Bino Olivi. L'Europe Difficile. أوروبا الصعبة. Folio, Paris. 2001. 910 Pages. في مطلع العام المقبل سيكون بدأ العمل بنظام اليورو، العملة الأوروبية الموحدة، في أحد عشر بلداً أوروبياً. أربعة بلدان فقط من مجموعة البلدان الخمسة عشر الداخلة في مشروع الاتحاد النقدي الأوروبي لن تأخذ، بصورة مرحلية على الأقل، بنظام اليورو: بريطانيا والسويد والدانمرك، بالإضافة إلى اليونان التي كانت طلبت الانضمام إلى منطقة اليورو، لكنها استُبعدت بقرار من سائر الأعضاء بحجة أنها لم تستوف بعد الشروط الاقتصادية والمالية لذلك الانضمام. منطقة اليورو ستشمل مجموعة بشرية يناهز تعدادها 300 مليون نسمة ويصل اجمالي ناتجها القومي إلى أكثر من 6350 بليون دولار في السنة. وقد يكون هذا الرقم الأخير هو بحد ذاته مؤشراً على الصعوبات التي تواجهها منطقة اليورو في مرحلة انطلاقتها الأولى. فلئن كانت لا تزال تعتمد الدولار الأميركي معياراً لتكميم ناتجها القومي، فلأن محاولتها اعتماد اليورو الأوروبي باءت بالفشل، أو بالأحرى بالخسارة. فمنذ اطلق اليورو كمحض عملة حسابية في 1 كانون الثاني يناير 1999 خسر 25 في المئة من قيمته في مواجهة الدولار. فبعد أن كان يساوي 15.1 دولار يوم اطلاقه، بات لا يساوي اليوم سوى 90.0 دولار. وعلى رغم أن هذا الانخفاض في قيمة اليورو انعكس اثره ايجاباً على تطور الصادرات الأوروبية، إلا أن أثره النفسي كان سلبياً خالصاً. فاليورو يبدو وكأنه لا يحظى بقدر كبير من الثقة لا من قبل المواطنين الأوروبيين الذين تشير جميع الاستبارات إلى أنه لا يزال يمثل في نظرهم عملة رمزية لا مأخذ لها على الحياة الاقتصادية اليومية، ولا من قبل أوساط العاملين في الأسواق المالية العالمية الذين تشير الأرقام إلى ميلهم الجماعي إلى التخلص من اليورو ككتلة نقدية على المدى الطويل: فقد قدر الحجم الاجمالي للأموال الخارجة من منطقة اليورو إلى منطقة الدولار بنحو 220 بليون دولار في السنة. بديهي أن مغامرة اليورو لم تكتمل فصولاً بعد. فهذه العملة "الذهنية" ستأخذ طريقها إلى التفعيل خلال بضعة أسابيع، وليس في مستطاع أحد أن يتنبأ من الآن بما سيكون أثر هذا التفعيل على قيمة اليورو، وإن تكن الأوساط الأوروبية الرسمية والسياسية والاقتصادية - لا سيما أوساط البنك المركزي الأوروبي - مصرة على التفاؤل. والواقع أنه حتى بعد التفعيل سيظل اليورو يمثل عملة غريبة، بل شاذة، في نوعها. فهو سيكون العملة الموحدة لاتحاد من الدول لم تقم قائمته بعد. فما أسماه المستشار الألماني غيرهارد شرودر ب"الولاياتالمتحدة الأوروبية"، وما أسماه رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان ب"اتحاد الدول الأوروبية"، لا يزال هو نفسه أقرب إلى الفَرْض الذهني Virtuel منه إلى الواقع الفعلي. وتلك هي أصلاً المفارقة الكبيرة في مشروع الاتحاد الأوروبي: فهذا الاتحاد سيملك ابتداء من مطلع العام 2002 أداة نقدية موحدة، ولكن من دون أن يكون قد حبا نفسه بدستور موحد. والحال أن الدول تقوم بدساتيرها قبل عملاتها. ولئن قدمت المجموعة الأوروبية العملة على الدستور في المسيرة الاتحادية الأوروبية، فإن ذلك قد لا يكون مرده إلى آمر العقلانية الاقتصادية وحده. فالدستور مسألة تتعلق لا بالسياسة وحدها، بل كذلك بالثقافة والهوية. ومن منظور الهوية تحديداً، فإن ما تحتاجه أوروبا ليس فقط أن تتحد، بل كذلك أن تتأورب. وعملية أوربة أوروبا نقول هنا "أوربة" على وزن "عولمة"، هي بلا أدنى شك أكثر تعقيداً وأصعب منالاً من "فدرلة" أوروبا، وتنهض دونما عقبات من طبيعة جيوبوليتيكية وثقافية ولغوية ودينية معاً، ومن دون ادعاء حصر هذه العقبات - وهي العقبات التي تبرر عنوان هذا الكتاب عن "أوروبا الصعبة" - فإنه