لم تكن مارلين ديتريش مجرد نجمة سطع بريقها في سماء هوليوود وخفت تدريجاً بمرور الزمن. فالممثلة الألمانية الأصل الأميركية الهوى، خرجت سريعاً من اطار النجومية لتنتقل، وكأنما على جناحي "ملاك أزرق"، الى عالم الأساطير. بنظراتها الفاتنة وشهوانيتها الآسرة، بسحرها البارد وأمائر وجهها المتشامخة، بصوتها الفريد وإثارتها الملتبسة، ازالت ديتريش الحدود الفاصلة بين الوهم والحقيقة لتعيش أبداً في ذاكرة محبّي الفن السابع شخصية اسطورية تتربّع على عرش لن تدركه نجمة من بعدها. وفي الآونة الأخيرة أطلّت ماريا ريفا، ابنة مارلين الوحيدة أكثر من مرة عبر الصحف والمجلات الالمانية لتبدي رأيها في أعمال التخريب التي يلحقها النازيون الجدد بقبر والدتها في المانيا. وهو قبر بسيط تعلوه شاهدة سوداء خطّت فوقها عبارة مقتضبة: "مارلين 1901 - 1992". ويبدو ان الأحزاب اليمينية المحافظة لم تغفر لديتريش مواقفها الموالية للحلفاء في الحرب العالمية الثانية ولم يجد النازيون الجدد أفضل من انتهاك حرمة قبرها كل بضعة أشهر تعبيراً عن غضبهم. من جهتها، لا تعتبر ماريا ان في الأمر ما يسيء الى ذكرى والدتها بل على العكس تماماً: "عندما أقول ذلك للصحافيين، يرمقونني بنظرات اللوم ويتبادر الى أذهانهم أنني ابنة جاحدة، يسرهّا تدنيس قبر والدتها. وغالباً ما اضطر لأن أشرح لهم أن أعمال التخريب المذكورة تذكير بمواقف ديتريش الجريئة، خصوصاً ان الصحف تضج بها في كل مرة، ما يعني ان والدتي كانت ستفرح قطعاً باستمرار نفوذ آرائها المعادية للنازية حتى بعد موتها". لكن بعض عشاق ديتريش الأوفياء يشككون بصدقية مشاعر ابنتها، ولم ينسوا بعد الصدمة التي أوقعتها في نفوسهم لدى قيامها عام 1992 بنشر سيرة والدتها الذاتية بعد مرور أشهر قليلة على وفاتها. تؤكد ماريا ان الكتاب لم يتضمن سوى الحقيقة كما شهدتها وعاشتها قرب والدتها، غير أن كثراً اعتبروه خيانة بنوية وانتهاكاً فاضحاً لأسطورة مارلين ديتريش، ذلك ان ابنتها الوحيدة قدمتها في صورة فجّة أقرب الى الوحشية بوصفها امرأة قاسية، متحجرة القلب، شيطانية في شرهها "السريالي" الى الأضواء والشهرة. وتدافع ريفا عن نفسها بالقول: "اساء النقاد فهم نيّتي الحقيقية من نشر الكتاب. لم يكن هدفي التجريح بذكرى والدتي، انما قصدت تقديم حياتها كأنها تراجيديا اغريقية لأحذّر من مغبّة الشهرة والسلطة على الحياة الفردية أولاً وتالياً من تأثيرهما السلبي في صوغ ثقافة حديثة من أبرز سماتها الهوس، الى حد الجنون أحياناً، بالنجوم والمشاهير". وتضيف: "لم أشأ ان يكون الكتاب عبارة عن رسالة حب مطولة، مفعمة بالعواطف والكلمات الرقيقة. كنت أكتب سيرة حياة انسانة استثنائية، وفي هذا المعنى، لا بل احتراماً لذلك، اعتبرت نفسي كاتبة حياديّة أكثر مني ابنة لها. ولكن عندما نقترب من "النجمة" ونتجرأ على منحها صفات بشرية، يمتعض الناس وتثور ثائرتهم". وتنفي ريفا اتهامات بعضهم بأن اصدار الكتاب كان عملية تطهير ذاتية للتخلص من كل العقد النفسية التي عانت منها طوال حياتها، مشيرة الى ان هذا