} جاءنا من الكاتب والصحافي السوداني عبدالعزيز عبدالوهاب محمد رد مفصل على سلسلة مقالات عن السودان كتبها الزميل يوسف خازم في الأعداد من 14015 الى 14021 بعنوان "حرب الجنوب ونفط السودان ... حكايات لا تقال". وحمل محمد على "بعض" الإعلام العربي وعلى الزميل خازم قبل ان يتناول في مقالته - الرد "مؤامرة" جون قرنق وتمرد الجنوب المدعوم من الغرب في مقابل انجازات الحكومة السودانية وآخرها استخراج النفط. هنا نص الرد الذي اختصرت فقرات قليلة منه لدواع تقنية. قرأت التحقيقات الست التي نشرها الصحافي يوسف خازم في صحيفة "الحياة" الأعداد من 14015 الى 14021 التي سرد من خلالها قصة النفط السوداني وحرب الجنوب ... ونقل أيضاً وجهة نظر الدكتور جون قرنق وأعوانه القائلة: "إن النفط قاتل ... فأوقفوا هذا القاتل". وعرفنا أيضاً جهود "الحركة الشعبية" الحثيثة لإجهاض استغلال النفط السوداني بكل ممكن ومستحيل ... على نحو ما أورده الصحافي على مدى ستة أيام وسيظل يتحراه زمناً سيطول! سنتوجه في هذه المقالة مباشرة إلى مساءلة الإعلام العربي - بعضه لا كله - وبعض رموز الكتابة فيه، وإلى ما يكتبه بعض الزملاء مباشرة أيضاً، فنعمل أيضاً من داخل ما يكتبون لا من خارجه تحاشياً للقيل والقال، وغرضنا الأساسي استظهار ما استبطنه البعض، وكشف محاولات ضرب السودان وتطويقه إعلامياً ... وصولاً بالجميع إلى حقيقة ما يجرى في الكواليس. ما أدهشني حقيقة ... هو أنني لم اندهش مطلقاً لما ظل يتناوله بعض الكتاب والصحافيين، في "طرب" شهي لأخبار حركة التمرد وعكس وجهة نظرها في شكل بارز. يسير معها ويدخل الى مواقعها في صحبة الليل والضفادع والبعوض، والرغبة الغريبة القديمة هي ما يحرك قلمه، كأنه جندي في جيشها، يمارس عنف الخطاب الصحافي في مفرداته البائسة، ما انعكس فقدانه استقلاليته، وحياده ... ومضى بعدها صاعداً إلى ... الرؤية بنصف عين. أما الحكومة فكأن لا الدنيا تعرفها، ولا الآخرة تعرفها. ولكن الدنيا نفسها تكاد تشهق الآن ... لما رأت السودان يخرج من تحت الغبار الملبد الأسود قوياً متماسكاً وجديراً بالاحترام. "حرب الجنوب ونفط السودان ... حكايات لا تقال" مقالة ظلت في الخاطر تنسج خيوطها من الأسى والأسف العميقين اللذين يتكوران في الوجدان يوماً بعد آخر مما تكتبه بعض الأقلام... المخطط الرهيب كتب رئيس مجلس النواب السوداني في الخمسينات ثم رئيس الوزراء في السبعينات بابكر عوض في صحيفة "السودان الحديث" في 9/4/1994 مقالاً يشرح فيه تفاصيل مؤامرة كبرى تحاك ضد المنطقة العربية في مطابخ الغرب. وأكد أن بداية تنفيذ هذه المؤامرة تتم بفصل جنوب السودان. وقال إن هدف المؤامرة هو تجميع كل يهود العالم في إسرائيل الكبرى التي سوف يزيد سكانها على 20 مليوناً، وهؤلاء لا يمكن استيعابهم في إسرائيل بتكوينها الحالي لعدم وجود الماء المطلوب لتعمير النقب وسيناء التي سوف تعود حسب المخطط. إسرائيل الكبرى ستمتد بحسب الشعار المرفوع والخريطة المعروضين في الكنيست من النيل إلى الفرات، ولاحظ انهم لم يقولوا من مصر إلى العراق، وذلك لان ما