لُقب الوطني المحبوب فخري البارودي "شيخ الشباب" لأنه حافظ على عنفوان شبابه، منذ يفاعته حتى عز شيخوخته. وربما كي نعرفه أكثر فإن مذكراته التي لم يكتب منها سوى جزئين صغيرين، والتي لن تشفي غليلنا، قد تعطينا فكرة. ومع أنها مجتزأة، نستطيع أن نستشف منها لوحة شيقة عن حياة شخصية ثرة تفردت بعديد الصفات التي ندر اجتماعها في شخصية واحدة في ذلك الزمن: مطلع القرن الماضي. فالبارودي الدمشقي العريق ذو المكانة المرموقة، المثقف والمغامر والمتمرد، المثال القدوة، وصاحب النكتة التي جعلت منه بطلا ساحراً وساخراً، قدّم نموذجاً وطنياً جذاباً بشعبيته وجرأته وبساطته. لم يكن كغيره من الشخصيات الوطنية السورية المعروفة بالرصانة والاعتدال، بل كان بطلاً من نمط خاص، بسيطا في تعامله مع الناس، وغنيا بشهامته وأريحيته. جمع البارودي في بيته أساطين النغم العربي، من ملوك وأمراء الطرب إلى هواته وصعاليكه. والتف حوله الكتاب والمثقفون والظرفاء ندماء الكاس والطاس وطرب الليالي والآهات. احب الحياة بعبثيتها المضنية، ومضى فيها بكل جدية، دون أن يوفر متعة من المتع، من العقل إلى البطن وأكثر. فهو مؤلف نشيد "بلاد العرب أوطاني" الذي حفظه أطفال بلاد الشام قبل تعلم القراءة والكتابة، وصاحب مشروع الفرنك، ومؤسس فرقة القمصان الحديدية، والنائب في البرلمان السوري، ومؤلف كتب عن فن الطبخ. اقتحم السياسة في العشرينات بورجوازياً عريقاً كريماً وشهماً، وغادر الحياة في الستينات فقيراً لا يملك من نفقات علاج أمراض الشيخوخة سوى بهجة الروح وخفة الدم، متمتعاً ب"شبوبية" حلوة دامت طالما بقي على قيد الحياة، لم تنفصل عن شبابية أفكاره ونضارة أحاسيسه. فكان من أشهر ظرفاء دمشق كشخصية تتميز بتناقض غريب ومثير. ولعل حب الناس له وإخلاص الأصدقاء جعلاهم يكتبون عنه كل ما هو منسجم ومتوافق مع شخصيته كنموذج يحتذى، واستبعاد كل ما من شأنه الإساءة الى تلك الصورة من وجهة نظرهم، مثل موقفه من المرأة وعلاقته الملتبسة بها، وأيضاً صحة ما يشاع عن أهوائه الغرامية المتطرفة والغامضة. والطريف أن هذه الأخيرة تُركت للتناقُل الشفهي تحت وطأة التهويل أو التبخيس، حسب الراوي ومناسبة الرواية. ولم يتم التوثيق لها، في مذكرات معاصريه المتأخرين كنجاة قصاب حسن أو أحمد الجندي الذين أشاروا إلى حبه للوجه الحسن، لكنهما لم يرويا ما شاع عنه من مواقف طريفة، ولا تناولا صحة الأساس الذي بنيت عليه، أو تفاعله معها، هو المعروف بحضور النكتة وسرعة البديهة. ويقال أيضاً إنه كان يؤلف النكات عن نفسه، وعلى النقيض ينفرد كتاب للنكات معد للتداول اليدوي، مجهول الكاتب والمصدر، بذكر عدد من النوادر حول هذا الجانب عند البارودي، ولا يمكن التأكد من مدى صحتها لانعدام المعيار التوثيقي للكتاب، وهو بذلك لا يختلف عما يُتداول شفهياً. هذا التعامل مع البارودي لا يعتبر استثنائياً في توثيق تاريخنا سواء القديم أو المعاصر. وحتى في ما يكتب راهناً، دأبنا على فَلْتَرة وتنقية الأحداث والشخصيات كأنما تحصينها مما نعتقد أنه يشينها واجب قومي، ولا ينبغي رؤيتها إلا من خلال أمجادها الوطنية، تحكمها عواطفنا فنخفي السلبيات ونضخّم الإيجابيات، أو العكس، من دون النظر إلى خطورة ما يترتب على هذه النظرة في المستقبل من تزييف سواء نحو الأسوأ أو الأحسن. فكل ما دُوِّن مثلاً عن البارودي جاء محكوماً بالإخلاص وفق معيار في الجودة هو رهن بزمان الكاتب. ربما في المستقبل إذا ما تغيرت نظرة مجتمعاتنا الى العلاقات الجنسية بأنواعها، نشهد عمليات نبش وتنقيب وربما فبركة لما من شأنه تدعيم النظرة الجديدة وخلق جذور لها، كما حدث عندما أعيد النظر في الايروتيكية العربية، فتم نفض الغبار عن نصوص أبي نواس فظهرت النصوص المحرمة. وأنا هنا لست بصدد البحث في صحة ما يشاع عن البارودي أو أبي نواس، لكنني في موقع السائل الساذج عن سبب هذا التغييب المتعمد للجوانب الإنسانية في شخصياتنا التاريخية، والتي يثبت غالباً أن ميولها الخاصة كانت في الوقت نفسه سبباً لاستبعادها عن المشاركة في الحياة السياسية، وأيضاً واحدا من أسباب التميز المصحوب بالإعجاب الناجم عن جرأة امتلاكها. فكم هو مجحفٌ تاريخٌ لا يأخذ في الاعتبار الضعف الإنساني، وإنما يرفضه بسبب "الضعف" ذاته، من دون النظر إلى عظمة القوة المتولدة عنه وبسببه. فلماذا نحرص على تعقيم تاريخنا؟