عبدالرحمن خان ذكرى لتوقيع المعاهدة الانكليزية الافغانية على ربوته التي فاز بها الانكليز بريشهم وأمنوا على أرواحهم بعد حصار ذاقوا به الأمرّين.
وقد أمر ذلك الملك العظيم الذي هو بشهادة الشرق والغرب اكفى قائد وأعظم ملك تمكن من جمع شتات البلاد وكون وحدتها المعروفة الى يومنا هذا. ببناء ذلك البرج والقصر ليتذكر الاحفاد مجد آبائهم فلا يفرطوا في استقلال بلادهم.
اطرقت اجلالاً لهذا الأثر الشامخ. حتى بعدت بي السيارة عنه وأخذت تتسلق تلال باغ بالا وتتلوى على هضباتها المطرزة بدوالي العنب التي اخذت تدب بها بعض علائم الحياة. فتبدو في تعريشها على السفوح وفي براعمها المحمرة كوشي متناسق كان يبعث بالنفس الاغتباط لولا حزّة الألم التي أذكاها وداع الأعزة في النفس.
بعد دقائق قليلة اشرفت السيارة بنا على قصر باغ بالا المشيد على اعلى تلك القمم يطل من بين اشجاره العارية الكثة على فضاء كابل الفسيح. وكأنه رابض على ظهر الزمان يهزأ بتقلباته. وهو القصر الذي توفي به الأمير عبدالرحمن خان وتوج به الملك حبيب الله. وقد تبرع به في ما بعد الملك امان الله للحربية ليكون هو وجميع غياضه ومياهه مستشفى عسكرياً لها وقد اسفته القنابل وزرته المفرقعات يوم احتمى به باجه سقا واتخذه معقلاً له حتى صار قاعاً صفصفاً يندب حظاً دابراً وعزاً زائلاً.
وانحدرت السيارة بنا تطوي سهول كوهستان وما ادراك ما كوهستان. غياض وجنان فيها من كل فاكهة زوجان وينابيع وغدران تغدق الحياة على تلك الوديان فتخضلّ فتنبت من اكلها ما يفيض على الهند التي لا تنضج ارضها لفواكه البلاد المعتدلة كالبطيخ الأصفر والأحمر والمشامش وانواع العنب والزبيب الذي لا بزر له وأحسن التفاح وأفخر الاجاص وأجود الكرز. لذلك ترى كوهستان اكثر بلاد الافغان عمراناً وأغزرها ثروة ونفوساً. تجارتها رابحة وأهلها لهم دأب ومثابرة على العمل الممضّ صيفاً وشتاء. ولهم اختصاص في حفظ الفواكه وتجفيفها غير انهم لم يأخذوا حتى الآن بالأصول الحديثة ليستغلوا فوائدها أضعافاً. وهم شجعان ذوو نخوة ومروءة، وقد صمدوا لزعازع القوميات التي كانت تجرفهم باسم الافغانية. وهم من العرق الفارسي التاجكي احقاباً طويلة الى ان وحدتهم السلطة الافغانية في أيام أحمد شاه الدراني وضمت شتات البلاد عام 1180ه. ولم تفرق بين تركي مغولي أو أفغاني غوري أو فارسي تاجكي، وتأييداً لهذا الادغام نقل الملك تيمور شاه الافغاني جد العائلة الحالية عاصمة الملك من قندهار الافغانية الى كابل التاجكية الفارسية.
بعد ساعة ونيف بدت اطلال بكرام وخرائبها الأثرية عن بعد وهي الأثر الوحيد الشاهد على ما كان لهذه البلاد في الغابر من صولة وسلطان غير انها تحتاج لاستكشاف وحفريات فنية ليظهر ما في باطنها.
وفي بلدة قلعة مراد بيك، رأيت محمد سرور خان الوالي الجديد للاقطاع التركستانية واقفاً بانتظاري وكنا على موعد لنسافر معاً على طريق طويل مملّ يحتاج لجهود وكثرة لاجتيازه خصوصاً في الجبال الثلجية، وكان هيأ بعض حاشيته الشاي فجلسنا على أرض وشاها الربيع بخضرته السندسية واسترحنا قليلاً نمتع الطرف بهذه السفوح والروابي المتراصة فوقها القرى حتى تكاد تكون متصلة ببعضها تتخللها مياه تلك الينابيع العذبة.
وعاودنا المسير الى سراي خوجه ومنها الى استالف عروس كوهستان التي تبرز من بين تلك الوديان فوق رابية هي أشبه بعنق البعير لتطل من عل على ما يخلب اللباب روعة وبهاء، وبيوتها متراصة فوق بعضها حتى رأس القمة التي يزينها قصر ملوكي صغير وبستان عظيم تفور المياه من جوانبه الأربعة لتسيل بروعة وبحب الى تلك الوديان السحيقة. وهذه البلاد الثلاثة كل منها قائمقامية ملحقة رأساً بكابل.
