عاد اليّ شريط من ذكريات المراهقة امتزج فيه الحنين بالحزن وأنا أقرأ في جريدتنا هذه نعي الاستاذ قيصر الياس حداد، فقد كان استاذي المفضل حتى دخلت الجامعة. وكنت لا أزال أفكر فيه عندما أرسل اليّ صديق بالفاكس صورة عن صفحة من العدد الأول في مطبوعة بعنوان "رسائل"، حمل تاريخ ربيع 1998، وفوجئت بأن موضوعاً عنوانه "من الذكريات" كتبه الأستاذ قيصر عني. وهو بدأ هكذا: كان طالباً ذكياً نشيطاً مرحاً مثقفاً رأس الجمعية الأدبية في "ثانوية الروضة" لسنوات، ومع ذلك كان جهاد الخازن يرسب في كل صف سنتين... وإذا كان الاستاذ قيصر يعتقد انني ذكي نشيط مرح مثقف فمن أنا حتى أناقشه. غير انني اعترف بأن ما يضعف رأي استاذي الحبيب في أوصافي أو صفاتي، هو أنني لم أكن تلميذه في "الروضة" وانما في "مدرسة الانكليز"، قرب بيت المغفور له صائب سلام في المصيطبة، وانتقل صفي سنة "الثورة"، اي سنة 1958، الى مدرسة البنات، حتى لا تضيع علينا البكالوريا، ومنها الى الجامعة الاميركية في بيروت. أرجح ان استاذي الذي انقطعت علاقتي به بعد تركي بيروت قبل 25 سنة كاملة، خلط بيني وبين تلميذ آخر، فأنا لم أكن في "الروضة" حتى أرسب في أي صف فيها، ومع ذلك فقد كنت رئيس الجمعية الأدبية في "مدرسة الانكليز" ثلاث سنوات، وكان نائبي في السنة الأخيرة الصديق رفائيل كاليس، وهو كان نائبي بعد ذلك في "الديلي ستار" وعمل رئيس تحرير بدوره في لندن، ورأس وكالة يونايتدبرس، وكان من أركان MBC في لندن. اكتب هذه السطور تقديراً لذلك المربي العظيم وأملاً بأن يقرأها طلابه وأبناء أخيه وديع حداد، احد أخطر القادة الفلسطينيين وابعدهم أثراً ضمن حركة القوميين العرب، وبعدها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. رئاستي الجمعية الأدبية لها قصة تعكس مجتمع طلاب تلك الأيام، فقد كانت "مدرسة الانكليز" منقسمة بين غالبية قومية عربية، أو ناصرية، الاستاذ قيصر حداد أبوها الروحي، وأقلية قومية سورية يرعاها الاستاذ فكتور حداد لا قرابة بين الاثنين. وربما كان هناك شيوعي أو اثنان وبعض البعثيين، الا انني كنت الوحيد الذي لم ينتم الى حزب، فكان ان لم تجد الاحزاب المختلفة طالباً تتفق على رئاسته الجمعية غيري. ووجدت ان رفائيل كاليس مثلي بعداً عن السياسة فاخترته الى جانبي. الغريب في أمر ذكريات الاستاذ قيصر عني انه نشر معها صورة لصف التخرج سنة البكالوريا، الا انه صف "مدرسة الانكليز" لا "الروضة" وقد توسطت الصف الأول والى يميني قدورة والجمل كنا ننادي بعضنا بعضاً باسم العائلة. وفي أقصى الصورة الى اليمين رزوق، وفي اقصاها الى اليسار طالب الماني لم أعد أذكر اسمه كان الاجنبي الوحيد في الصف. كل هؤلاء تخرجوا من "مدرسة الانكليز" لا "الروضة" وذهبنا الى الجامعة معاً، واستمرت علاقتي ببعضهم الى اليوم، مثل الاصدقاء خالد قدورة وغازي الجمل وبشارة رزوق، وكلهم حيّ يسعى. الذاكرة تتلاعب بصاحبها، خصوصاً إذا كان صاحبها علّم ألفاً بعد ألف من الطلاب، فيما كان أخوه وديع يخوض حرباً سياسية، واحياناً مسلحة لتحرير فلسطين، من أبرز مظاهرها خطف الطائرات في الستينات والسبعينات. ايهما جهاده اعظم، معلم الاجيال أو المناضل المسلح؟ شخصياً اعتقد ان قيصر حداد كان مجلياً في ميدانه، وعندما شغلت القضية أخاه، اعتنى بأولاده ولم يتزوج. وفوجئت وأنا أزوره في "الروضة" يوماً بمدى حرصه على أولاد أخيه، فقد سمعنا ضجيجاً في الخارج، وصوت فرامل سيارات. واسرع الاستاذ قيصر ليطمئن على أولاد أخيه في الساحة الخارجية خشية ان يكون هناك من يحاول خطفهم. ماذا أزيد عن استاذي الراحل؟ كان الاستاذ كليم قربان، مدير "مدرسة الانكليز" ويعلمنا قواعد اللغة العربية، وهو مرض مرضاً زاد على شهر، فناب عنه الاستاذ الياس حداد، والد قيصر. واسجل هنا اثباتاً لسلامة ذاكرتي، انه قرأ علينا بيتاً من الشعر هو: ان الثمانين، وبلغتها، قد احوجت سمعي الى ترجمان وكان الشاهد على المو ضوع فيه هو "وبلغتها"، فقد شرح لنا انها "جملة معترضة". في تلك الأيام كان آل حداد يسكنون بيتاً من طابقين تحيط به حديقة، قرب مبنى وزارة الاعلام، تقوم مكانه اليوم بناية يونفرسال. وانتقل الاستاذ قيصر بعد ذلك الى شقة لا تبعد أكثر من مئتي متر عن البيت السابق، في بناية تطل على سجن النساء، أو حبس النسوان، كما كنا نسميه. وهنا اعترف بشيء ما كنت لأجرؤ على الاعتراف به لاستاذي في حياته، فقد زعمت له انني ضعيف في الرياضيات، وهي مادته، بعد ان اكتشفت ان شرفة شقته تطل على السجن، واخذت معه دروساً خاصة، فكنت أتسلل الى الشرفة للفرجة على السجينات، وغالبيتهن من فتيات الليل، وقد خلعن خمار الحياء وأشياء كثيرة معه. رحم الله قيصر حداد. كان استاذي ثم صديقي، وان آسف على شيء اليوم فهو انني لم أحاول زيارته وأنا أعود الى بيروت في السنوات الأخيرة، ولعلي اعتقدت بفعل اعجاب الطالب بأستاذه، انه سيكون هناك دائماً، يربي جيلاً آخر، وينتظر ان يزوره من سبق.