تتعاقب الأيام حتى نركن أحياناً وننام على هدهدة تكرارها. يتعاقب المكان علينا حتى نركن أحياناً إلى استقرار حياتنا فيه فنكفّ من تلقائنا عن فتح النوافذ التي تطلّ على الأمكنة البعيدة، وننساها مطمئنين إلى النسيان وغفراناته. تنبّهنا الأعياد أحياناً من سهونا فنستيقظ قليلاً. وناعسين نسأل المتحدث إلينا عبر الهاتف: "من أين تتكلم؟". كأن هذا المكان البعيد، الذي رتبته هجراتنا في العليّات حيث نلقي الأشياء، لم نعد نتبيّن استعمالاً لها أو فائدة، كأنه يستيقظ فجأة مع الرنين. ألو؟ - كل عام وأنت بخير. - من أين تتكلّم؟ - كيف تسألين مثل هذا السؤال؟ أتكلم طبعاً من البلاد! *** لم يعد من شيء يدعو للخجل. تتعاقب الأيام في نعمة التكرار فنعتاد الرجال يسيرون في الشوارع، النساء يلمّعن زجاج الشتاء البارد، الأولاد يلصقون أنوفهم بواجهات المخازن المضاءة بقوة. - من أين تتكلّم؟ من بلاد تشبه البلدان. الناس مسرعون إلى سهراتهم مع أحبتهم. الأكياس مترعة بالهدايا وبنوايا الهدايا وبالاستعداد اللطيف للخيبات الصغيرة... الهدية التي هي دوماً أقل قليلاً من انتظارنا الطويل. المحالّ التي ستتأخر في إغلاق أبوابها رأفة بالمتأخرين. السيارات التي تسير بخطوط ملتوية هرباً من الزحمة. وهناك المدّعون. الوحيدون المستوحشون الذين يدّعون العجلة إلى أمكنة لا ينتظرهم فيها أحد. وتلك المرأة التي تنتقل بأكياسها الثقيلة بين محطات الباصات كما تفعل كل يوم، كما تفعل في أماسي الأعياد أيضاً، رافعة حقائبها المنتفخة ومستعينة بالركاب السذج. الموائد الحافلة بالأطايب، السخية لشهية الأحبة: تلك المتعالية المدّعية الأصلية الكثيرة الكلفة، والأخرى التي تقلدها معمّمة امتيازات القرون الغابرة التي ولّت. قطع من كبد الأرز في خلطة تشبه كبد الأرز، سلمون مدخّن تربى في مزارع الضواحي بدل السلمون المتوحش الذي عاند طويلاً تيارات أنهار الشمال... ديك الحبش الذي لم يرَ ضوء النهار يوماً بدل ذلك الذي داس حبوب الشعير والذرة وهو يتخايل في الحقول أمام الإناث. إنه الرنين القادم من بلاد تشبه البلدان، في أمسيات الأعياد التي تشبه أمسيات الأعياد. *** - ألو؟ - كل عام وأنت بخير. - من أين تتكلّم؟ - ولو؟! من البلاد... - وأين تقف الآن؟ - وراء النافذة. - هلاّ أزحت الستار قليلاً. هلاّ نظرت خارجاً ووصفت لي ما ترى عيناك. تكررت الأيام كثيراً... كدتُ أكف عن فتح النوافذ... كدت أطمئن إلى النسيان... كدت اعتقد أنها بلاد تشبه البلدان...