إذا كانت صورة "الأفغان العرب" اليوم سلبية، خصوصاً بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن، فان حضور بعض العرب في تاريخ افغانستان الحديث كان ايجابياً، بمعنى انه كان سلمياً ومدنياً. وأديب فتال أو أديب خان صاحب المخطوطة التي تنشر "الحياة" على حلقات مقاطع منها، هو أبرز هؤلاء الايجابيين السلميين المدنيين. عنوان المخطوطة التي تنشر للمرة الأولى "في الشغاف الآسيوية" أرادها المؤلف "وصفاً اجتماعياً سياسياً تاريخياً أدبياً تحليلياً دقيقاً" لبلاد الافغان وصعوداً الى تركستان الافغاني وما وراء النهر: بخارى، سمرقند، طشقند وصولاً الى روسيا. وهو وصف عيان، اذ عبر الكاتب هذه المناطق كلها بالسيارة أو على صهوة حصان، معايناً طبيعتها وعمرانها وأهلها وقضاياها، في طريقه الى روسيا عام 1919 مكلفاً من ملك افغانستان الجديد أمان الله خان الاتصال بالحكام الجدد بعد الثورة البلشفية، وتقدير المتغيرات التي ستحملها هذه الثورة الى المناطق الاسلامية الفاصلة بين افغانستانوروسيا. وقد كتب أديب فتال وقائع رحلته في صورة يوميات، بالعربية وبالفارسية كان يتقنهما الى جانب الفرنسية مع المام كاف بالانكليزية، واليوميات هذه، أتلف اكثرها بعد سنوات حين جرى الانقلاب على أمان الله خان لكن الكاتب أعاد تدوينها، وهي جميعها تتناول فترة ما بين 1919 والنصف الثاني من عشرينات القرن العشرين. وهذه اليوميات النادرة ربما تكون أفضل مرآة لمعرفة افغانستان أرضاً وبشراً، وهي على الارجح أفضل نص كتبه عربي عن ذلك البلد الذي يحظى اليوم باهتمام العالم. مخطوطة "في الشغاف الآسيوية" المطولة لم يبق منها سوى كتابين مخطوطين أو ربما لم يتابع المؤلف كتابة ما وعد نفسه بإنجازه، ففي حياة عاصفة كالتي عاش أديب فتال كان من قبيل الحظ السعيد أن يبقى بعض مخطوطاته ووثائقه سالماً، وهذا البعض يضم يوميات من الرحلة المذكورة وصوراً فوتوغرافية وكتابات أخرى عن مصر والهند، وقصاصات من صحف عربية كتب فيها مدافعاً عن أمان الله خان ونهجه في الحكم، ووثائق عن الاقامة في برلين وفي بعلبك لبنان، وبيانات بالفارسية تدافع عن أمان الله خان وأخرى تهاجمه وتتهمه بالمروق لأنه اختط لأفغانستان نهج التحديث. تراث أديب فتال المخطوط الذي ننشر هنا بعضاً منه للمرة الأولى موجود لدى أرملة ابنه المقيمة في مزرعة قرب دمشق السيدة رنده الخالدي فتال، وقد نبهتنا اليه حفيدته المقيمة في القاهرة الدكتورة لمياء فتال سعادة، فالشكر لهما، وهنا الحلقة الأولى: على رغم فقد بلاد الافغان حتى سنة 1919 استقلالها السياسي وانضواء مقدراتها الخارجية تحت اللواء البريطاني، الذي كان لا يسمح لأمة من الأمم بأن ترنو ولو من فوق منكبها الى ما وراء تلك الجبال التي تقي ولا ريبة سور الهند الحصين وجدارها الذي لا يُخرق. اجل ورغماً عن العقيدة الدولية ان الافغان جزء متمم للهند تختص به بريطانيا دون غيرها. فقد كانت الافغان تتمتع باستقلال داخلي من اوسع