يستفاد من الأحاديث النبوية الشريفة والأحاديث القدسية أن الصائم في فجر الدعوة الاسلامية كان يتناول في إفطاره ألواناً محدودة من الحلوى، كالتمر والرطب والسويق الممزوج بالعسل والسمن. غير اننا لا نقع في المصادر على ما يفيد أن التحلية كانت طقساً قائماً بذاته، إذ هي جزء من طقوس طعام السحور وطعام الافطار. وقد مضى وقت طويل قبل أن تصبح التحلية طقساً يحتفل به الصائمون، حتى ارتبطت بالشهر الكريم ألوان حلوى رمضانية يندر أن تشيع في الناس في غير رمضان. وبفعل الاحتكاك بالأمم المجاورة، وبحكم اختلاف عادات المجتمعات العربية والاسلامية، في هذا البلد عنها في بلد آخر، كان طبيعياً أن تكون لكل بلد حلواه، وإن شاعت بين الجميع أصناف حلوى تجتمع تحت اسم "الحلوى الشرقية"، ومنها تتفرع الحلوى الرمضانية. وإذا كان الصيام التفاتة من المؤمن الى آخرته، يبدو الإقبال على الحلوى في رمضان التفاتة من المؤمن الى دنياه. والمؤمنون في لبنان ربما بالغوا في الأمر، فنوَّعوا حلواهم، وتناولوها في السحور والافطار، وأكثروا من تناولها في يوم عيد الفطر. ولعلهم يجدون الرخصة في الأمر الإلهي: "كُلوا من طيبات ما رزقناكم"، غير ما يعتقدونه مكافأة حلوة لقاء صبرهم على صوم النهارات الطويلة. وربما كانت المكافأة التفاتة حنان من الأهل الى الأولاد، أو ربما كانت تعويضاً مادياً مباشراً عن سعرات حرارية يفتقدها الصائم. والحلوى الرمضانية تصنع في المنازل، فتتجند لها السيدات والفتيات، كما تصنع في السوق فتباع جاهزة أو تباع مواد أولية. وحلوى رمضان المنزلية تكشف عن خبرات متوارثة. وأما حلوى المحلات فتعبير عن تخصص ومهنة، والفارق في الامكانات، سرعان ما يتقارب شقّاه في رمضان، لأن الأسرة تعدُّ لحلوى رمضان عُدتها من مواد أولية وأدوات ووقت. وأما سوق الحلوى في رمضان فلا تقتصر على المحلات المتخصصة بالحلوى الشرقية، وعلى حلواها المبذولة طوال أيام السنة، إذ فجأة ما تظهر في الأول من رمضان محلات طارئة متخصصة بصنع الكلاج والقطايف، كما تظهر عربات متجولة تعرض حلوى رمضانية هي "المدلوقة"، غير ما يُعرض على الأرصفة من جلاب وسوس وتمر هندي. وربة المنزل اللبنانية بارعة، ترضي حلواها الرمضانية كل الأذواق. ودعك من ربات منازل يختصرن فيشترين حلواهن جاهزة من السوق، فالحديث عن أكثرية. ولكن الطريف ان تنفرد محلات الحلوى بصنع أصناف معينة لا تملك السيدات أدواتها الخاصة، ولا يملكن الوقت الي تحتاجه، ولا أسرار صنعها، إلا من امتلكت كتاباً في الطبخ، وكتب الطبخ كثيرة، تضرب أرقاماً قياسية في مبيعات معارض الكتب. وأشهر الحلوى الرمضانية، في البيت والمحل: زلابية ونمُّورة تعرف أيضاً بالهريسة و"صفوف" وعثملية وقطايف وكنافة وعوّامة ومشبّك وشعيبية وغريبة ومعمول بالجوز أو الفستق الحلبي، وكعك يسميه أهل مصر "الكحك"، غير سمسمية وفستقية واقراص جوز الهند وسنيورة وسحلب ومغلي ومعكرون وكلاج وقشطلية ومفتقة وعيش السرايا. والحلوى الرمضانية تقدم وفقَ برنامج يوميّ، فلكل مائدة حلواها، الى جانب الثابت: الكلاج والقطايف والكنافة. وربما عدَّلت البرنامج حلوى وافدة من الجارات تُردُّ أطباقها بأصناف حلوى مختلفة. وقد تجتمع جارتان أو أكثر، للتعاون على صنع صنف معين من الحلوى، أو تكتفي الجارة باستعارة ما تملكه جارتها من أدوات صنع الحلوى كالقوالب المزخرفة الخاصة بصنع المعمول وغيرها، بذلك يتحول الحيّ في المدينة، أو تتحول القرية الى مهرجان حلوى السعداء الأوائل فيه الأطفال والأولاد، من