وكان الأهالي طوال الطريق يرحبون بنا دون تعارف سابق وذلك حسب ما اعتادوه في عصرهم البائد، أي عصر الملك حبيب الله خان، ان يؤدوا فرائض العبودية لكل من عليه مسحة حكومية، صغيراً كان او كبيراً عن خوف ورهبة لا عن حب ورغبة، والويل لمن لا يقوم بمثل هذه التحية والدمار لأهله وذويه.
في الساعة الثالثة عصراً وصلنا بلدة جهاريكار قاعدة كوهستان ودخلنا سوقها وكان عامراً مكتظاً والبلدة كبيرة آهلة. وكان المتصرف سلطان علي خان بانتظار الركب في الباحة العامة هو وجمع من رجال البلاد. فسلمنا عليه وتقبلنا تهانيه بالملك الجديد وذهبنا الى داره الخاصة واسترحنا قليلاً. وبعد هنيهة وصلت قافلة رجالي واحمالها وعلى رأسها القريب الصديق السيد أحمد القيسي الدمشقي الأصل الذي تعمد مرافقتي في هذه الرحلة. وسررت به لما عرفته عليه من الاخلاص والأمانة والشهامة التي تجلت خصوصاً في الحرب العامة حيث قام بما يعجز عنه مئات الرجال واذاق الانكليز مرّ العذاب عامين ونيفاً في حدود الافغان المحايدة، حيث ترك بين تلك الجبال تاريخاً مجيداً من اعماله وذلك انه عندما أبى الملك حبيب الله الا ان يكون بمعزل عن أوار الحرب العامة. فر السيد احمد المذكور الى حدود الافغان مع رفيق له من دمشق أيضاً يسمى خير الدين وكان يوزباشي اركان حرب استخدم في الافغان بوظيفة مفتش المدارس الحربية، واندسا بين القبائل يثيران الرأي العام على الانكليز باسم السلطان الذي هو بعرف الهنود خليفة المسلمين قاطبة وينثران من النضار الذي زودهم به الحزب الوطني بالخفاء حتى تثار روح الجهاد في القبائل وأخصها قبائل تيراه الافريدية التي هي من أشجع سكان الحدود. واضطر حكومة الهند ان تقطع المدد عن الجنرال طاوشند في كوت العمارة لتحفظ الهند من هجماتهم المتوالية على المدن زهاء عامين ونيف.
ولما رأى الانكليز انه لا فائدة فيما بذلوه لقتل هذين المجاهدين او القبض عليهما توسط الملك حبيب الله الذي استعمل نفوذه في القبائل وألقى عليهما القبض بعدما وعد ان لا يمسهما بضرر وسجنهما في دار منفردة بقية أيام الحرب العامة حتى قتل، وفرج عنهما الملك أمان الله خان، فأما المجاهد خير الدين فقد سافر عائداً الى دمشق عن طريق بخارى حيث قتله هناك البخاريون لأنه كان حليق الذقن من جملة من قتلوهم من الشبيبة المتفرنجة على زعمهم. واما السيد احمد الذي عرف بين القبائل باسم غازي أحمد فقد رافقني في هذا السفر اذ كان لا يمكنه العودة لمسقط عن طريق الهند.
انضمت قافلتي الى قافلة الوالي، ورحلوا بعد استراحة قصيرة الى المنزل الرابع المسمى برج كل جان، اما نحن فقضينا ليلتنا بضيافة متصرف كوهستان. وباكراً قبيل الشروق، امتطينا سياراتنا فسارت تجري بنا على منخفضات وسفوح تستقبل ازاهرها اصباح الربيع الباردة.
ولما علونا احدى تلك الروابي كشفنا عن بعد جبل السراج يطل بقلاعه الحصينة من عل ويتشامخ بمعاقله الحربية التي هي ولا ريبة من احسن المنشئات الحديثة ومن أقواها دعائم. وقد بناها الملك عبدالرحمن خان بمشورة خيرة من مهندسي الغرب لرد هجمات الروس فيما اذا سولت لهم انفسهم يوماً اقتحام الأفغان الى الهند، وللتحصن فيما اذا عاود الانكليز حملاتهم يوماً على كابل، التي ثبت فناً انها تقوى على رد غارات الانكليز.
وعلى سفح جبل السراج المذكور معامل الكهرباء العظيمة التي تسيّر معامل كابل الحربية ومعامل النسيج وتضيء العاصمة وبيوتها. وهذه المعامل احدثت قبل عشرين عاماً ونيف وهي تكبر اضعاف ما تحتاجه البلاد في الحاضر من الكهرباء وتستقي قواها من شلال ضخم يقوى على تحريك عشرة أضعاف هذه المعامل.
