أعاد المخرج انطوان الأشقر الكاتب الاسباني فرناندو أرابال الى المسرح اللبناني بعد عشرين عاماً على تقديم المخرج ريمون جبارة مسرحيته «احتفال برجل أسود مقتول». كانت تلك المسرحية حدثاً في الثمانينات المنصرمة، عبر اقتباس جبارة لها واخراجه إياها وفق رؤيته الفريدة، مسمياً إياها «قندلفت يصعد الى السماء». اما عودة أرابال الى الجمهور اللبناني فتتمثل في مسرحية «رسالة حب» التي ترجمها الاشقر، وهو أحد تلامذة جبارة، عن الاسبانية وأخرجها في صيغة تجمع بين الأصل الاسباني و «التأويل» اللبناني. وكان الاشقر انهى دراسته العليا في اسبانيا وحاز شهادة الدكتوراة وتعرف عن كثب الى المسرح الاسباني الحديث ومنه مسرح أرابال، الذي ينتمي الى مدرسة الثورة الادبية والفنية التي شهدتها أوروبا غداة الحرب الثانية، موحداً بين الدادائية والسوريالية والعبث والسخرية والقسوة وحركة «بانيك» (رعب) التي ساهم في تأسيسها مع رولان توبور وسواه. اختار المخرج اللبناني الشاب إحدى «الطف» مسرحيات أرابال وأشدها وجدانية وغنائية وذاتية، وهي «رسالة حب» التي كتبها في فترته الاخيرة عام 1999 وشاء ان يوجهها الى أمه التي كانت أشرفت على التسعين من عمرها، بينما هو في السابعة والستين. لم يتمكن أرابال من تناسي قضية أبيه التي ظلت تحفر في عمق ذاكرته ووجدانه وأضحت بمثابة جرح مفتوح لم يشف منه على رغم مرور أكثر من خمسين عاماً على القضية. وكان مفاجئاً فعلاً أن يكتب ارابال هذا النص او بالاحرى هذا المونولوغ البديع بعد اعوام من الجنون والتمرد والمواجهة السافرة للتاريخ والواقع في الكتابة كما في الحياة، والتحرر من سلطة «الاخلاق». كأنه شاء أن «يصفّي» حساباً قديماً مع أمه ومع نفسه ومع الجلاد (فرانكو واتباعه) ومع الذاكرة والذكريات... إنها الرسالة التي يرسلها الابن الى الأم بعد ثمانية عشر عاماً من انقطاع العلاقة بينهما. وكان لا بد لهذه الرسالة من ان تكون حافزاً لهذا المونولوغ او لهذا النص الذي بدا اوتوبيوغرافيا بامتياز. الابن هو ارابال والام هي امه والاب الغائب - الحاضر هو ابوه الذي رماه الانقلاب الفرنكوي في السجن عام 1936 عقاباً له هو العسكري، على مناهضته الانقلابيين ورفضه الانضمام الى النظام الديكتاتوري. وعندما فر عام 1941 من مستشفى الأمراض العقلية الذي زجوه فيه أخيراً، اختفى الأب ولم يظهر له أثر. بقي أثره الوحيد في روح الابن وذاكرته. اختار المخرج انطوان الأشقر مسرحاً صغيراً هو أصغر من «مسرح جيب» (مونو) ليقدم عرضه «الفقير» والخالي من الديكور تقريباً، متكئاً على حركة الممثلين أو لنقل حركة الممثلة رلى حمادة مؤدية دور الأم التي تتلقى رسالة الابن (جاد خاطر) الذي كان يظهر ظهوراً متقطعاً وكأنه طيف الابن أو شبحه. وبدت رلى حمادة قادرة تماماً على ملء الخشبة شبه الفارغة بحركتها كما بإدائها الداخلي، مجسدة برقة وقوة، شخصية الأم التي وصفت ب «العهر» واتهمت بالتآمر ضد زوجها. تتلقى الأم الرسالة يوم عيد ميلادها الذي تتحول اغنيته الشهيرة (هابي بيرثداي) الى ما يشبه «اللازمة» (لايتموتيف) التي تستعيدها الام أكثر من مرة جاعلة إياها لحناً جنائزياً. امرأة وحيدة تتخبط في جحيم ذكرياتها الاليمة التي تزيدها اشتعالاً، رسالة الابن وعودته ولو طيفاً عبر الرسالة. ما برح الابن يصر على اتهامها بالتوطؤ على أسر ابيه وعلى قتله مجازاً وتعنيفه نفسياً وعدم الاهتمام به سجيناً وزيارته. ولم ينس إخفاءها رسائل ابيه اليه، سعياً منها لقطع علاقته به ومنعه من التواصل معه. إلا ان الابن يبدو كأنه يعلم ان الام إنما تصرفت بمثل هذه القسوة حفاظاً عليه وإبعاد الخطر عنه، لكنه لا يعترف بهذا الامر ليساعد نفسه في القسوة على امه انتقاماً للاب. إنه الموقف الاوديبي مقلوباً: عوض ان يقتل الابن أباه ليستأثر بأمه، تقتل الام الاب لتستأثر بالابن. لكنّ الام لم تشأ أن تنتقم من الاب ولم تفكر بهذا الانتقام، ما يجعل هذه المعادلة الاوديبية المقلوبة ناقصة وعبثية ومحكومة بحال من «سوء الفهم» القدري («سوء فهم» البير كامو). فالأم التي آذاها اعتقال الاب والانتقام القاسي للابن، كانت شاهدة حقيقية على المأساة التي عاشها الناس في ظل الحرب الاهلية وتحت وطأة الانقلاب الفرنكوي. وقد عرفت الفقر والذل والخوف والمهانة واضطرت الى مجاراة زوجة احد الجنرالات قسراً... المأساة هذه ينقلها المخرج من حال التذكر والكلام الى مشهد بصري شبه توثيقي عبر عرض ضوئيات (سلايدات) تظهر فيها صور المجازر والمعارك والقتلى وأجزاء من لوحة بيكاسو الشهيرة «غيرنيكا» ووجوه مأسوية للرسام غويا. اما النهاية المأسوية التي تنتهي الام اليها، فهي أقرب الى النهايات التراجيدية: ممددةً على سرير المرض الجسدي والنفسي، مرتديةً الثوب الابيض تنهض الممرضة (سيرينا الشامي) الام لتعطيها الدواء ثم تقودها وسط إضاءة قوية تكشف ملامح وجهها الهزيل، الى آخر الصالة. مشهد ختامي رهيب يوحي باللانهاية أو بالنهاية المفتوحة على المجهول الذي ابتلع الاب من قبل. ثم كان لا بد من ان يعلو اللحن الجنائزي نفسه للمرة الاخيرة: «هابي بيرثداي». «رسالة حب» مسرحية أرابال هي في صيغتها اللبنانية مسرحية انطوان الاشقر ورلى حمادة، وقد أصاب المخرج في اختياره هذه الممثلة القديرة التي تعد اليوم من ابرز ممثلات جيلها، وهي باتت صاحبة ريبرتوار مهم، في المسرح كما في التلفزيون والسينما، ممثلة هي سليلة الاحتراف والثقافة، حقيقية وأصيلة، لا تغريها النجومية والمظاهر، ملتزمة ومتجددة ودائمة الشغف، كل دور تؤديه هو علامة في مسارها. وإطلالتها في «رسالة حب» اضافت الى سجلها شخصية لا تُنسى، في تلاوينها المتبدلة وعيشها مأساتها جسداً وروحاً وتجسيدها اعمق الاحاسيس التي تكابدها هذه الام. إنه الاداء الحي والمفتوح وغير المقولب (ستريوتيب) الذي يتطور ليلة تلو ليلة. نجح المخرج انطوان الاشقر في إعادة فرناندو ارابال الى المسرح اللبناني كما يجب ان يعاد اليه، في صيغة درامية جميلة ومؤثرة، هي صيغة المسرح الفقير، الغني بالاداء التمثيلي والمعاني والدلالات.