يؤرق بال إسرائيل الصهيونية على مستقبل كيانها هو الماء، والماء فقط. ولكي تصل إلى الماء فلا بد أن تسيطر على وادي النيل من منبعه إلى مصبه، وأيضاً على جزء كبير من الأراضي التي تقع شمالها وتحول دون وصولها إلى الفرات، وأول انتصار للمؤامرة سوف يكون بالاستيلاء على جنوب السودان، والجنوب على اتساعه لا يزيد ساكنوه على خمسة ملايين نسمة معظمهم من الأميين الوثنيين والبقية مسلمون ومسيحيون، والمسيحيون هم الفئة المؤثرة في مجريات الأمور والاتصال بالخارج. أما الإدارة الحقيقية فستتولاها في الخفاء العصابة التي لها مصلحة في إقامة إسرائيل عملاقاً في الشرق الأوسط، وهذه العصابة ستغدق على الجنوبيين من الأموال ما يجعلهم مشغولين بأنفسهم عما يدور حولهم، وسيكونون تحت إمرة الحكومة الخفية التي ستدفعهم إلى المطالبة بشمال السودان تنفيذاً لما يدعونه وأعلنه قرنق مراراً من أن العرب الذين طردوا من الأندلس بعد ثمانية قرون لا يصعب إخراجهم من شمال السودان بعد أربعة قرون فقط. إذاً المرحلة الثانية بعد فصل الجنوب هي تحول المعركة شمالاً، وسوف تكون القضية هي هل الشمال ملك العرب أم ملك الإفريقيين؟ ثم أن الجنوب سوف يكون مسلحاً حتى أسنانه كما يقول الإنكليز، إذ أن إسرائيل ستنقل الكثير من مصانعها، بما في ذلك المفاعل الذري والصواريخ عابرة القارات إلى جنوب السودان. وعندما يرى الفور والنوبة والانقسنا والبجة ما أغدقه الاستعمار على الجنوبيين من خيرات، سيطالبون أيضاً بالانفصال وسيبقى الجزء الواقع على النيل فقط في شمال السودان، وهو ما سيدخل في معركة مع الاستعمار بعد أن أصبحت روافد النيل تحت سيطرة إسرائيل وأعوانها، وبلا شك ستكون المعركة غير متكافئة وسيطرد سكان تلك المنطقة إلى جنوب مصر حيث تنشأ دولة النوبة من بحيرة ناصر إلى نجع حمادي، ثم تبدأ بعد ذلك الدولة القبطية التي ستكون حدودها الشمالية منطقة مغاغة وما تبقى بعد ذلك فهو مصر المستقبل. ثم هل ستقف إسرائيل عند هذا الحد؟ أبداً، إذ أنها ستطالب بأراضٍ عربية اخرى، وليس الأردن في منأى عن هذا المخطط ولا لبنان ولا العراق ولا سورية الشام الكبرى، كل هذه سيقتطع منها الكثير ويترك لها القليل لتقوم إسرائيل العملاقة آمرة ناهية وسط عشرات من الدويلات العربية التي يجب عليها أن تأتمر بأمرها، وسوف يجلب إليها من شتات العالم كل اليهود الذين ينبذهم المجتمع الغربي المسيحي، ويريد التخلص منهم بتحقيق سيطرتهم على المنطقة لسرقة خاماتها ومنع استيراد أي سلعة إليها إلا ما صنع في إسرائيل. الإنكليز هم السبب أما قصة الحرب نفسها، فتعود إلى ما وراء حكم "الإنقاذ" بسنوات بعيدة. فكل المواجع التي تعرض لها السودان كانت نتيجة لسياسة بريطانيا العظمى التي استعمرته عام 1899، عندما أصدرت في سنة 1922 قانون المناطق المقفولة، وعمدت إلى إيجاد مناطق يحرم على السودانيين الشماليين والأجانب الدخول إليها إلا بتصريح خاص جواز سفر من الحاكم العام، كما أصدرت الإدارة الاستعمارية قراراً بإحلال اللغة الإنكليزية محل اللغة العربية، وعملت على وقف المد الإسلامي الى الجنوب