وجدت مؤسسة المنصورية في عمل الفنان مهدي الجريبي أحد الأمثلة الشابة والجادة بحثاً ونوعية في الفن التشكيلي السعودي. لذلك نظمت معرضاً له في باريس في "المدينة العالمية للفنون" - راغبة في توكيد توسيع الدائرة النشطة للحركة الثقافية السعودية نحو آفاق جديدة ونحو فضاءات لا يمكن إلا ان تولد لقاءات مثمرة. تجمع أعمال الجريبي بين ثلاثة محاور تصب في تقاطع واحد هو: العمل الفني مرآة للذاكرة. في محوره الأول يلجأ الجريبي الى اعادة احياء ذاكرة الآخر باعتماد الأثر الجاهز عملاً فنياً كاملاً. وتكريسه في عرضه. وفي محوره الثاني يخلط آثار الآخرين، أي ذاكرتهم المكتوبة أو المرسومة، في عمله التصويري لتقاسم الماضي والحاضر. وفي محوره الثالث يحرر ذاكرته من خلال تصوير رسم هو أقرب الى سباق للحاق بالذاكرة عندما يسجل حركة الذراع في تخطيطات تصويرية واضحة - غامضة وكأنها ومضات للتذكر والنسيان. يقول الفنان: "اعلم انها مجموعة من الطاولات المدرسية البالية والمهملة يزيد عمر استخدامها عن خمس وعشرين سنة. عندما تأملتها أصبت بحال عصف ذهني. كانت الحياة تنبض بخفوف - انما بوضوح - على الأسطح الخشبية: ألواح تشكل ذاكرة جماعية موثقة لأشخاص كانوا هنا جميعاً، ولم تبق إلا آثارهم. هذه الألواح المعروضة من دون أي تدخل، تكشف حالتها البكر عن هويتها كمثل سجلات تصويرية قديمة حديثة لأصحابها. وتجربة "جدل" تنطلق من التصور الفلسفي لمفهوم - بقاء الأثر - في استحضار الذاكرة الجماعية". يختار الجريبي مكاتب التلاميذ كخلفيات مختارة من الواقع تتميز بعلامات وتضاريس خاصة بها: من بقع وتقشر في الطلاء وخدوش واشارات وخربشات غامضة تبني الطفولة المستعادة كآثار حية من عالم الأمس، عالم النسيان. مع ذلك فإن عمله لا ينتمي الى الفن الجاهز. يتحدث الناقد الفرنسي جان كلود لوغويك - في الكتاب الذي أصدرته مؤسسة المنصورية لمناسبة المعرض - عن صناعة العمل الفني لديه فيقول بأن الرسام يستعمل كل ما يلم به من علم التحويل والتصوير على أرضية لها قصة وتاريخ. فيتحول غياب معرفة أصل الأثر الى حضور معلن لمداخلات الفنان في العمل في صورة دقيقة وظرفية، وبحذر ومهارة في آن واحد، كأن الابداع الذي يستبق الفعل بحد ذاته هو لحظة الإدراك الحسي للأشياء. ويكمن جوهر ابداع الجريبي في قدرته على استرجاع واعادة رسم وتنشيط الاشارات الدالة على آثار الزمن المدموغة على الحيز الطبيعي لطاولات التلاميذ مثلها مثل أجزاء أخرى من الواقع التي تعودنا النظر اليها من دون رؤيتها، وفي تصيد واختيار وعرض هذه الألواح المكتبية يحول الجريبي الألواح الى لوحات وذلك من خلال نظرته الى الأشياء المادية التي تحمل في س فكرة ما أو روحاً ما. وهو فنان عصري يستعمل الأدوات للكشف عن الروح الشمولية المتجسدة في أبسط الأشياء التي ينظر اليها يومياً من دون أن نراها على حقيقتها. يستعير الجريبي من لغة الطفولة براءتها. يستخدم الرق مادة شفافة طيعة قابلة للقص والتثقيب. يصور على سطحها علامات أو حروفاً من كلمات مبهمة ثم يمحوها ويلون في محيطها مستخدماً ألواناً داكنة سوداء ورمادية وترابية كأنها ظلال الأمس الراكضة، كما يبتكر اشكالاً متنوعة من السطوح التصويرية غير المسبوقة ليثير الجدل ما بين المادة والمضمون فيصل الى حقائق جمالية جديدة للنظر. والتقنيات المتنوعة والمختلطة التي يستخدمها الجريبي على الرق والورق والخشب من شأنها ان تعطي المسند التصويري قماشته النابضة بالحياة والايقاعات التناغمية الخفية بكل ما تحمله من تأويلات وظنون وحنين. لا بد من الاعتراف بسحر الموضوع الذي يثيره مهدي الجريبي في الأنفس وما يمتلك من قدرات تشكيلية هائلة وطاقات تفاعلية مع جمهور الناظرين. هؤلاء تعيدهم الذاكرة الى طاولات لمدرسة التي حفروا عليها اسماءهم وكتبوا على سطوحها خواطرهم وملاحظاتهم وخربشوا عليها من غيظهم وشططهم أو ضجرهم. بتلقائية كبيرة يتعاطى الفنان مع مواده وألوانه وتقنياته ببراءة الطفل الذي يلهو، بمعرفة الحاذق الذي يستنبط مكامن الجمال في البساطة المتناهية، وهي بساطة الفن الفقير art - pauvre الذي يريدي فيه الشكل مظهراً طبيعياً يشبه نظيره في الواقع بل كأنه هو لفرط ملامسته له، ذلك المظهر الطبيعي المتقشف الذي يرقى الى الفن الأدنى فيستدعي مزيداً من التأمل والتعاطف. قد يحار المرء ويتساءل أيهما أهم: الموضوع أم المعالجة التي تلقي نظرة انسانية حميمة على مخلفات الماضي لعلها الأكثر هامشية؟ ها هو الناقد الفرنسي جان كلود لوغويك يقول في مقدمته للكتاب الصادر عن الرسام: "تمتلك اعمال الجريبي انظمة بصرية متناسقة تستميل فوراً تعاطف المتلقي الا انها سرعان ما تثير تساؤلات عن احتمالات الدلالات والمصادر...". في هذا المعنى "جدل" تجربة تفاعلية حديثة ولافتة لفنان شاب تقدمه مؤسسة المنصورية كموهبة جديدة تمتاز بالعمل وتستحق الاهتمام.