ما عرف من نوعه في الارض. حتى ان بريطانيا لم يكن يمثلها في الداخل الا سفير مسلم هندي نادراً ما كان يخرج من داره درءاً لأنظار الهزء وكلمات السخرية التي كانت تنهال عليه من الافغانيين في الاسواق. وقد اعترفت الدولة القيصرية لبريطانيا بحقوق السيادة على ذلك الشعب الشجاع الذي لم يكن يعلم بما يحوكه الأجانب حوله من شباك الاستعمار ولا يتكل إلا على قوة جنانه وحسن اسلوبه في الدفاع الوطني الذي كثيراً ما ألقى بأبناء السكسون وعتادهم وأجنادهم الى خارج حدوده بقسوة هيهات ينساها التاريخ. ولقاء التهجم الانكليزي على الاستقلال الافغاني، اعترفت انكلترة لروسية في تقسيم ايران بينهما الى منطقتي نفوذ عينتها معاهدة سنة 1907 وذلك بعدما اخفق الانكليز في خلق حروب جديدة لزجّ روسية بها وبعدما رأوا ان الروس يتمشون باصلاحاتهم الواسعة على اثر الحرب الروسية - اليابانية سنة 1904 - 1905 بخطى سريعة يقودها حافز الانتقام من بريطانيا التي سدت ابواب المضايق العالية بوجه وحدات اساطيلهم البحرية حتى منيت الواحدة بعد الاخرى بالخسران والغرق، لأنها وصلت اشتاتاً الى ميادين الحرب في ولادي واشوك. اجل فإنه لما طاشت سهام الانكليز في ايجاد مشاكل جديدة للقيصرية السلافية، نزلوا مرغمين على الامر الواقع واعترفوا لروسية بحقوق الجوار والاستعمار في تلك المعاهدة المشؤومة التي سلبت الافغان استقلالها السياسي وتركتها لقمة سائغة لإنكلترة. وقسمت ايران الى منطقتي نفوذ شمالية وجنوبية وأخذت كل دولة فيها توطد اقدامها بشتى الوسائل كل في حصتها. وما استحت انكلترة ان ترسل نسخاً من تلك المعاهدة الثنائية الى ملك الافغان حبيب خان ليصادق على قبوله الحماية العلنية بعدما كانت ضمنية ومنحصرة في التمثيل الخارجي دون غيره. وقد وصلته نسخة المعاهدة وموادها وهو في رحلة في اكناف بلاده البعيدة. فوقف الملك وقفة مشرفة ورمى بالمعاهدة حانقاً وقال: اما كفانا اننا نعترف بعهد ضمني بِرّاً بالوعود التي قطعناها شفاهاً حتى تريد انكلترة ان تسجل علينا هذا بعدما تآلبت علينا هي وجيراننا، لا والله. وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. وكان لكلمات الملك هذه دوي في الداخل وقد عدّها بعض من لهم إلمام بالموقف اعلاناً من الحكومة بتملصها من وعودها السابقة ونامت انكلترة على غضاضة دون ان تجيب على هذا الانذار بشيء، درءاً لمشاكل كانت بغنى عنها بعدما تم التفاهم بينها وبين الروس، وأحكمت اواصر حصار الافغان الخارجي وقبضت على مرافق تجارتها وقيّدتها بالرسوم الجمركية من الخارج كما شاءت. غير ان الحزب الوطني في الافغان لم ينم وأخذ في دياجي الغسق يؤلف حزب الدفاع الملي ونواته المجاهد الكبير محمود بك خان والد الملكة ثريا السياسي والشاعر والأديب الذي كان يحرر جريدة "سراج الاخبار الافغانية" النارية اللهجة. وقد تمتع هذا الحزب في البدء بعطف بعض افراد العائلة المالكة. إلا انهم في آخر الأمر اخذوا ينسحبون منه