وعززت الوجود الكنسي والتبشيري في مناطق الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشمال دارفور. وفي عام 1954 أصدرت السلطات البريطانية قراراً يقضي بسودنة الوظائف على أن يكون نصيب أبناء الجنوب ست وظائف من مجموع 800 وظيفة تم قصرها على أبناء الشمال، وفيما كانت السلطات الاستعمارية تمنح الموظف الجنوبي في دور الحكومة قرشاً واحداً في اليوم كان الشمالي يتقاضى قرابة الثلاثين قرشاً. أما عندما يتم إيفاد عدد من الجنوبيين للدراسة في الشمال فكان يتم إلباسهم قبالة السفن التي كانت تقلهم إلى الشمال، وعند عودتهم إلى الجنوب كانوا ينزعون عنهم تلك الملابس قبل دخولهم إلى مناطقهم، والهدف من وراء كل ذلك كان إيجاد فجوة نفسية وحضارية عميقة تصلح وقوداً قابلاً للإشتعال يوماً ما. وعندما قامت الثورة في مصر عام 1952 وافقت على منح السودانيين حق تقرير المصير، وتمنع الإنكليز بحجة خبيثة هي حماية الأقليات المتخلفة. حقيقة التمرد أما أول تمرد جنوبي فكان في العام 1955 عندما صدر قرار باستدعاء الفرقة الاستوائية للاشتراك في احتفالات الاستقلال، فساد اعتقاد بأن الفرقة سيتم نقلها نهائياً إلى الجهة الشمالية واستبدالها بوحدات شمالية، ما دفع جنود الفرقة في توريت للقيام بأول تمرد قتل فيه 261 شمالياً معظمهم من المدنيين، وسمى المتمردون حركتهم باسم انانيا2 وذلك في العام 1962. وقبل أن تهدأ الأحوال قليلاً بتوقيع اتفاق أديس أبابا في آذار مارس عام 1972 تحت رعاية إمبراطور الحبشة إثيوبيا هيلاسيلاسي التي أنشئ بموجبها المجلس التنفيذي العالي للجنوب، تجدد التمرد مرة أخرى، وبشكل عنيف ومدروس في 16 أيار مايو 1983، عندما تمردت الكتيبة 105 بقيادة المقدم كاربينو كوانين. وهو التمرد المستمر حتى الآن بقيادة العقيد الدكتور جون قرنق، ويهدف من ورائه إنشاء دولة السودان الجديد بعد تحقيق الانفصال، كما ظل ينادي دائماً. مَنْ هو قرنق؟ لماذا عنيف ومدروس؟ لأن الولاياتالمتحدة تحاول اليوم النهوض بميراث بريطانيا، الذي نهض به دزرئيلى وغلادستون وبلفور وتشرشل وكتشنر وغوردون، المتعلق بحماية الحضارة الغربية وتأمين سلامة إسرائيل باعتبارها مزيجاً من الصليبية واليهودية ووثبة العقل كما يقول البروفسور حسن مكي، ويعمل الأميركيون الآن بكل جد لإنفاذ مخطط تفتيت الأمة العربية ابتداء من السودان، على نحو ما جاء آنفاً، السودان الذي يحمل اليوم بعض أشواق المشروع المهدوي الذي حاربته بريطانيا بكل منكور وممنوع، وذلك عبر الدكتور جون قرنق الوكيل المحلي أثرى اثرياء أفريقيا، الذي نال شهادة الدكتوراه عبر منحة من أميركا، وسافر إلى إسرائيل مرات عدة بغرض تلقي دورات تدريبية عسكرية متقدمة ومعه العديد من أفراد جيشه. ويحفل ملف قرنق بالكثير من الاستبداد والدموية ... إذ مرت قصة قيادته للحركة وسيطرته التامة عليها بالعديد من الإعدامات والخيانة المطلقة لرفاق الدرب، إضافة إلى الأموال الطائلة التي حوّلها الى حسابه الخاص، وصار بها يمتلك من المزارع والمساكن الكثير المثير. وتقول بعض التقارير أن مصالح قرنق و أسرته