صام منهم ومن أفطر، ومن اختلس اللقمة والكلاجة والمعمولة في نهاره ثم ادعى صياماً. وتتشكى ربات بيوت لبنانيات من أن مائدة رمضان عموماً لم تعد رمضانية صرفاً، فأصناف الطعام والحلوى "الافرنجية" الوافدة تغزو الموائد، والمطاعم و"خيم رمضان" لا تنفك تجتذب الناس وتجعل من موائد الشهر المبارك وسهراته موائد وسهرات عادية تخدش المشهد التراثي الفولكلوري المتوارث. ولا تكتمل طقوس التحلية الرمضانية إلا بطقس الشراب الرمضاني، مثل "قمر الدين" وهو عبارة عن مشمش يُصنَّع في لبنان وسورية رقائق تشتريها ربة البيت وتنقعها لتقدمها في وجبة السحور على هيئة مربى، وفي وجبة الافطار شراباً. ويختفي قمر الدين من حياة اللبنانيين مباشرة بعد عيد الفطر، حتى أن الرقائق الباقية في برادات المنازل تُهمل ثم تتعفّن فيلقى بها في سلة المهملات، ومن أشهر المشروبات الرمضانية الأخرى: الجلاب الذي ينتشر باعته على الأرصفة، أو يجرون عربات، ومثلهم باعة التمرهندي والسوس... وهؤلاء يروون عطش الصائم ويربحون، فسوقهم رائجة، والسيارات العائدة بأصحابها من أعمالهم تتلبث عند محلات الجلاب لتحمل مؤونة الأسرة اليومية مما تشربه على مائدة الافطار. ومع الجلاب تقدم المكسرات من بندق ولوز وصنوبر وزبيب، وهذه ترفع أسعاره طبعاً. وتشتري ربات المنازل عناصر القطايف من عجين مخبوز وقشطة ولوز وجوز، ثم يجهزنه في المنازل "عصافير بالقشطة"، أو قطايف مقلية، أو صينية قطايف. وأما الكلاج فلا تختلف حاله عن حال القطايف، فهو حلوى رمضانية لا تظهر في لبنان في غير رمضان، وسرعان ما تختفي بعد عيد الفطر مباشرة، وتظل رقائقه الكاسدة معلقة داخل النايلون أشهراً على مداخل المحلات ثم تفسد. ومن حلوى رمضان الخاصة مفروكة ومدلوقة، والمدلوقة عجينة، هي نفسها عجينة الكنافة، تسخَّن على النار، ويضاف اليها السكَّر ثم تترك لتبرد، وبعد ذلك تدعك مع القطر، ثم توضع في الصواني ويضاف اليها الكثير من اللوز والجوز والصنوبر والبندق والكاجو والقشطة. ومن الحلوى الرمضانية "شعيبيات" تُرققُ وتُجعل في هيئة مثلثات محشوة بالقشطة أو المهلبية، ثم تُقلى وتغرَّق في القطر، ويجري صنعها في المنازل، وأكثر مايحصل عليها الصائم من الباعة المتجولين، ثم من المحلات الثابتة. وأما المواد الداخلية في رقائقها فلا تتعدى الطحين والنشاء والسمنة الحموية. ومن طقوس التحلية في رمضان تقديم الحلوى في عيد الفطر في زيارات المعايدة، وإقبال الأطفال والأولاد على أنواع حلوى مختلفة يبيعها الباعة المتجولون في الأسواق و"بحر العيد" و"حرج العيد". وأكثر الحلوى التي تقدم في عيد الفطر لا يرتبط بالتراث إلا من حيث عادات الضيافة المتوارثة. وأما الحلوى ففيها الوافد استيراداً أو طرائق تصنيع، وهي تتمثل في أصناف نقول الشوكولا و"الدربس"، والى جانبها يقدم المعمول على اختلاف حشواته، والكعك المحلَّى والبقلاوية. ولقد غابت أصناف حلوى، وطرأت أصناف، ومما غاب معلل عادي، وتفاح محلى بطبقة من المعلل، وثلج مسحوق يقولب ويضاف اليه محلول حلو ملون. ولكن لا يزال غزل البنات بنوعيه، الأبيض والملون، بغية الصغار، ولا سيما في العيد. وربما كانت أصناف الحلوى هي العيدية التي ينالها الأطفال، وإن كانوا يفضلون عليها العيدية النقدية. نخلص من ذلك الى أنّ طقس التحلية في رمضان مهرجان موسمي، فالحلوى التي يحبها الكبار والصغار هي المشهد الأبرز في رمضان، الشهر الذي يفترض ان يتقشف فيه الناس... ولكن، أَلَمْ يُرخصْ للعباد بأن يأكلوا من طيبات ما رُزقوا؟!