في بروكسيل قال شمعون بيريز خطابه ومشى. غادر القاعة ولم ينتظر تعليقات زملائه الستة والعشرين من وزراء خارجية أوروبيين ومتوسطيين. كانت الحركة دليلاً على درجة الاستخفاف ليس فقط بالعرب الحاضرين وانما اساساً بالأوروبيين، وهي عكست الأهمية التي تمنحها اسرائيل للمثقال الأوروبي في موازين الصراع. مع ذلك، فمن الخطأ القول ان الموقف الأوروبي لم يحقق تطوراً في الاجتماع الأوروبي - المتوسطي الأخير في بروكسيل، فالأوروبيون يقولون ان بيريز غادر القاعة لأنه يعلم ان الجميع ضد مواقف حكومته، وان الضجر الأوروبي من تعنت اسرائيل وصل الى مدى لم يسبق له مثيل. والثابت ان المواقف الأوروبية باتت كلها مع دولة فلسطينية، وهي تنتقد الاغتيالات وأعمال القتل الجماعي للفلسطينيين والاجتياح المتكرر للمدن والقرى الواقعة في مناطق السلطة الفلسطينية. لكن مقدار التطور لا يوازي حجم التضحيات التي قدمها الفلسطينيون على مدى اكثر من ثلاثة عشر شهراً من دون تردد أو كلل، فالمفروض ان لا تكتفي أوروبا بمجرد إهداء العرب بيانات أشد لهجة من البيانات السابقة، وانما أن تذهب الى أبعد من ذلك، فتتوافق في ضوء دروس ما حدث في الحادي عشر من ايلول سبتمبر على سياسة اكثر حزماً وصرامة إزاء اسرائيل، حفاظاً على مصالحها في المنطقة العربية. وليس خافياً اليوم ان كثيراً من العقلاء في الولاياتالمتحدة يقولون ان العرب لا يعادون الحضارة الاميركية بدليل انهم يحلمون بالوصول الى مستواها، وأن شبابهم يحاكي الشباب الاميركي في نمط حياته ولباسه وموسيقاه، لكنهم يشعرون في الوقت نفسه بأنها خصمهم السياسي الأول، بل ويحقدون عليها بسبب تأييدها الأعمى لاسرائيل. كان يُفترض ان يعمل الأوروبيون على تنفيس مشاعر الحنق العربي على مواقفهم بقطع خطوة نوعية تعطي معنى لانخراط العرب معهم في "شراكة استراتيجية" على أساس مبادئ "إعلان برشلونة" الذي ما زال حبراً على ورق في أبعاده الثلاثة السياسي - الأمني والاقتصادي - المالي والثقافي - الاجتماعي. لكن كل الذي فعلوه بعد مراوحة طويلة وأخذ ورد لا ينتهيان هو ادخال اصلاح طفيف على برامج المساعدة المالية لتسريع تحويل الاعتمادات المخصصة لتمويل المشاريع في اطار ما يعرف ببرنامج "ميدا 2" 2000 - 2006. أما على الصعيدين السياسي والاجتماعي فليس هناك حتى الآن مضمون واضح المعالم للشراكة الموعودة. وطالما ان اجتماع بروكسيل الأخير أتى في منتصف الطريق بين المؤتمر الوزاري السابق الفاشل في مرسيليا والمؤتمر المقبل المقرر في الربيع في فالنسيا اسبانيا، فإن هناك فسحة أمام العرب ليقوموا بتحرك جماعي وفعال يحوّل التوافق الأوروبي الحالي على دعم قيام دولة فلسطينية الى انعطاف حقيقي ينقل اعلان النيات الى واقع ويكون نوعاً من التصحيح للوعد البريطاني بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وما من شك بأن الأوروبيين يدركون مركزية القضية الفلسطينية في أي تقدم لمسار برشلونة، بل في علاقاتهم مع العرب عموماً ومن ضمنهم مجلس التعاون الخليجي. ظهر ذلك جلياً في تفجر المؤتمر الوزاري الأوروبي - المتوسطي في فاليتا على أيام نتانياهو وهزال النتائج التي توصل اليها المؤتمر اللاحق في شتوتغارت وانهيار المؤتمر الأخير في مرسيليا على أيام باراك. ومعنى ذلك انه حتى لو استكملت المفاوضات على اتفاقات الشراكة مع البلدان العربية التي ما زالت تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي لن يتقدم المسار في اتجاه اقامة نظام اقليمي سياسي وأمني واقتصادي طالما لم توضع القضية الفلسطينية على سكة الحل العادل والشامل. وعليه فما لم يقطع الأوروبيون خطوات عملية نحو الاعتراف بالكيان الفلسطيني والتعاطي معه بوصفه دولة ذات سيادة، فإنهم لن يفرضوا على اسرائيل ان تقيم لهم وزناً وتقر بدورهم في تسوية الصراع، وسيبقون على هامش الدور الاميركي الى ما لا نهاية.