الواحد تلو الآخر ويذيعون عن نياته ما غيّر الملك حبيب الله خان على النابهين من ابناء امته وأخذ يستجرهم الى حبوسه وبالغ في اضطهادهم حتى كاد يتمزق شمل الحزب وخصوصاً بعد ان شنق من اعضائه العاملين عدد غير قليل. ولكن ارادة الله غلبت ارادة الظلم وهيّأت للحزب الأمير امان الله خان الذي عاد فجمع اشتاته وبثّ بأفراده روح التضحية واخذ على عاتقه الرئاسة الفخرية للحزب. في تلك الهنيهة صرخ صارخ الدمار ينعق بأقوام الغرب ويزجهم بلهب الحرب العامة. وتورطت بها انكلترا فأرسلت الاركان الحربية الألمانية انظارها الى اواسط آسيا لخلق مشاكل لانكلترة في مستعمراتها فما وجدت اخصب ارضاً من الافغان التي لها وانكلترر مواقف مشهورة في الغابر. فأرسلت هيئة عسكرية وسياسية وصلت اشتاتاً الى الافغان واقتحمت حدودها التي كان الانكليز سيّجها بسياج معاهداته. وأخذت بمفاوضة الحكومة الافغانية رأساً في العاصمة، فبغت الملك حبيب الله وحار في امره لا يدري أيلبي صوت وطنه ويندفع مع المندفعين ليفوز باستقلاله او يلتزم جانب الحياد. وكلاهما كان بنظره وبالاً على عيشته الهانئة. غير انه اغتر بالوعود الانكليزية وخاف من روسية حليفة الانكليز ان تحمل عليه من الشمال فماطل في الجواب لتلك الهيئة حتى ملّت الانتظار وسافرت عن طريق الصين الى اميركا فأوروبا. فاحتدم غيظ الحزب الوطني الحر الذي عدّ هذه الفرصة للمطالبة بالاستقلال لا تعوض وأخذ يناوش الانكليز على الحدود لإسماع صوته عالياً الى حكومته فخنق الملك حبيب الله خان تلك الحركات التي عدّها هوجاء مخلوقة قبل وقتها غير ناظر الى التطور الجديد في البلدان الروسية، وغير آبه لما يجري وراء حدوده من التقلبات الزمنية السريعة، والتي كانت تحتاج الى دراسة وسبر غور وأخصها بخارى المجاورة لشمال الافغان. ولا ابالغ اذا قلت ان الحكومة والشعب الافغاني كلاهما كان لا يعرف ما يجري وراء حدوده ولا يتصدى الى الحوادث مستسلماً الى فريضة الحصار الوهمي الذي شاده الأجنبي من صرح الخيال. فوفّق وأي توفّق لعزل الأمم الآسيوية بعضها عن بعض حتى لا تتعارف فتتداول فتستفيق. وأنا كمحرر في جريدة "سراج الاخبار الافغانية" لم اتمكن يوماً من رواية خبر صحيح عن حدودنا الشمالية رغم تنقيبي الدائم وولعي بجميع اشتات الاخبار الشرقية، الى ان طرقت بخارى باب الافغان وأرسلت بعثة سياسية لتوطيد اواصر الجوار بين البلدين بعد اعلان الدول استقلالها السياسي في اواخر سنة 917 وإليك بيان ذلك تتمة لفائدة هذه النبذة التي لا بد منها قبل الشروع بالرحلة. وقد عرف الروس منذ بدء استعمارهم لبخارى تلك الروح الأبيّة من ابناء تلك البلاد وعرفوا البغض المتآصل بالنفس الطورانية لكل ما هو اجنبي فدرئوا فدرأوا خطر الاحتكاك المباشر بتلك الأمة العريقة في السؤال بأن اعترف القيصر بالامارة والحكم لسلالة امراء بخارى الذين يتمتعون من الشعب البخاري بمركز ممتاز لم يحلم به من قبل إلا ابناء السمأ في الصين، وتركوا لهم