الكلام قد يكون صائباً لو أنها كتبت سيرة والدتها في سن يافعة، ولكنها اصدرتها وهي في التاسعة والستين من عمرها، أي في سن من المفترض ان يكون المرء تخلص من عقده كافة. مع ذلك، تقرّ ماريا بأنها لا تزال غاضبة على والدتها لسببين: "الأول يتعلق باغتصابي وأشعر ان من حقي أن أغضب، فمن مسؤولية الأهل عدم تعريض أولادهم لهذا النوع من الأذى". وتلقي ريفا اللوم على والدتها التي جعلت منها عرضة لظروف أدت الى عملية اغتصاب تعرضت لها في سن الخامسة عشرة على يد مربيّتها السحاقية وكانت تعرف بلقب "وحيد القرن". بعد الحادثة، غرقت الفتاة في دوامة من العزلة والحزن. أدمنت الكحول واتخذت لنفسها عشّاقاً عدة في وقت واحد. وحاولت الانتحار أكثر من مرة وعجزت عن مفاتحة والدتها بالأمر قبل مضي سنوات طويلة من الألم والأسى. أما السبب الثاني فيتعلّق بكيفية معاملة والدتها لعشيقة والدها وكانت تدعى تامي ماتول. تقول ماريا: "أحببت تامي كما لم أحب امرأة من قبل، كانت رائعة، في منتهى اللطف، لكنها كانت أضعف من أن تقاوم التحديات، فتحولت الى واحدة من ضحايا زواج ديتريش. رفضوا منحها الحق بأن تتزوج من والدي الذي أحبته بصدق. أجبروها على الخضوع لعمليات اجهاض عدة وأمضت السنوات الأخيرة من حياتها في مصح للأمراض النفسية. أحببتها كثيراً وأهديتها كتابي". وتناولت السيرة أيضاً ما كان يشاع في الكواليس الهوليوودية حول نهم ديتريش وعطشها الدائم لاجتذاب عشاق من الجنسين، علماً ان النجمة المثيرة لم تكن مهتمة بالجنس في علاقاتها بقدر ما اهتمت للناحية الرومانسية. وكأنها كانت تسعى من خلالها الى اشعال نار مشاعر أثلجها صقيع عزلة داخلية مزمنة زادتها الشهرة حدّة وقسوة. وتشير ريفا الى ان والدتها لم تكن تستمتع بالوصال بل كانت تفضّل معاشرة رجال عاجزين جنسياً. وتروي، من جهة أخرى، كيفية معاملة والدتها لها، فكانت، على سبيل المثال، تشير اليها في أحاديثها "بالطفلة" ولم تكن تناديها باسمها إلا نادراً. وكانت ديتريش تريد لابنتها ان تكون بجمالها فأخضعتها لعملية تقويم ساقيها عرفت ديتريش بأنها صاحبة أجمل ساقين في هوليوود ووبختها مراراً لأنها شوّهت ثدييها بإرضاع أطفالها. المقارنة بين ماريا ووالدتها كانت تتم بصورة تلقائية وغالباً ما جاءت لمصلحة النجمة الهوليوودية، ما ترك اثراً في نفس الابنة وخصوصاً في سن المراهقة. لكن الواضح ان ريفا امتلكت في صباها مقومات جمالية ما زالت سماتها واضحة في ملامح وجهها على رغم بلوغها السادسة والسبعين من عمرها. في صوتها نبرة فريدة تعيد ذكرى صوت أمها الاستثنائي، يشوبها الحياء عندما تتكلم فتقرّ انها تخجل من طريقة لفظها كونها غير متعلمة ولم تذهب قط الى المدرسة. لكنها تتمتع بذاكرة قوية افادت منها في دروسها التمثيلية. واللافت ان "سيرة حياة ديتريش" هي تجربة ماريا الكتابية الأولى، وتعمل اليوم على كتاب اجتماعي علّها تنسى حزنها على زوجها بيل ريفا الذي توفّي منذ عامين بعد زواج دام خمسين عاماًَ. لم تنس ابنة ديتريش عدائية الناس ازاءها وكيف وصفوها بأبشع النعوت لأنها