} لاهور - "الحياة" - بين اعتماد الديموقراطيّة على الطريقة الغربيّة وبين الأصوليّة المتفاقمة، تقف باكستان على حافّة حرب أهليّة، وتبدو في بحث مستمرّ عن هويّة ضائعة بين المفهومين، لكنّ الباكستانيين والباكستانيات يأمّلون أيضاً أن تخلق الأزمة القائمة حالياً مجتمعاً أكثر عدالة. ثلاث نساء يعكسن الحال التي تعيشها بلادهن. إحداهنّ صحافيّة، الثانية بورجوازيّة متوقّفة عن العمل، والثالثة مناضلة عجوز. هواجس كثيرة وجوانب مجهولة تظهّرها هذه النساء تبقى مخفية عادة على الإعلام العالمي. نصرت جميل إمرأة مثقّفة شارفت الرابعة والخمسين من عمرها ، تولّت في الماضي رئاسة تحرير اثنتين من كبريات الصّحف الباكستانيّة The nation وThe frontier Post. تنتمي الى الطبقة المخمليّة في لاهور، تسكن في منزل فخم ، لديها سائق وطهاة وخدم، وتسافر بانتظام الى أوروبا. نصرت جميل تقول اليوم إنها تجلس فوق فوهة بركان في سبيل الدفاع عن قضايا العمّال الفقراء والنّساء المعنّفات، وضدّ الأصولية في بلادها. تتذكّر الأيام الخوالي بينما تتنقّل بين قناتي الCNN و"الجزيرة"، وتضيف: "بعد تقسيم الهند، بقيت باكستان بلداً علمانيّاً بعيداً من التعصّب. في مراهقتي كنت أرتدي التنانير القصيرة، بينما كانت والدتي تختال بالساري أو بنطلونات البولو. ومع أنّ أهلي مسلمون أرسلوني الى مدرسة داخلية تديرها راهبات كاثوليكيّات وتؤمها عادة فتيات المجتمع الرّاقي". بعدما أنهت نصرت دراستها، تزوّجت من رجل أحبّته، وهما يعيشان سويّاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً. زوجها مسلم تقيّ يصلّي خمس مرّات يومياً ويصوم شهر رمضان بأكمله، ويتقبّل برحابة صدر زوجته وأفكارها الليبرالية، وهي تطمح بأن ترى باكستان على صورة عائلتها بلداً منفتحاً حيث الدّين أمر شخصيّ. وتحنّ الى أيام التسامح في باكستان السّبعينات، حين تسلم علي بوتو السّلطة. لكنّ عدم نيل حزبه الإشتراكيّ شعبيّة كافية دفعه الى التحالف مع جماعات دينيّة، ما حتّم عليه تنازلات لا بد منها. وبدأ عهد المحظورات، وصار أقسى في عهد الجنرال ضياء الحقّ الذي أرسى نظام الشّريعة عام 1978 جاعلاً من الدين أداة للسيطرة المطلقة على الشّعب. شيئاً فشيئاً وجدت النساء أنفسهنّ مرغمات على طريقة معيّنة في اللباس. "صارت الثياب وسيلة للإقفال على المرأة، وحلّ الشروال - قميص الذي يجمع بين القميص والبنطلون الواسعين اللذين يخفيان أجزاء الجسم كلّها مكان السّاري، كذلك المنديل الذي يلفّ الشعر". وتتساءل نصرت عن السبب الذي دفع بنازير بوتو التي درست في الجامعات الغربيّة وكانت ترتدي الجينز الى إخفاء شعرها ولفّه ما إن وصلت الى السّلطة؟ تتساءل وهي محامية طالما ناضلت من أجل وصول المرأة الى السّلطة، وتجيب: "لأن بنازير اصطدمت برجال الدين، وكانت رئيسة بلد يسيطر عليه الجيش. الجميع تحالفوا ضدّها، ما أرغمها على الإستقالة عام 1990 بعد عامين من وصولها الى السّلطة، لكنّها عادت رئيسة للوزراء عام 1993". غير أنّ نصرت كفّت عن دعمها متّهمة حزبها بأنه لم يهتمّ يوماً إلا بتجميع أكبر قدر من الأموال. لكنّ هذه المرأة التي طالما عارضت إخفاء الشّعر، سرعان ما تتناول منديلاً ما إن تخرج من بيتها الى الشارع واضعة إياه على عنقها متحدّية النظرات الفضوليّة. في لاهور تقوم بعض النّساء بالمخاطرة. الشابات يرتدين الشروال - قميص الملوّن ويضعن المنديل الشفاف والمزيّن بالدّانتيل، بعضهنّ سكرتيرات أو ممرّضات، أو عاملات استقبال. والمعروف أنه في وسط الأزمة الاقتصادية أصبح عمل النساء ضروريّاً. وفي بعض الأحياء بدّلت النساء من موضة الشروال - قميص الذي أضحى ضيّقاً على الساقين، لكنّهنّ لا يخرجن فيه البتّة للتسوّق بل يرتدينه في المنزل فقط. في المجتمعات الراقية تشعر النساء بالملل من الحرّاس المسلّحين الذين يقفون أمام