عروشهم المزوقة ليلهوا من فوقها ويعبثوا بمقدرات ابناء جلدتهم، ويسومونهم من الحيف والظلم ما يهيئ للأجنبي رويداً رويداً الاجواء الصالحة لدوام استعماره، وجرّ البلاد وتيداً الى حلقات سلاسله. وفعلاً فإن الدخلاء مهما اشتدت شكيمة ظلمهم هيهات ان يوطدوا حكمهم كما يوطده لهم متسنّمو تلك العروش كما سنثبته في سياق رحلتنا هذه. وقد اكتفت روسية بما قنصته من متاجر البلاد المحتلة ورؤوس اموالها، ومددت خطوطها الحديدية في سهول هولاكو وتيمور متجنبة التقرب من مدنها البالية وشيدت لمهاجري الروس بلداناً حديثة تجاور البلاد القديمة على ابعاد اميال قليلة. وحشدت في كل بلد منها ما يوازي خمس نفوس كل سكانها او نصفها في بعض المواضع. وتركت للعاصمة بخارى اسوارها الترابية وابوابها الاثرية التي تغلق ليلاً وتفتح نهاراً كعادة القرون السالفة. وبذلك حصروا المواهب ... وراء جدرانها الترابية وأبوا عليها ان تستفيء الى فكرة التمدين. وهذه سياسة من سياسات الاستعمار الروسي لا نظير لها عند بقية حكومات الاستعمار. وصفوة القول ان الروس منعوا عن البخاري جميع موارد الحضارة الحديثة، حتى المدارس الابتدائية ناهيك بالمعاهد العالية، وباسم الحرية شجعوهم على المثابرة على ما كان عندهم من العادات والتقاليد التي أتت على تراثهم الأخلاقي حتى طوّحت بهم الى الأسر والذل. وقد ذكر لي رحالة بخاري اجتمعت به مرة في الافغان، ان الروس انفسهم كانوا يعاونون الأمير على خنق كل فكرة عرفانية ووثبة مدنية بقولهم لمتسنّم العرش ولمن بيدهم أعنة الحكم من المسلمين: ان هذا مما يخالف دينكم ولا يوافق تعاليم مذهبكم حتى انهم اغلقوا لناقل الحديث مدرسة ابتدائية شادها على الأصول الحديثة وراعى بها الأصول الصحية وخالف بها عادة الدرس على الارض وهيّأ للطلاب منصات يجلسون عليها. وقد حرضوا امير البلاد الذي كان درس في خيرة جامعاتهم في مسكو موسكو ولينين كراد لينينغراد على ذلك السائح بقولهم للامير "ان ما جاء به الرجل يخالف ما جاء به الاسلام الذي امركم بالاخشيشان وقد يسبب ذلك نقمة رعاياك عليك" فتأمل. فلا غرو اذا شاهدنا اثر هذه الاساليب يبدو معتماً مظلماً في علاقة هذين الشعبين ببعضهما. وقد اشتدّت كراهة كل منهما للآخر حتى ان البخاري كان ينظر للروس نظره لعدوه اللدود الذي جاءه على كره منه وقاسمه بلاده وأقواته ورعى خنازيره بين غياضه ورياضه. بيد ان هذه الكراهة الشديدة لم تتجاوز حدود التعصب الأعمى ومطلق البغض الذي لم تخمره العقول على اساليب سياسية واقتصادية أو مرامٍ وطنية محضة. لذلك لم يوجد في جميع بخارى من فكر بمحاربة الاستعمار بسلاحه والاستفادة من مادته ومدنيته. بل وقف الكل جامداً ازاء نور الغرب، جاحداً بنعماء التكون العصري الجديد، الذي يستصرخ الأمم ويهيب بها الى الحركة والسعي حتى تنال تلك الشعوب قسطاً من حق الحياة وحظها. وقد استقامت لروسية الأمور ودانت لها الرقاب في تلك الأصقاع المترامية، بينما كان التنابذ والتناحر والشحناء والبغضاء والغارات الشعواء تفتك بأبناء البلاد أنفسهم. لأسباب يسهل فهمها على من عانى سفاسف الشرق وأهواءه ودرس شهواته ونفسياته. حتى أذن مؤذن الدمار في البلاد الروسية وفت في عضد تلك الأمة الجبارة ومزقتها الثورات الأهلية شر ممزق، ونفخ في صور البلشفة في مسكو موسكو يعلن فيما يعلنه من تبديل النواميس الحكومية استقلال الشعوب كافة من شرقية وغربية وتمزيق المعاهدات السرية التي كانت تشمل بلاداً أسيرة وبلاداً على شفى الأسر كإيران والأفغان وتركيا. وقد قصد البلاشفة الضعاف في مبدأ ثورتهم من هذا الإعلان استفزاز أقوام المشرق كافة ليزعزعوا كيان الاستعمار في الشرق كله وخصوصاً الهند وليكسبوا الآسيويين في قضائهم على هذا التراث البالي حيث كان حكم لينين لا يتعدى دائرة ضيقة في قلب بلاد المسكوف. واما بقية المدن الروسية وأخصها المستعمرات الشرقية فقد كانت في أيدي الروس البيض. وتمدهم الحكومة الانكليزية في الهند بشتى الوسائل وتقويهم وتمنيهم باضطهاد البلاشفة ومحاربتهم درءاً لما قد يدهم الهند من الخطر المفاجئ. واستغلالاً لفرصة التنابذ الداخلي الذي قد يواتيها في ترسيخ اقدامها في حصص خيوه وعشق آباد التي تشكل نقطة الخطر الأكبر على الهند بعد الأفغان وبذلك تكون على زعمها سوّرت الهند بالأفغان وسيجت الأفغان ببخارى وخيوه وأمنت جانب اعدائها السلافيين الأقدمين الذين طالما قضوا مضاجع ساستها وحرموهم لذائذ الأحلام وهناءة المنام. وفعلاً فإن الانكليز ما وقفوا في امدادهم للروس البيض عند هذا الحد. بل أخذوا يحشدون أجناداً كثيرة في بلدة مشهد المقدسة عاصمة خراسان الايراني. واتخذت القونسلية القنصلية الانكليزية شكل الحاكم بأمره في تلك البلاد المستقلة تحرسها مدافع صغيرة ورشاشات تعج بها أسطح دور القونسلية. لكن جميع هذه التدابير لم تجد فتيلاً وتغلغلت دعاية الاخاء البلشفي في صفوف البيض من الروس فانشقوا على أنفسهم ولعبت البروباغندا بعقول البسطاء منهم فقاموا يقتلون رؤساءهم ويحاربون رجالهم في العهدين القيصري والجمهوري، وقد فاز الروس الحمر أي البلاشفة بعد مناوشة صغيرة مع البيض منهم في طاشكند عاصمة تركستان الروس. وما ان هزموهم واستتب لهم الأمر حتى قاموا يعلنون على لسان مسكو بنية حسنة ولا شك الجمهورية الشفتائية. ويشجعون الأهلين على استرداد المجد المغولي ويمنحونهم ما يمنحه الضعيف الى القوي. حتى لو ان رجالات تركستان أظهروا قليلاً من الكفاية لتمكنوا فعلاً من تجديد صرح تلك الجمهورية ولمضوا بها الى الأمام. ولكن هيهات ان ينال الجهل كرامة الاعجاز فيثب بمثل تلك الأمة الخاملة الى جادة الصواب، بل هزل التركستانيون بينما كان الزمان جاداً وقامت بينهم سوق شحناء عظيمة في أول جلسة عقدت لتقرير النظام الجمهوري والقانون الأساسي. قضت على المجلس والجمهورية والفكرة الاستقلالية وهي بعد في مهدها. أوتعرف يا خليلي سبب تلك الشحناء المزرية؟ نعم! يجب أن تعرف لتضحك وتبكي معاً. تليت أمام المجلس العام المواد الأولى من الدستور التي تنص على قبول الشكل الجمهوري للبلاد وان لسانها لسان الأمومة أي التركية بحسب الاصطلاح في تلك اللغة. فأرغى بعض كبار العمائم الفارغي الرؤوس يغضبون تلك الغضبة العنترية للإسلام الذي يتنافى بزعمهم والجمهورية. وللسان الأمومة الذي حشر في قانونهم. وقالوا وفي قولهم اسفاف وسخف. "الجمهورية من بدع الكفار الأشرار". فلم تقلدونهم ولا تقررون الامارة الشرقية وعندنا من المشايخ والفقهاء من يصلح لها، ولم تحشرون لسان الأمومة في وسطنا بدل لسان الأبوة. وما دخل الروايات في تقرير اللسان. الويل لكم ولما بيتموه لنا من شر مستطير قد يتناول ديننا وسفور بناتنا وتهديم دوائر حرمنا التي ما جرؤ القيصر وصولته على مساسها بشر. وخرجوا مغاضبين الى الهيئات الروسية محتجين لأنهم لم يفهموا ان لغة الأمومة هو الاصطلاح المتعارف بين أدباء الترك للغة أهل البلد الواحد لا أكثر ولا أقل. وقد انهار وأسفاه بين عشية وضحاها صرح ذاك الاستقلال. وتدافع أبناء جنكيز بالمناكب. ليسلموا ما سلّم اليهم من السلاح ايذاناً باستقلالهم الى الروس ثانية ودفنت فكرة الجمهورية التركستانية الحرة التي كان لا يقيدها شرط ما ان لم يكن الى الأبد فإلى أمد بعيد لا شك ولا ريبة في ذلك. والثورة البلشفية اتت على البقية الباقية من نضار تلك الأمة وصهرت ثرواتها باسم المساواة في المال حتى تركت البلاد قاعاً صفصفاً لا ترى فيها الا صروح مجد زائل وعز ذابل .... طرقت بخارى باب جارتها القوية الأفغان وارسلت بعثة من قبلها الى ملك الأفغان حبيب الله خان وذلك سنة 1918 تجس نبضه وتلح للاتفاق معه. وكانت هذه أول بعثة سياسية أوفدت من بخارى بعد قطيعة طالت ما يقرب من قرن رغم ما بين البلدين من صلات الجوار المتينة لأن كلا الاستعمارين الروسي والانكليزي على السواء قضيا على فكرة التعارف بين الأممالشرقية وواجب التآزر .... وصادف وصول ذلك الوفد الى كابل شتاء بعدما تخلف رئيسه في بلدة مزار لمرض ألم به. وكان الملك حبيب الله خان في مشتاه في جلال آباد فأوصى ابنه أمان الله خان الذي كان وكيلاً عنه في كابل ان يكرم وفادته ويحسن قرايته ويستضيفه في قصره الخاص. الى حين أوبته في أول الربيع. وكنت أنا أسكن في جناح خاص في القصر نفسه فتمكنت من مخالطة الوفد ورئيسه فرمان قل بيك مرات كثيرة كنت أجرّه الى الحديث عن بلاده وحكومته. غير انه لم يكن هيناً انتزاع فكرة صحيحة من بين أقواله المتضاربة وعباراته التي يكثر بها من الثورية والمعميات شأن سياسي الشرق الأقدمين الذين يجعلون الألغاز في الكلام باباً للهرب مما قد يقعون فيه من الأغلاط. ولم أتمكن من فهم ما عليه بلاد هذا السفير الخطير لأن أحاديثه كان يشوبها كثير من الترهات والخرافات. وجل ما اقتضبه من أقواله. انهم كانوا يشكون من روسية اباحتها لهم المحرمات لتتوغل شبيبتهم في السفه والموبقات وتحارب المدارس الدينية التي هي كثيرة في بخارى ولها