لم يفكر من قبل في شكل جدي في اعادة ومراجعة ما مضى وما يعيش من عمره، الا ان رسالة كان كتبها لوالده المسافر في باريس قبل 15 عاماً وقعت بين يديه وفتحت له ابواباً كثيرة. تدفق منها سيل من الذكريات والافكار، شكلت ما يشبه صورة عن ذاته، نظر اليها ليدخل في تفاصيل ايام مضت، يستعيد شريط احداث وأمكنة كان هو محورها وطمستها الذاكرة. نظر الى نفسه، فاكتشف انه اصبح في الثامنة والعشرين، لم تتغير ملامحه كثيراً، ربما ازدادت قسوة، لكن الصلع بدأ يزحف الى رأسه وارتسمت على صفحة وجهه بعض التجاعيد. حدق في المرآة، فالتمع السؤال فوراً في عينيه: كيف تمضي ايامك وماذا حققت حتى الساعة، وبدأت الاجابات تلتمع وتنهمر عليه كومضات البرق وزخات المطر، تنعكس عرقاً يرشح على جبينه كقطرات الندى الربيعي. قال: ترعرعت صغيراً، في منزل بعيد على تلة تملأها الاشجار، في كنف والدين طيبين حنونين يعشقان الفن والأدب والعلم الى درجة العبادة، فكان من الطبيعي ان دخلت فلك الرسم والنحت والكتابة، كنت جيداً في دراستي، وتميزت شخصيتي بجموح واندفاع شديدين حتى التهور، لكن ذلك لم يمنع من ان ينمو في داخلي انسان رقيق، مرهف وحساس تجاه ادق التفاصيل. عشت طفولة صاخبة، مراهقة اكثر صخباً وضجيجاً، هاجمتني الهواجس والهموم في سن مبكرة وكان السؤال دائماً: لماذا وجدت وماذا افعل في هذا العالم؟ وكنت افكر بقضايا كثيرة كنكبة فلسطين، احتلال الجنوب اللبناني، الحرب الاهلية، اعتقال والدي من قبل الاحتلال، الاسرى، الجياع، الحرب الباردة والوضع العربي العام، إضافة الى حال الحب العام والدائم التي اعيشها وتعلقي بالطبيعة والفصول. وأضاف: على رغم بحر الهواجس والافكار هذا مرت فترة مراهقتي، لم تخل من بعض الخسائر، علماً انني ما زلت حتى الساعة اشعر بأنني مراهق، متعقلن قليلاً وأردد دوماً بأنني طفل كبير. انتسبت الى الجامعة لأدرس الرسم والتصوير، تعرفت هنا على الكثير من الخبرات والتقنيات، ومن ثم تخرجت لأخوض غمار الحياة، مشكلاتها وقضاياها المصيرية والتافهة في آن، انهيت خدمتي العسكرية، بحثت طويلاً عن عمل، درّست مادة الفن في احدى المدارس وكنت اكتب مقالات وتحقيقات لصحيفة يومية. اما اليوم فما زلت اعيش الهواجس والافكار عينها، اتساءل عن معنى لوجودي، احلم بالهجرة الى بلاد اخرى وبناء حياة مختلفة، بعيداً من التفاصيل اليومية المرهقة ومن ثقل الساعة والوطن المعضلة والمستقبل الغامض، في امكنة قد تعطي اعتباراً اكثر للوقت والانسان. الفن والرسم يسكنانني، لكنني لا أجد متسعاً من الوقت للجلوس مع ذاتي، استرق اللحظات للشرود في القليل من احلام اليقظة، اعتبر نفسي متورطاً مع الذين يحبونني كافة، احلم بالتحرر من علاقاتي لئلا اكون سبباً في ازعاج احد من قصد او من غير قصد. انظر الى غدي فأرى سراباً وغيوماً كثيرة تحجب الوضوح، وتلح في ذهني ضرورة الهجرة والهروب من الواقع، بحثاً عن ايام هادئة ومستقرة، استطيع خلالها ان اؤمن بعضاً من حاجاتي، وان اشتري كتباً وملابس وألواناً وعطوراً وأزهار، وان اعيش ربيعاً دائماً. لكنها التفاصيل الصغيرة، تعود لتتقاسمني وتتجاذبني، فتراني اتأرجح بين الغيوم السود، ممتزجاً بالخوف والشوق للسكون، تكبر الاسئلة يوماً بعد يوم وتكبر معها المسألة وأظل ابحث عن حل جذري لوجودي، الاحق الفرص ولا اتمكن من التقاطها. باختصار انا اليوم، كتلة من اعصاب موترة وجروح حمقاء، اتساءل طوال الوقت: هل ستحمل الايام اخباراً وأحوالاً مختلفة. بعد كل هذه الاجابات عاد ليضيع بين التفاصيل، ينسى ذاته من جديد ويحرق الساعات والدقائق وهو يدور في حلقة مفرغة لا احد يعلم كيف تنتهي. فهل من جديد؟