تقتضي الاستمرار في الحرب وبقاءها مشتعلة دائماً لأنها تمثل له مورداً مالياً مستمراً ليبيع الأخشاب ويدمّر البيئة المحلية في جنوب السودان ويبيع الذهب ويعد إسرائيل ودول أخرى بأنه سيبيعها البترول، وهو اخذ رهائن وضرب طائرات مدنية وخطف 14 ألف طفل، ولهذا فإن مصلحة قرنق التي لا مراء فيها - كما يقول مهدي إبراهيم وزير الإعلام السوداني - هي ألا يحضر أي مفاوضات بنفسه ولا يوقف الحرب وهذه هي مفكرة "الحركة الشعبية" وجهات أجنبية تدعمها بالسلاح والمال. وذكرت تقارير أخرى صادرة عن المحقق الخاص بحقوق الإنسان الذي عينته الأممالمتحدة في تقريره الصادر عام 1996 أن "الجيش الشعبي" ارتكب مذبحة بشعة في حق المدنيين العزّل في 30/7/1995 في منطقة جانييل حيث قتل مسلحو "الجيش الشعبي" 210 من القرويين من ضمنهم 127 طفلاً و53 امرأة و30 رجلاً بالرماح والسهام، وكان من ضحاياها طفلان رضيعان تم انتزاعهما من أميهما. كما قام المسلحون بسرقة 2500 رأس من الماشية. وقالت تقارير منظمة العفو الدولية لعام 1993 الوطن السعودية العدد 328 - 23/8/2001 أن الحركة احتجزت 18 طفلاً في كوخ وأشعلت النار فيهم وقتلت ثلاثة منهم بالرصاص عند محاولتهم الهروب، كما انها صفّت 22 امرأة في طابور وأطلقت رصاصة في رأس كل منهن، كما أحرقت 136 امرأة في قرية بيايو في الجنوب. وفي عام 1996 اعترفت الحركة بإسقاطها طائرة مدنية على مدينة ملكال ما أدى إلى مقتل ركابها المدنيين جميعاً، وفي آب اغسطس من العام نفسه اختطفت الحركة ستة قساوسة احتجوا على سياسات "الجيش الشعبي" الدموية، ولم يطلق سراحهم إلا بعد إيصال الأمر إلى العالم الخارجي وحدوث ضجة إعلامية عالمية بشأنهم كما أورد ذلك تقرير حقوق الإنسان. هذه السيرة الدموية إلى أقصى مدى المملوءة بالحقد الأعمى ضد العرب والمسلمين، إنما هي ترجمة مباشرة للمانيفستو الذي يقوم على مبدأ الإبادة البشرية طريقاً للسيطرة. وما الجرائم الفظيعة التي ترتكبها إسرائيل القاعدة المتقدمة للغرب الإمبريالي بحق الفلسطينيين إلا الوجه الآخر للعملة الواحدة. الدور الأميركي ويقوم بعض مراكز الدراسات في أميركا بإعداد التقارير المفصلة منذ السبعينات حول فصل الجنوب السوداني، ففي 18 تموز يوليو 1999 أصدرت واشنطن وثيقة تحمل اسم سلام السودان أعلنت فيها أن الحكومة السودانية كررت مراراً أنها بصدد استخدام عائدات النفط لزيادة ضغطها على المناطق المحاربة، وأمرت الوثيقة أن يوافيها الرئيس الأميركي يومها - بيل كلينتون - بتقرير، كل ثلاثة اشهر، عن أوضاع السودان المالية ومصادر دعمه، وكذلك عن أوضاع البنية التحتية للنفط واستكشافات البترول بل وحتى حال الأنبوب، كما خصصت الوثيقة مبلغ 16 مليون دولار ابتداء من 11/10/2000 حتى 30/9/2002 لبناء أجهزة مدنية وتجارية في المناطق المحررة، أي الواقعة تحت سيطرة حركة التمرد، إضافة إلى تخصيص مساعدات لمناطق الحظر في جبال النوبة وتلال البحر الأحمر وأقاليم جنوب النيل الأزرق، ما يؤكد وبشكل حاسم حديث عوض الله الذي تقدم. الدور الاسرائيلي أما إسرائيل فظلت تكثف وجودها العسكري