أوقاف لا تقع تحت حصر. وقد استشعرت من حديث جنابه انه ليس في جميع بخارى مدرسة أهلية ولا جريدة ولا مطبعة تنشر بينهم مجمل ما في الأرض من رقي مادي ومدني وانهم راضون عن انهم لم يرثوا مثل هذا الإرث الملعون من الكفرة أعداء الدين. وقد أقر لي يوماً ما أجمد الدم في عروقي فقال: انه كان عندهم عدة آلاف من الفجرة من استهوتهم مظاهر كفر الروس واستجرتهم الى تقليد ذلك، حيث انهم بعد ان استقلت بلادهم أخذوا يطلبون بشبه اصلاحات للبلاد كما عمل لا دينيو الأتراك في المملكة العثمانية. بيد ان جلالة الأمير قتل منهم بفتوى العلماء خمسة آلاف شاب ممن عرفوا بالجديدين وكما كانوا يسمون في البلاد السورية بالمتفرنجين دعاهم الى قصره بحيلة انه يريد الاستماع لمطالبهم ثم قتل منهم بفتوى قاضي كلان ألفين ونيفاً على مرأى منه. وأمر بقتل بقيتهم حيثما ثقفوا فبلغ تعداد القتلى أكثر من خمسة آلاف شاب الى قبل أربعين يوماً من خروج الوفد من بخارى وبذلك طهرت المملكة من دعاة التفرنج وعاد الدين الصحيح كسابق عهده مزدهراً مزدهياً. وعادت المدارس آهلة بالعلماء يعظون ويرشدون وقد تاب بقية ... إلا قليلاً منهم فروا الى تركستان ولجأ الى الروس يواكلهم ويشاربهم لتتم عليهم اللعنة في الدنيا والآخرة .... وقد أخبرني يوماً بمعلومات عن حربهم مع الروس هي أطرف ما سمعته فقال: ان لبخارى حارسها وحاميها الروحاني الشيخ الرباني حضرة بهاء الدين نقشبند صاحب الطريقة النقشبندية. حيث رآه قاطبة سكان بخارى بأعينهم يوم حمل عليهم كاليسوف بمدافعه وعتاده قد خرج من قبره ويمتطي جدار بخارى المواجه لكاكان. وأخذ يتلقف القنابل بيده من أفواه مدافع الأعداء ويرميهم بها فتنفجر على رؤوسهم حتى كسرهم شر كسرة. وهذه الكرامة الباهرة كانت حجر الزاوية في استقلال بخارى الذي مكن هذا الوفد من تجديد عهد الود مع الأفغان. أجل اعتراني اليأس من هذه النتائج المريرة التي قادتني اليها أبحاثي. غير ان ما تحطم من آمالي. ما كان إلا ليزيدني رغبة في زيارة تلك البلاد لأتعرف عليها عن قرب وأدرس مدى شقائها. وقد طال انتظار الوفد الذي كان على عجلة من أمره شهرين ونيفاً حتى حضر الملك حبيب الله من مشتاه ولاقى البعثة في جو بالغ من الكتمان حافل بالأسرار. وقد فاوضته بمطالبها فاصغي اليها وأكثر من مجاملتها وخيرا وعدها. بيد ان الملك لم ينظر الى مطاليب البعثة بعين الاهتمام اللائق بها متناسياً انها من الفرص التي لو سبقت أيامه لما تركها أبوه عبدالرحمن هملاً ... مع ان الملك حبيب الله لو تمعن قليلاً في القضية. لعرف ان الأيام هذي ليست هي تلك الأيام التي تحتم على الأفغان ان تظل بمعزل عن جيرانها ما دامت روسية تنادي قبل جميع الدول بتمزيق معاهدة 1907 وتمزيق ما قبلها وما بعدها من المعاهدات التي صيغت لاستعباد المشرق، وليست هذه الفرصة من الفرص التي تضاع جزافاً. سيما وانكلترة وعدته بالخفاء إذا هو رد البعثة الالمانية خائبة ودارت الدائرة على المانيا