في الساعة العاشرة تماماً توقفت بنا السيارات امام جسر منك المتهدم، معلنة انتهاء رحلتنا المريحة. وبدأت رحلة الجياد وكانت واقفة بانتظارنا فامتطينا صهواتها وغصنا في وادي تتم دره.
السبت 26 جمادى 1337 شباط 1919
تبطنا وادي تتم دره الضيق وكان له من المناظر الخلاّبة ما يشفع بتعاريجه ومزالقه ....
قبيل الغروب اشرفنا على المضارب التي أعدت لنا خصيصاً في منتصف الوادي على منبسط من الأرض بني عليه نزل برج كرجان وقد رأيت الوادي تحول الى مخيم عظيم لقفل كبير، هو أضخم من معسكرنا ومرافقينا. وما كدنا نصل المضارب حتى استقبلنا مئات من الناس ممن أعرفهم في كابل ولا عهد لي بهم بمثل هذه الأسفار في مثل هذه الأوقات. فحرت وانثنيت الى أحد مرافقي الوالي صوفي عبدالحميد خان من أفاضل رجال الأفغان ومن علمائهم العاملين في حقل الرياضيات حيث تتمتع البلاد بعدد من اختراعاته المفيدة وممن استهواهم تسخير الشمس في قضاء الحاجات، فاخترع مدفعاً لضبط الزوال تطلقه الأشعة. سألته سبب اجتماع هذا الحشد الحافل بمثل هذا الوادي. فقال:
- كل هؤلاء سيكونون في خدمة الوالي.
- وهل سيحتاج الوالي لهذا الجحفل الجرار من الخدم وكل واحد من هؤلاء يخدمه بضعة غلمان؟
ضحك طويلاً من سؤالي وتعجب وقال:
- هؤلاء يخدمون الفرد ليستخدموا رقاب الأمة وما هم عندي الا زبانية سلّطهم الله على هذه البلاد ليجروها الى الخراب. وهم هم رمز الظلم والجور.
- أفصح أفصح بالله عليك. فهل هم من مأموري الحكومة الرسميين؟ أو ما شأنهم في البلاد؟ وكيف جمعوا كأنهم على موعد؟
- يا صديقي جرت العادة انه عندما يتعين وال جديد على احد الاقطاع يتطوع جماعة من مثل هؤلاء بملازمة ركابه ويتبرعون بخرج سفره وسفرهم وعندما يصل الوالي الى مقره يوزعهم على الوظائف التي تشغر بعدما يعزل جميع المأمورين الذين ولاهم الوالي السابق له. فيصدقون معه ويوفون له ويرتبط حظهم بحظه ويشاركونه في اللقم السائغة التي يقتطعونها من لحوم الأمة وأكبادها. حتى ان جاء والٍ آخر يعزلهم وينتقم منهم على قدر ما يصله من الشكاوى من اعمالهم ويعصرهم حتى يجردهم من أكثر ما سرقوه. وعلى هذا المنوال تسير الأعمال حتى ان بعض أهالي البلاد قد اختاروا الهجرة تخلصاً من هذا الظلم المريع.
- ولكن لا تنس يا صديقي ان في البلاد ملكاً جديداً مجدداً عادلاً عاملاً لا يرضى عن عماله ان هم اتبعوا من سبقهم في سنن الظلم والجور.
- لا تكن يا أخي ساذجاً بسيطاً. فإن خلق القوانين على الورق شيء وتنفيذها شيء آخر، وبلادنا من اوصابها فقر الرجال حتى لتجد بعد الامعان هذه الطغمة التي ندعوها بيننا زبانية خيراً من جميع الطبقات. فعليك ان ترى وتسكت حتى يعم العلم البلاد.
- كيف أسكت وقد حضرت بنفسي حفلة حلف يمين الولاء من الوالي نفسه التي أكدها على القرآن ونحن وقوف بأن يكون كالأب الرؤوف في عدله وحلمه تلقاء من ألقي اليه مقاليد أمورهم. وهل أظلم من يفتري على مأمورين ضعاف قلدوا الوظائف قديماً ليعزلهم دون ما جريرة ليسلط أمثال هؤلاء الزبانية على رقاب الرعية. لا. لا. أنا لا أرضى بهذا وسأذكره بقسمه ....
الأحد 27 جمادى الثاني 1337
... في بطن هذا الوادي الضيق وعلى مقربة من بلدة غوربند وقعت حادثة طريفة ظريفة تملأها الفكر والعبر لا بأس من ذكرها. طالما وقد أراني الوالي موضعها وذكرني بها.
