يطرح مشروع ميثاق الأمن والاستقرار في المتوسط أسئلة كثيرة حول مدلول الأمن الذي يعنيه الميثاق. هل هو أمن المدن الأوروبية المشاطئة للمتوسط والتي توحي تحاليل غير رسمية بأنها "على مرمى صاروخ" من الضفاف الجنوبية للمتوسط؟ أم ان الأمن المقصود هو حماية أوروبا من خطر "الإرهاب" الآتي دائماً من الجنوب حتى إن ترعرع في أحزمة المدن الأوروبية؟ وهل هو أمن الدولة العبرية المهددة من جيرانها العرب؟ أم هو أمن البلدان العربية التي تتعرض لاعتداءات الجيش الاسرائيلي ليس في الأراضي الفلسطينية ولبنان وحسب وانما في جميع المناطق التي تطالها الذراع الاسرائيلية الطويلة بما فيها المغرب العربي؟ وهل أن الأمن المقصود هو أمن جماعي اقليمي تتداخل فيه المصالح الأوروبية والعربية، أم أن الأمن القومي لكل طرف يتنافى مع المصالح الاستراتيجية للطرف الآخر؟ تسعى البلدان المعنية بالميثاق الذي سيطلق عليه "الميثاق الأوروبي المتوسطي للسلام والاستقرار" الى الاقتباس من تجربة مؤتمر هلسنكي الأوروبي الذي صاغ "معاهدة الأمن والتعاون في أوروبا" المعروفة. الا ان الأوضاع الدولية التي عقد في سياقها المؤتمر وولد من رحمها الميثاق تغيرت جذرياً بعد نهاية الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفياتي السابق، فلم يعد الشعار المطروح على ضفتي المتوسط هو اخراج الأساطيل "الغريبة" الأميركية والسوفياتية من المتوسط، ربما لأن بعض "غرباء" الأمس صار صديقاً وحليفاً فيما استمر البعض الآخر على غربته، وانما بات هناك شعور أوروبي طاغ بأن وجود "خطر" جديد آت من البلدان الاسلامية حل محل الخطر السوفياتي. والأهم من ذلك ان ميثاق الأمن والتعاون الأوروبي لم يحقق الأمن ولم يكرس التعاون، فلا الألماني بات يحب الصربي ولا البوسني صار يثق بالبريطاني، بل هو لم يستطع حتى منع نشوب الحروب في القارة. ويمكن القول انه وضع في الأدراج بمجرد ان جف حبره فلم يتذكره أحد لدى اندلاع الصراع في البوسنة ولا بعدما امتدت ألسنة اللهب الى منطقة البلقان بأكملها. فما الفائدة اذن من وضع ميثاق جديد اذا بقي مثل سلفه الأوروبي حبراً على ورق؟ الأرجح ان العوائق التي حالت دون ان يكون مشروع الميثاق المتوسطي للسلام والاستقرار جاهزاً للمناقشة في المؤتمر الوزاري الأوروبي - المتوسطي الأخير في شتوتغارت ستحول دون ان يكون حقق اجماعاً حوله في المؤتمر الوزاري المقبل. والثابت أن أي معاهدة للأمن والاستقرار في المتوسط ينبغي ان تجابه مشكلة الترسانة النووية الاسرائيلية التي تشكل أكبر تهديد للأمن في المنطقة. فلا يمكن للبلدان العربية المتوسطية ان توقع على الميثاق اذا لم يوضع حد فعلي لهذا الخطر. واستطراداً يصعب بناء الاستقرار والسلام في المتوسط ما لم يوجد حل دائم للصراع العربي - الاسرائيلي، بدليل ان أي انتكاسة يتعرض لها مسار التسوية السلمية للصراع تلقي في صورة آلية ظلالها القاتمة على المسار الأوروبي - المتوسطي الى حدٍ يشل قطار الشراكة مثلما حصل في مؤتمر مالطا العام قبل الماضي. وعليه فإن محاولات فصل المسارين لن تكون مفيدة لأنها لن تتيح لمسار برشلونة ان يتقدم بعيداً، طالما ظلت أجواء التوتر والصراع تخيم على المنطقة بفعل العدوانية الاسرائيلية ومخاتلة حكوماتها المتعاقبة التي تسعى لإنهاك المفاوض العربي وكسب مزيد من الوقت و... التنازلات. من حق الأوروبيين ان يستعجلوا وضع قطار الشراكة المتوسطية على السكة، وربما من صالح العرب ايضاً أن لا يضيعوا المكاسب التي سيجنونها من الشراكة خصوصاً إذا دخلوها متحدين، إلا أن ذلك لن يكون سوى بناء جزئي لأن مصير الأمن والاستقرار في المتوسط يتوقف على مصير السلام بين العرب واسرائيل.