والاستخباراتي بغرض بسط نفوذها على كل القارة الأفريقية بطريقة علنية مرة، وسرية مريبة مرات و مرات، وتتواجد في شكل خاص ومثير في مناطق النيل العليا بهدف إجراء الدراسات المائية و إعداد الخطط اللازمة التي ترمي للسيطرة على منابع النيل بإنشاء السدود والمحابس المائية، وتغيير مسار النيل وتقليص المياه الواردة إلى السودان ومصر، وتدمير مياه النيل بالمواد المشعة والجرثومية التي تتسبب بإبادة الحياة البشرية والنيلية. وبالفعل ضاعفت تل ابيب وجودها هناك منذ مطلع الثمانينات، حيث يوجد ما يزيد على 2000 من خبراء ال"موساد" في بعض دول المنطقة تحت تسميات عدة منها خبراء زراعيون ومستشارون اقتصاديون وفنيون، فتم لها في وقت وجيز تحقيق أكبر اختراق أمني وسياسي واقتصادي، وقدمت في سبيل ذلك الهدف رشاوى بلغت ملايين الدولارات. وفي المقابل، نشطت حركة التمرد بقيادة جون قرنق وبدعم لوجستي غربي - صهيوني وبغطاء واسع من منظمات الإغاثة تحت شعار العمل الإنساني، فأشعلت الحرب في جبهة طولها 1500 كيلومتر تمتد من البحر الأحمر إلى غرب الاستوائية، تمدد فيها جيش قرنق في عدد من المواقع وسمّيت تلك المعارك ب"الوثبة الأخيرة" تلتها معارك "وثبة الثعلب" ثم "الأمطار الغزيرة"، كما أورد تقرير استراتيجي صادر في الخرطوم. وقابلت حركة التمرد الهجوم الغادر الذي قاده المنشق اللواء كاربينو كوانين الذي قالت بعض المصادر انه تلقى دعماً من بعض الدول الأوروبية على مدينة واو صبيحة عيد الفطر 28/1/1998 بالارتياح، إذ قال الدكتور منصور خالد المستشار السياسي للحركة: "ان الضربة كانت إيجابية ومؤثرة لأنها قضت على ما يسمى بالسلام الداخلي". وأضاف: "ان هدف العملية كان السيطرة على خطوط السكك الحديد لقطع الإمداد عن واو، إذ أن السيطرة على بحر الغزال ستنقل المعركة إلى كردفان ودارفور ومناطق جبال النوبة وبانتيو حيث مناطق البترول". الموقف الحكومي ومن جانبها، أعلنت الحكومة ولأكثر من ست مرات، وقفاً شاملاً لإطلاق النار، في رسالة واضحة للعالم تدعوه لمواجهة المسببات الأساسية لنشوء حالات الاحتياج للعون، وهي الحرب. لكن ممارسات حركة التمرد فاقمت من تردي الأحوال الإنسانية، فدأبت الحركة على تحويل الأغذية والمساعدات إلى المقاتلين، وعثر في مخازنها على كثير من المساعدات التي وفرتها المنظمات الطوعية الدولية، عند استرداد الحكومة لمواقع احتلتها الحركة، إضافة إلى أن حركة التمرد كانت تلجأ الى دفع المواطنين العجزة وكبار السن والأطفال من مناطق نفوذها إلى مناطق الحكومة فتضيف أعباء تؤدي إلى تردي أحوالهم. كما ان تفاقم الأوضاع الإنسانية في جنوب السودان تعود مسؤولية كبيرة فيه، بحسب التقرير الاستراتيجي، الى المجتمع الدولي والدول المانحة التي أحجمت، في شكل واضح، عن تمويل الاحتياجات لتوفير الغذاء. ولم يتجاوز ما قدمته تلك الدول في العام 1998 سوى 19 في المئة من قيمة النداء الموحد الذي أصدرته الأممالمتحدة والبالغ 109 ملايين دولار. بيد أن المساعدات الدولية في إنفاذ برنامج شريان الحياة كانت قاصرة أيضاً، إذ أن الحكومة وافقت