وحليفاتها، ان تعترف له بحقوق بلاده الخارجية وترضى ان يمثل الأفغان سفير من أبنائها في لوندرا بدل الهند. وقد سافرت البعثة البخارية آيبة الى بلادها تحمل لأميرها شبحاً من الأماني والآمال لا يؤمنهم من خوف ولا يغنيهم من جوع. فلم يرض الأمير بهذه النتيجة. وأرسل بعثة ثانية من كبار رجال حكومته حملها كثيراً من ثمين الهدايا والتحف الذهبية والماسية عربوناً للصداقة الجديدة. غير ان الملك حبيب الله لازم موقفه الجاف ولم يحفل بمطالب الوفد الجديد. مرجئاً الجواب على اللائحة التي قدمها الى حين امعان الفكر. اجل لم يحفل الملك بها على اتصاله ببخارى جارته الشمالية وحفل بها الانكليز على بعدهم عن دائرة المذاكرات الجارية وتفتحت ابصارهم وجاش طمعهم. وأخذوا يعدون عدتهم ليصلوا باصبع دسائسهم الى تلك البلاد. وسيعرف المتتبعون لهذه الرحلة ما فعله الانكليز بعد ذلك لإيقاع الأمير بحبائلهم وكيف قادوه الى الارتماء في احضانهم. اما النابهون من رجالات الافغان الذين لا يقرون الملك على سياسته هذه الخرقاء ولا يغفرون له هذا الاهمال والتهاون في حظوظ البلاد وأقدارها. فقد غضبوا لتلك الفرصة أي غضب وانضموا الى رأي نجل الملك الثالث الأمير امان الله خان ذلك الأمير الشاب الذي كان يتقد غيرة وحمية على بلاده وبلاد الشرق قاطبة وشرعوا في توطيد أواصر الود بينهم وبين بخارى بالخفاء. رغم قصر باع الأمير وشيعته الصالحة عن امداد البخاريين بشيء، وقد تمكن الأمير من ارسال رجل من خيرة رجاله الى تلك البلاد ليوافيه بأخبارها وأخبار الروس معها. وقد كدت اكون أنا ذلك الرجل لولا اسباب قاهرة منعتني. لا محل لذكرها. وفعلاً فان تقارير ذلك الرجل السري كانت لها قيمتها المثلى في كشف غوامض تلك البلاد التي كانت مع الأسف بالرغم من جوارها لنا سراً من أسرار الكون المجهولة. ولا يضيرني ان أقرّ ان الحكومة الافغانية كانت على جهل تام بما يجري وراء حدودها الشمالية. ولا نعلم ما تتطور اليه حالة الانقلاب العظيم. وما عليها وما لها وهذا لعمري أعظم ما وصلت اليه حكومة من الخمول السياسي والاملاق الفكري. لذلك لم يطل الأمر بالأمير حبيب الله خان المتصابي في عيشته المشغول بحرمه الذي بلغ فوق الثلاثمئة عداً فقتل غيلة في مشتاه. وانتقلت عصا الحكم لنجله الثالث امان الله خان الذي بايعته الأمة لما عرفت به من المزايا والمؤهلات يوم كان أميراً. وقد نزل الملك الجديد على رغبات الأمة وحقق آمالها. وأعلن فيما أعلنه في حفلة تتويجه استقلال بلاده الخارجي المسلوب، مشترطاً لقبول صولجان الملك ان تعد الأمة بالدفاع عن ذلك الاستقلال بكل ما أوتيت من قوة. كما اعلن الشورى في بلاده، مبشراً الأمة بزوال الاستبداد وقطع دابر الاضطهاد وتحريم الرق وعتق الارقاء. حتى بلغ من عتق في يوم وليلة اكثر من سبعين ألف يافعة. وكذلك حرم السخرة التي كانت تئن البلاد منها والقبائل تهجر مساقط رؤوسها هرباً من ضائرتها. الحلقة المقبلة: الشعب والولاة ومزار الشريف