المنزل. في تلك المجتمعات تنهض النساء باكراً، يجرين بعض المكالمات الهاتفية عبر الخلوي الخاص بهنّ، يتناولن الغداء مع بعض الصديقات ثمّ يجبن بعض المحال التجارية، وبالعودة الى منازلهنّ تتعرّض الكثيرات للتوبيخ من أزواجهنّ. والعنف المنزلي ضدّ النساء أمر شائع في باكستان، وبعض النساء يحاولن الهرب أو يطلبن الطلاق، أما بعضهن الآخر فيلزمن الصمت لئلا يعدن الى منزل أهلهنّ حيث سيعشن نوعاً جديداً من السّجن. وتعاني الكثيرات من النساء الباكستانيات مشكلات عصبية ويستشرن أطباء نفسانيين يعطونهنّ العلاجات المناسبة وتخضع الكثيرات منهنّ لعمليات تجميل بغية رفع معنوياتهنّ. وتعتبر النساء الباكستانيات أيضاً رمزاً للصراع بين المجتمعين الشرقي والغربي. كثيرات على غرار خديجة مثلاً وهي طالبة في ال23 من عمرها في جامعة كورنيل في الولايات المتّحدة الأميركيّة، يحملن نظرة إعجاب بالمجتمع الغربي ويبقين في الوقت عينه متعلّقات بالتقاليد الإسلاميّة. تزوّجت خديجة من قريب لها بحسب رغبة والدها كي يبقى 80 في المئة من رأسمال مصنع النسيج ضمن العائلة. وبحسب التقاليد أيضاً تعيش خديجة عند حماتها التي تتمتّع بإصدار الأوامر إليها. لكنّ خديجة من جهة أخرى تظهر كامرأة عصرية بماكياجها الكامل وأناقتها، وحديثها الذي يشمل السياسة، فهي تتساءل بحدّة مثلاً عن سبب عدم إعطاء الولايات المتّحدة الأميركيّّّّة الأدلّة الكافية في شأن بن لادن وتتهم وكالة الاستخبارات الأميركية والموساد بتنظيم اعتداءات 11 أيلول سبتمبر كي يتخلّصا من العالم الإسلامي! على بعد بضعة كيلومترات من منزل خديجة وفي محيط مختلف تماماً، ضمن حيّ من المنازل الفقيرة تشدّ آمّا 80 عاماً بين يديها الكنز الوحيد الذي تملكه: رزمة من قصاصات الصّحف. هذه المرأة بوجهها المجعّد كرّست حياتها للنضال من أجل فقراء باكستان، ولكي يتمّ انتخاب علي وبنازير بوتو، إذ صدّقت وعودهما بتغيير المجتمع ومساعدة المعدمين الذين يشكّلون أكثريّة ساحقة في المجتمع الباكستاني. نضالها المستميت والصادق دفع الصحف الباكستانية الى الكتابة عنها مراراً، الأمر الوحيد الذي تحتفظ به من ماضيها. لا تملك آمّا سوى غرفة صغيرة لا يتعدّى طولها وعرضها المترين، فيها تفكّر وتصلّي، وتعيش على راتب إبن لها يتقاضى الحدّ الأدنى للعيش وهو 2000 روبية. تعتبر آمّا أن الفقر هو المشكلة الأساسيّة في باكستان، وترى أنّ النضال في سبيل حقوق المرأة أمر لا جدوى منه لأن الرجال أيضاً محرومون من حقوقهم الأساسية، وأبسطها على الإطلاق حقّ العيش بكرامة. الأمر الآخر المهمّ بالنسبة الى هذه المرأة التي عانت الأمية طوال حياتها يتمثّل في أن تذهب الفتيات الصغيرات الى المدرسة للتعلّم. في حيّ آمّا الفقير لا أثر البتّة لأي شعارات دينية، أو لأية صور تمثّل بن لادن. ولا ينظر السكان بغضب الى الغربيات اللواتي يمشين من دون تغطية رؤوسهنّ، حتى أن السكان انتخبوا امرأة في الانتخابات المحلية الأخيرة. هذا الحي الذي يعتبر معقلاً لحزب الشعب دحر محاولات إخضاعه من جانب رجال الدين. وعندما تقول آما ان على طالبان تسليم بن لادن لأنّه لا يجوز أن يتعذّب ويموت فقراء بسبب رجل واحد، ترى من يحيطون بها يهزّون رؤوسهم علامة الموافقة على ما تقوله. الواقع أن إحصاء جرى أخيراً في باكستان أظهر أنّ 10 في المئة فقط من الشعب الباكستاني يتأثرون بأفكار الأصوليين الدينيين. في حدائق شاليمار عند مخرج لاهور يبدو الصراع في المجتمع الباكستاني بين الشرق والغرب في أوجه: هناك ترى شباناً وصبايا يتهامسون ويضحكون تحت الأشجار الوارفة، وامرأة تضع منديلاً شفافاً على رأسها تتنزّه برفقة خطيبها، وفجأة يقف باص صغير تنزل منه تلميذات يضعن الحجاب الأسود ويراقبهن رجل وقور بلحيته السوداء، وما إن يدير ظهره حتى ترى حجاباً يسقط ويظهر من ورائه وجه محتالة صغيرة!