خلال العام 1998 لبرنامج الغذاء العالمي على أربع عشرة رحلة جوية نفذ منها أربع فقط وصدقت لليونسيف على عشرين رحلة نفذت منها رحلتان فقط. في حين تضاعفت اسهامات الدول العربية في برنامج الإغاثة وسجلت مواقف خالدة يحفظها السودان لأشقائه. وظلت حركة التمرد هي المعوق الرئيس لجهود إحلال السلام في السودان، فمنذ قيامها في العام 1983 ظلت تراوغ في شكل دائم للالتفاف على الدعوات الصادقة التي أطلقتها الحكومة السودانية والأشقاء العرب والمجتمع الدولي، وتنصلت كعهدها من كل اتفاق يدعو لوقف إطلاق النار أو الجلوس للحوار، لأنها تنطلق من عقيدة راسخة هي فصل الجنوب وتكوين دولة مستقلة فيه كما جاء في الورقة التي قدمتها في مفاوضات نيروبي. كما كانت تطالب دائماً بشروط تعجيزية لا يمكن التعليق عليها سوى بأنها مستحيلة. أما جديد مماحكات حركة التمرد فهو تنصلها من المبادرة الليبية - المصرية المشتركة. فبعد أن وجدت نفسها مجبرة على الموافقة عليها، بعد الموافقة الحكومية غير المشروطة على بنودها التسعة، وبعد موافقة معظم أطراف النزاع، عادت اخيراً الى المناورة، مرة بالعودة للزج بمبادرة إيقاد في بنود المبادرة المشتركة، ومرة بارتباطات جون قرنق التي تمنعه من حضور لقاء طرابلس. وكان قرنق قد تنصل وفي توقيت حاسم من لقاء الفريق البشير في كل من ابوجا وطرابلس وغيرها، فبعد أن يعلن موافقته على حضور تلك اللقاءات ويحضر بالفعل إلى مكانها إلا انه يغادر قبل ساعات فقط من موعد اللقاء ضاربا أسوأ النماذج في أدب البروتوكولات الرئاسية. مسألة النفط أما النفط المفترى عليه، فبرز كواحد من اسباب التلكؤات العقيمة للحركة الفاشية المعرقلة لكل خطوات السلام. فبعد رفضها الجلوس مع حكومة المشير سوار الذهب ثم حكومات الصادق المهدي إلا بصفته الحزبية وليس بصفته الحكومية المتعاقبة و أخيراً حكومة الإنقاذ الوطني، ها هي اليوم تجدد ذلك الرفض بحجة إيقاف النفط المتدفق أولا. ويقول بعض الدراسات ان واشنطن تعد النفط السوداني احتياطاً للمستقبل بعد أن ينفد نفط المناطق المعروفة، وبعد أن أثبتت استكشافات شركة شيفرون الأميركية وجوده وبكميات هائلة في السودان، لذا فإن الجهود الأميركية انصبّت، ولعقود مضت، على منع استغلال هذا المورد بكل الوسائل، حتى إنها حشرت نفسها داخل انبوبه حينما طالبت جهات تشريعية من كلينتون أن يوافيها بتقارير دورية حول حال الأنبوب وخطة سيره على نحو ما ذكرنا. والنفط السوداني ليس أحد المشاريع الاقتصادية العادية في نظر حكومة البشير، إنها قصة جديرة بالتسجيل، وأكثر ما يلفت فيها هو أن البترول مشروع يتطلب أموالاً طائلة واستثمارات ضخمة لا تتوافر لدولة فقيرة مثل السودان حظرت عليها القوى الكبرى تكنولوجيا النفط ومنعت شركاتها من أن تطأ أرضها ومارست ضغوطاً على دول أخرى وشركاتها كي لا تتعامل معها. وفي هذه الأجواء الملبّدة بالغيوم والأرض المزروعة بالألغام وعبر المنعطفات الخطيرة كيداً ومكراً، بدأ السودان مسيرته نحو هدفه المشروع، المحظور أميركياً، بعدما أجاز الكونغرس اخيراً قراراً، يدفع الإدارة الأميركية