أربع نساء، وشاب معوق، هو ربما، امتداد للأنوثة المقموعة، يتحركون في فضاء معتم، شحيح الاضاءة ويشي بتراكم القسوة والعنف الفولاذي المغلق، يتحرقون لبؤرة ضوء، او شعاع امل بعيد، لابتسامة حب عابرة، او لحظة دفء مسروقة، تخفف عن ارواحهم المعذبة صدأ العمر الهارب نحو الأفول... هذه هي اجواء العرض المسرحي "كهرب"، من تأليف العراقي باسم قهار واخراجه، وتجري عروضه على خشبة مسرح القباني في دمشق من تمثيل: أمانة والي، حنان شقير، رباب مرهج، لميس عباس، خلدون العلي. سبق ان قدم باسم قهار مسرحية "العربانة" في دمشق عن نص لمظفر النواب، وأخرج في بيروت "أنثى القمر" عن يوجين اونيل، ثم هاجر الى استراليا، ليعود الينا مجدداً، بعد سبع سنوات بعرض "كهرب"، وكأن الألم المقطّر، والحزن المقيم، هما عنوان العراقي، اينما حل. مكان الاحداث المفترض مطبخ سجن كبير، لا تظهر منه سوى المداخن الاسطوانية، الصماء الغليظة، وفي الخلفية دهاليز وممرات تخفي اكثر مما تظهر، والبنات الثلاث يعملن طباخات فيه، بينما الأخ الأبكم ملحق بهن، اما الأم "امانة الوالي" فهي المراقب او السجان. حينما تدخل تزرع الرعب والخوف والتوتر، الذي يصل الى حد الموت، لكأنها القوة القدرية، القاهرة، العاتية بحركاتها الباردة وكلماتها المقتضبة الآمرة ونظراتها الشذرة. بحركة من يدها، تجمد الدماء في عروقهم، وتلعثم الكلمات على شفاههم... وبأمر زاجر تغتال الحلم في مخيلاتهم. انها الطغيان المعمم، الذي يفسد الهواء، ويسمم الاجواء، ومع كل دخول لها يظهر وجه ما، من وجوه الكارثة، ثم تتلاحق الاحداث، التي تندغم مع بعضها بحركة دورانية، لأن السرد، لا يجري بخط افقي، وانما عبر حركات درامية دورانية، تتصاعد وتنغلق على ذاتها، ومع كل حركة نسمع حكاية شخصية من شخصيات العرض، تنزف ألمها، وتبوح بهواجسها... وتحلم بخلاصها من هذا الكابوس المريع. يركّز المخرج على المشهدية البصرية ولغة الجسد وحركة الممثل فيما الكلام لا يجري لذاته، وانما يواكب بتقطيع مدروس، وعبر تكرار العبارات والجمل الشحنات الداخلية، وانفعالات الشخصية المحملة بالدلالات والاشارات المكثفة التي تترك للمتلقي مساحة للتأمل والتأويل، كي تكتمل دائرة التفاعل والحوار بين الخشبة والصالة. الحدث المفجر للتحدي... الذي يستدعي لاحقاً مقاومة الخنوع والتمرد، على سلطة الأم، هو وصول رسالة حب، من سجين مجهول الى "كهرب" رباب مرهج، احدى الشقيقات. في البداية، تظن كل واحدة من الفتيات ان الرسالة موجهة لها، وهذا، ما يفتح باب الام امام احلامهن بالخلاص... ولو كانت معلقة على حبل سجين مجهول، يقبع في عتمة زنزانته، خلف جدران كتيمة باردة تفصله عن فضاء العالم الطليق، وحين يعلمن ان الرسالة موجهة الى "كهرب" تتفجر الصراعات الداخلية بينهن. وفيما الاخت الكبرى العرجاء حنان شقير، النادمة على تخاذلها، امام تجربة سابقة، تشجع اختها على الحب، تشتعل