باعت ممتلكات والدتها النفيسة، بما فيها سوار ياقوت يقال ان مادونا اشترته بمبلغ مليون دولار. لكن ريفا تؤكد انها باعت، بعضاً من ممتلكات ديتريش قبل وفاتها لأن النجمة الهوليوودية كانت بحاجة ماسة الى المال، خصوصاً انها امضت السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياتها طريحة الفراش في شقتها الباريسية في عزلة تامة وحالة سكر متواصل. وترد ماريا على منتقديها بأنها بذلت كل ما في وسعها للحفاظ على تركة والدتها، وساعدها في ذلك أبناؤها الأربعة. لكن عشّاق ديتريش ما زالوا يتساءلون كيف وصلت مجموعة النجمة الى متحف برلين السينمائي وكيف وافقت الابنة على بيعها للألمان بمبلغ خمسة ملايين دولار، متناسية كيف اسيئت معاملة "الملاك الأزرق" في وطنها الأم. كانت مارلين ديتريش المواطنة الألمانية الأشهر في العالم بعد هتلر، غادرت المانيا عام 1930، وفي العام 1933 انقلبت ضد النازيين. قامت ببطولة عدد كبير من الأفلام الأميركية التي شكلت محطات بارزة في مرحلة هوليوود الذهب، منها "الملاك الأزرق"، الامبراطورة الحمراء، شانغهاي اكسبرس وغيرها. عشقت أميركا التي احتضنتها، ولم تتردد لحظة في تبنّي كل مواقفها السياسية. قدّمت أكثر من 500 استعراض للترفيه عن الجنود الأميركيين في الجبهات الأوروبية خلال الحرب العالمية، ويقال انها كانت تصطحب بعض الضباط والمجندين الى مخدعها. ولطالما رددت ان نشاطها الحربي كان أهم ما قامت به طوال حياتها. في العام 1960، عادت الى المانيا بعد غياب دام ثلاثين عاماً فاستقبلتها حملات عنيفة شنتها ضدها وسائل الإعلام التابعة للجناح اليميني، فقطعت على نفسها عهداً بأنها لن تعود لتطأ تراب وطنها الأم وفي عروقها دم ينبض. وبالفعل لم تعد مارلين ديتريش الى المانيا الا بعد وفاتها بعدما قررت ماريا دفنها في برلين قرب والدتها: "شعرت ان ذلك عين الصواب وانها آخر خدمة أسديها لها"، تقول ريفا، وتضيف: "غير اني اعدتها الى برلينمسقط رأسها وليس الى المانيا، وحرصت على لف نعشها بالعلم الأميركي". على رغم معاملة الالمان لها، احتفظت ديتريش حتى آخر أيامها، بمحبة خاصة للمدينة التي أمضت فيها أحلى أيام شبابها قبل ان تستدعيها الأضواء الهوليوودية. وكانت العاصمة الألمانية في تلك الفترة مركزاً عالمياً مهماً تلتقي فيه الحضارات وتتقاطع فيه أشكال الفنون على أنواعها. بالاختصار، كانت برلين صورة عن الحياة بتنوعاتها اللامتناهية. وتجدر الاشارة الى ان مجموعة ديتريش في برلين تضم أكثر من 300 ألف وثيقة بينها 150 ألف صورة فوتوغرافية، و80 قطعة أثاث وأمتعة، و440 زوج أحذية، و150 زوج قفازات، وأكثر من 2500 أغنية مسجلة. واحتفاء بمئوية ولادة ديتريش، صدر منذ أسابيع عن دار "تايمز أند هادسون" للنشر كتاب بعنوان "مارلين ديتريش: صور وذكريات" لجان - جاك نوديه وماريا ريفا، ويتضمن صوراً ورسائل من مجموعة نجمة السينما الأولى في القرن العشرين، اختارها الكاتبان وتولت ابنتها كتابة التعليقات المرافقة لها. عدد من الصور ينشر للمرة الأولى بما فيها الصور "الواقعية" التي