الجديدة دفعاً الى ممارسة كل أشكال الضغط والتدخل لوقف الحرب ومنع تدفق النفط، وفي الوقت نفسه أجاز القرار دعماً يُقدّر بعشرة ملايين دولار لحركة التمرد. لكن الله قدّر للسودان أبناء بررة، قادوا بلادهم عبر الابتلاءات لا يغيب عنهم هدفهم، مسنودين بوعي الشعب وتراص صفوفهم خلفهم فقادوا مفاوضات النفط ونفذوا نتائجها بصورة متفردة وطريقة غير معهودة حتى ظن مندوبو الشركات الأجنبية إن قدر هؤلاء هو استخراج النفط واستغلاله في صمت جليل وبسرعة مذهلة وبكميات تجارية وبتقنيات عالية ومعدّات متطورة جاء معظمها من أميركا نفسها. وشكلت فاتورة المحروقات كما يقول بعض التقارير عبئاً كبيراً على الاقتصاد السوداني طوال عقود مضت، الأمر الذي جعل كل عائدات الصادرات لا يغطي تلك الفاتورة، وفي عهد "الإنقاذ" شكلت عائدات النفط 60 في المئة من عائدات الصادرات للعام 2000 و40 في المئة من إيرادات موازنة العام الجاري. ونال السودان اخيراً صفة المراقب في منظمة أوبك وهو انتصار جديد للديبلوماسية الاقتصادية والسياسية فيه، وهذا مؤشر جيد الى التحوّل الذي يشهده قطاع النفط ويوفر للسودان وجوداً معتبراً وفاعلاً على المدى القريب في هذه المنظمة العالمية. وامتد اثر النفط الإيجابي على مناطق الإنتاج أولاً، حيث ألزمت الحكومة جميع شركات البترول بضرورة العمل على ترقية الخدمات الاجتماعية في مناطق امتيازها شرطاً أساسياً ولازماً للبدء في العمل. وبالفعل قامت شركة "تاليسمان" الكندية والشركة الماليزية والسودانية وغيرها بكثير من الإنجازات على هذا الصعيد. وقالت "المنظمة العربية لضمان الاستثمار" التي تتخذ من الكويت مقراً لها في تقرير عن أهم التطورات الاقتصادية والاستثمارية في الدول العربية، أن أعلى معدلات النمو المحققة خلال العام 2000 كانت في السودان وبنسبة 8،3 في المئة، وعزت هذا التحسن إلى استمرار ارتفاع أسعار النفط ومواصلة التطبيق الفاعل لبرامج الإصلاح الاقتصادي و إعادة الهيكلة وتزايد إجراءات تحرير التجارة وتحسن الإطار التشريعي والمؤسسي الخاص بالاستثمار، وتعزيز الاستخدام المكثف لأحدث تقنيات الاستثمار لجذب حصة اكبر من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وقد بلغ حجم الأموال الداخلة إلى السودان ما يزيد على خمسة بلايين دولار. والسودان موعود بالتوسع في القطاعين الزراعي والصناعي. ووفقاً لهذا الزمن المتعولم جداً، المسرطن جداً، بيئياً وغذائياً فإن السودان بأرضه البكر ومائه الزلال يمثل الساحة المفقودة لأشقائه العرب في ضمان الغذاء السليم والماء الصافي، إذ تقول التقديرات إن فاتورة الغذاء العربي تكلف سنوياً نحو 20 بليون دولار يدفعها العرب ثمناً للحم مجنون وغذاء مسكون بالحمى والثلج والكيمياء القاتلة. ولما استوى الأمر في السودان، جعلت الأمم من أركان الدنيا تتسابق عليه لنيل حصتها حتى امتلأت فنادق الخرطوم برجال الأعمال ومندوبي الشركات العملاقة، في وقت تضيق فيه فرص الاستثمار في أوروبا وآسيا وأميركا، ويخيم الركود الاقتصادي على مجمل أسواق المال والأعمال. * كاتب وصحافي سوداني.