نيران الغيرة في قلب الأخت الصغرى لميس عباس التي تحلم ليل نهار برجل من لحم ودم، ليروي جفاف جسدها، وتيبس عروقها، وينقذها من جحيمها. ويبقى الشاب الأبكم، الغارق معهن في الطين، شاهداً على الاحداث، ويصبح هاجسهن المرعب، وصول وشاية للأم، تخبر عن سر الرسالة. وفي مشهد بالغ الدلالة والقسوة، تجري الأم تحقيقاً مع الشاب الابكم، على كرسي اعتراف، في مقدمة الخشبة، فنراه ينتفض بتعبيرات جسده، كالطير الذبيح، على لسع كلماتها الرصاصية الباردة التي تكشف عن كونه لقيطاً، مديناً لها بحياته كلها، فيما تحاول الشقيقات، اللواتي يمتن رعباً، من امكان انهياره، والبوح بسرهن، ان يحطنه بالدفء والحنان لتقوية عزيمته وشد ازره بمشهد تعبيري في غاية الرمزية والجمال. وبين نوبات الصداع الشديد التي تنتاب الام، وغضبها المدمر، تحكي هي الاخرى، حكاية شروخها وانكسارها... فزوجها ذهب الى الحرب منذ عشرين عاماً ولم يعد... وترك لها كومة لحم، لتتحمل وحيدة مسؤولية المعيشة والتربية في عالم قاس لا يرحم... وهنا يظهر العرض مستوى آخر من مستويات الصراع اكثر عمقاً، اذ يكشف عن آلية تحول المقهور الى قاهر في فضاء ظالم اساساً، ومشرع الابواب على العنف والخطيئة والقسوة. وفي الوقت الذي تتوالى فيه رسائل السجين، لتكشف عن القهر الآخر، غير المنظور، القابع خلف الجدران العالية، حيث تمثل ابتسامة كهرب له، بارقة امل، تساعده على احتمال قسوة آلامه. تقرر كهرب التمسك بوهم الأمل، لهذا الحب المغلول، الذي يبدو لها، اكثر صدقاً من تلميحات اولئك الرجال الأحرار الذين يأكلونها بنظراتهم من دون ان يدق احد منهم بابها. وحين تقرر امها منعها من دخول السجن، تستجمع كل قواها، وتتمرد على قرار الأم... كذلك تتمرد الاخت الصغرى التي تعلن بملء الفم امامها، حاجتها الى رجل يروي ظمأ جسدها، طالما الحب صعب المنال، وتذهب لتقع في جحيم الرذيلة... فيما تتهدم الاخت الكبيرة العرجاء روحاً وجسداً. في مشهد الختام، يكون الزمن فعل فعله في ارواح وأجساد هذه الكائنات المعذبة، وتكون المنافي، آخر ما تبقى لها من امل، فالشاب يرتدي معطفه، ويحمل حقيبته، والشقيقات يحملن صررهن، ايذاناً بمغادرة المكان نحو المجهول، بينما الأم تجلس، كومة مهدمة على مقعدها. استخدم المخرج اسلوب "الكولاج" بتوليف جميل، للافصاح عن مضمون الرسائل، التي تقرأ بصوت السجين، الآتي من الكواليس. واستخدم في بعض المشاهد، الاستيهامات، وأحلام اليقظة للتعبير عما يدور في دواخل الشخصيات مشهد ذبح الأم ومشهد العرس، شكلت الموسيقى والرقص انساقاً مسرحية اضافية اغنت الابعاد الدرامية للأحداث، وعبّرت الاضاءة الشحيحة عن مرارة الواقع وعتمته، ليكتمل العرض بعناصره كافة، نصاً واخراجاً وتمثيلاً. من الجدير ذكره، ان المخرج باسم قهار، يعمل منذ العام 1998 مخرجاً مقيماً في مسرح "سدني" الفني، ويقدم عروضه كمخرج ضيف في مسارح استرالية اخرى.