كانت النجمة ترفض نشرها باعتبارها بعيدة عن "الكمال" الذي اعتاده جمهورها. ويحتوي الكتاب أيضاً صوراً من ألبوم العائلة وصفحات من يوميات ديتريش في عمر المراهقة، اضافة الى صور لأغراض امتلكتها مثل المجوهرات والثياب والقبعات والمسدسات الحربية وأيضاً نصوص الأغاني التي قدمتها للجنود الأميركيين. لم تكن أهم أغراض المجموعة لتسلم من الضياع لولا عناية رودي سيبر، زوج ديتريش المعذب الذي أحبها بصمت على رغم معاملتها القاسية له. وتقول ريفا: "عانى والدي الأمرّين منها. طردته من فراشها طرداً نهائياً بعد مرورة فترة قصيرة على زواجهما، وعاملته كمستخدم يؤدي لها مختلف المهمات طوال فترة زواجهما التي دامت قرابة خمسين عاماً". ويتضمن الكتاب أيضاً رسائل وبرقيات من وإلى عشاق ديتريش الكثر مثل الممثل الفرنسي الكبير جان غابان ويول براينر ودوغلاس فيربانكس، الكاتب أريك ماريا ريمارك ومرسيدس دي اكوستا احدى بطلات فتوحاتها النسائية. ومن البرقيات المؤثرة واحدة من موريس شوفالييه يبدو فيها واضحاً مدى وله الممثل والمغني الفرنسي بالنجمة الهوليوودية وعذابه لفراقها. ولعلّ ما يضفي على الكتاب رونقاً خاصاً ويمنح قارئه متعة خالصة تعليقات الابنة على أهم مراحل حياة والدتها. فمن في وسعه أكثر منها استعادة تلك اللحظات النادرة التي عاشتها قرب النجمة الأسطورية؟ جلست معها الى طاولة الماكياج طوال سنوات طفولتها، وتسنّى لها تفحّص عشاقها عن قرب وهم يجلسون صباحاً، الواحد تلو الآخر، الى طاولة الفطور. ما زالت ماريا تذكر كل خط من خطوط وجه ديتريش، وكل ظلّ من ظلاله في صور التقطت لها بأعداد يستحيل احصاؤها. وتشير في الكتاب الى ان ديتريش أفادت كثيراً من كل ما تعلمته عن الاضاءة والماكياج على يد جوزف فون ستيرنبرغ، المخرج الذي أطلقها الى الشهرة في فيلم "الملاك الأزرق" عام 1930 وتعليقاً على احدى الصور التي التقطها جوزف نفسه كتبت ماريا تقول: "لاحظوا هشاشة وجهها. كان جوزف مغرماً بها في تلك الفترة وكان يهوى اظهارها وكأنها "قابلة للكسر" في أي لحظة، شأنه شأن معظم الرجال الذين يمنحهم ضعف مَن يحبون لذة الشعور بالفوقية". لم يتسنّ لماريا التقرب من والدتها إلاّ في السنوات الأخيرة من حياتها، فأصبحت مديرة لأعمالها وصديقتها المقرّبة، لقد أدركت في سن مبكرة ان والدتها عاجزة عن حبّها، ثم اكتشفت انها ايضاً لا تكنّ لها أي مشاعر بنوية: "كنت أنظر اليها بصفتها النجمة مارلين ديتريش التي احترم مهنيتها وأقدّر احترافها. لطالما شعرت بوجود الابقاء على مسافة بيننا. كانت تصرفاتها تشي بذلك. عندما يمضي المرء سنوات طويلة في خدمة "الملكة"، يتعلم كيفية ضبط مشاعره والسيطرة على انفعالاته. نتعلم، كالحيوانات الداجنة، متى في وسعنا الاقتراب ومتى علينا البقاء بعيداً". وتضيف: "لم أشعر آنذاك بالغبن، لا بل عشت طفولة سعيدة. كنت محظوظة لأني لم أذهب الى المدرسة، ولعل ذلك ساعدني لئلا ألحظ الفرق بين حياتي وحياة الآخرين. كنت أحسب ان جميع الأولاد يبرّدون أحذية والدتهم كل مساء قبل توضيبها في الخزانة".