يسود اعتقاد عجيب عند الأفاغنة والبخاريين والتركمان ان رابع الخلفاء الراشدين علي رضي الله عنه حملته ناقته بعد مقتله وتبطنت به الصحارى حتى بلغت البلاد الأفغانية. ودفن بها في بلدة مزار شريف على مقربة من بلخ كما سيجيء تفصيل ذلك معنا في وصف بلدة مزار شريف، عاصمة تركستان الأفغاني. وان دفنه في النجف خرافة ابتدعها الخوارج. وانه ظل مجهول المقام قروناً طويلة حتى أذن بأن يعرف مرقده ووعد من يجاوره أربعين يوماً بقضاء حاجته. وشهر عن هذا المرقد انه يبرئ الأكمه والأبرص والأعمى والمقعد. وناهيك ما بهذه المصحة العجيبة من جم المزايا لإقبال ذوي الحاجات عليها وأخصهم المرضى والفقراء.
والأعجب في هذه البدعة ان القرون الأربعة التي اكتشف بها قبر علي رضي الله عنه من دون ان تظهر له معجزة ما لم تقو على دحض هذا الباطل، وظل الناس يحجون في أول الربيع الى بلدة مزار شريف آلافاً مؤلفة ويجاورون المقام أربعين يوماً يقضونها بالسمر على بطحاء رملية تكللها ورود الشقائق حتى لتظنها بحر خضم يتماوج، ويطالبون علياً... هذا بالشفاء وذاك بالثراء وآخر بالقوة والغلبة على الأعداء. وهذا لعمري أحط ما وصل اليه المسلمون من دركات الجهالة ومخالفة القرآن والاسلام الصريحة في أوامرها التي تعد وساطة ما سوى الله وثنية وضلالاً.
أجل هذه عقيدة أمم كثيرة في بلدة مزار شريف ومرقد علي رضي الله عنه، وكراماته لم تنتزعها الأعوام الطويلة من عقول الناس. ولكن وجد في العام الفائت من أراد استغلال هذه التجارة الرابحة بنفسه والاستفادة من سذاجة المسلمين وجهلهم. فتحالف عشر من قبائل هزارة المغولية وتعاهدوا قبل أعوام على أن يهجروا مساقط رؤوسهم الى غير بلادهم ويتظاهر بعضهم بالعمى وبعضهم بالصمم والبكم وبعضهم بأمراض أخرى. حتى يُعرفوا من الجميع بما تظاهروا به ولا يشك أحد بأمرهم. وهكذا فعلوا حتى اختمر أمر تمارضهم في عقول من جاوروهم ولم يبق من أحد يشك بأمرهم. ففي يوم من أيام الخريف الماضي أعلن كبيرهم وكان يتظاهر بين الناس بالتقوى والزهد والتقشف، انه رأى علياً في نومه وأخبره انه هجر مرقده في مزار شريف هرباً من شرور أهلها وفسقهم وانه انتخب مرقده في وادي غوربند وقد اختار هذا الشيخ ليظهر مرقده الى الناس حتى يحصل لهم البركة والشفاء.
لحق الشيخ هذا حشد عظيم ممن كان يعتقد بولايته وطهره الى هذا الوادي الذي نمر نحن فيه الآن وتبعهم المتمارضون من كل قرية سكنوها مع كثير من أهلها. حتى بلغوا بقعة حددها لهم الشيخ كما رآها بمنامه المختلق.
ولا تسل كم كانت دهشة الناس عظيمة عندما رأوا باطن الأرض فظهر قبر ما كادوا يجاورونه حتى فتح الأعمى بصره وقام يرقص بالناس منادياً ان علياً لمس عينيه ببنانه فشفاها وها هو يبصر النور وكذلك الأخرس يخطبهم بفك عقيلة لسانه. والمقعد بلمسة علي التي أعادت لفخذه الحياة ....
وأخذت تنهال النذر على الشيخ وأتباعه كنبع من ذهب لا ينضب معينه. وقد بيعت الخيطان العشر ممن باركهم علي ومنّ عليهم بالشفاء بالدنانير الصفر.
سرعان ما تبدلت هذه المعجزة السماوية، أو بمعنى أصح المهزلة الجاهلية الى مأساة مروعة. تعد من الويلات التاريخية إذ اشتد برد الخريف في هذا الوادي القاحل وتفشت الأوبئة بين هؤلاء الحجاج. وبدأت المجاعة تدب دبيبها بينهم. وهذا كان لحمق القائمين بهذه الألعوبة بانتخابهم لزمان ومكان غير مناسب لمثل هذا الادعاء العظيم. على رغم ما صرفوه من الذكاء. لم يسع الملك حبيب الله خان الا ان وقف وقفة مشرفة تجاه هذه الخرافة الجديدة وأرسل على جناح السرعة شرذمة عسكرية تحت أمرة وزير ماليته لإلقاء القبض على القائمين بهذا الأمر ونسف القبر المصطنع بالديناميت ....
الحلقة المقبلة تماثيل باميان مخازن وحبوب واسلحة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.