يمكن التمثيل عليها بأربع: 1- الخصوصية البريطانية. فالوضعية الجزيرية لبريطانيا قد اضطرت المؤرخين والجغرافيين إلى تمييزها منذ وقت مبكر عن سائر القارة الأوروبية باصطناع تعبير "البر الأوروبي" الذي يشير إلى جملة القارة باستثناء الجزيرة البريطانية. ومنذ اكتشاف القارة الأميركية والدور الكبير الذي لعبه المهاجرون الانكليز في تركيبتها الديموغرافية، وبريطانيا تبدو مترددة ومتوزعة بين هويتها الأطلسية وهويتها الأوروبية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون تشرشل قد سبق "الآباء المؤسسين" الأوروبيين - من أمثال روبير شومان وجان مونيه وكونراد اديناور وألسيد دي غاسبري - إلى طرح شعار "الولاياتالمتحدة الأوروبية"، ولكن مع التنصيص على أن المملكة المتحدة البريطانية ليست ملزمة بالانتماء إلى هذا الكيان الاتحادي. ولقد تلكأت بريطانيا كثيراً حتى تنضم إلى اتفاقية الوحدة الأوروبية، وانتظرت حتى 1961 لتتقدم بطلب أولي للانضمام إلى "الأسرة الاقتصادية الأوروبية"، حيث قوبل طلبها بمعارضة رسمية من قبل الجنرال ديغول الذي أدلى في 1963 بتصريح مشهور جاء فيه ان بريطانيا ليست مهيأة بعد للانضمام إلى الأسرة الاقتصادية الأوروبية. وحتى بعد قبول بريطانيا إلى جانب ايرلندا والدانمرك في عضوية الأسرة الاقتصادية الأوروبية عام 1973، رفضت الدخول في "النظام النقدي الأوروبي"، وأرجأت بالتالي إلى أجل غير مسمى دخولها إلى "منطقة اليورو" ونظام شنغن. 2- السياسة الدفاعية. فما ينطبق على بريطانيا من وجهة النظر الجيوبوليتكية ينطبق على القارة الأوروبية بجملتها من منظور السياسة الدفاعية. فأوروبا لم تفلح بعد في أوربة دفاعها، وما زالت في سياستها الدفاعية أطلسية أكثر منها أوروبية، باعتبار أن قاسمها المشترك الوحيد على الصعيد الدفاعي كان - ولا يزال - الحلف الأطلسي الذي ما فتئ منذ 1949 يوفر لها الحماية الاستراتيجية تحت المظلة الأميركية. وعلى رغم أن حلف شمال الأطلسي وجد أساساً ليحمي أوروبا مما سمي في حينه بالخطر الأحمر، فإن سقوط المعسكر السوفياتي عام 1991 لم يتأد إلى خلخلة الحلف الأطلسي، بل على العكس إلى توسيعه وإعادة توجيهه بانضمام بعض دول أوروبا الوسطى والشرقية إليه. وظهر عجز أوروبا عن تطوير مبادرة دفاعية مشتركة واضحاً في أثناء حرب البلقان الأخيرة، حيث ما استطاعت أوروبا أن تتدخل في اقليم كوسوفو - وهو في نقطة الوسط المركزي من القارة الأوروبية - إلا بعد أن تولت المبادرة إلى ذلك الولاياتالمتحدة. والواقع أن الروزنامة الدفاعية لأوروبا المتحدة تبدو متأخرة كثيراً عن روزنامتها الاقتصادية: فعلى حين أن اليورو سيدخل نطاق التداول الفعلي ابتداء من مطلع العام 2002، فإن تشكيل فيلق أوروبي مشترك من 60 ألف رجل سينتظر منتصف العام 2003 كيما يأخذ طريقه إلى بداية التنفيذ الفعلي. 3- التمامية الأوروبية. فعندما وقّعت في 1957 معاهدة روما التي قضت بانشاء الأسرة الاقتصادية الأوروبية تم تحديد معيار الانتماء على النحو التالي: "ان في وسع كل دولة أوروبية أن تصبح عضواً في هذه الأسرة". والحال ان هذا البند نفسه لم يحدد ما المقصود بصفة "أوروبية". فحتى بداية التسعينات كانت هذه الصفة تقتصر عملياً على مجموعة الدول التي تنتمي إلى "أوروبا الغربية"، حصراً خلا استئناء واحداً: اليونان. وهذا الاستثناء له أهميته، فاليونان هي الدولة الاورثوذكسية الوحيدة في عداد دول أوروبا الغربية التي تنتمي جميعها إلى الجناح الكاثوليكي والبروتستانتي من المسيحية. وإذا كان الاتحاد الأوروبي مرشحاً للتوسع من 15 دولة حالياً إلى 27 دولة مستقبلاً، فإن أكثرية الوافدين الجدد ستكون منتمية إلى ذلك الجناح الاورثوذكسي الذي طالما استُبعد، منذ انقسام المسيحية ما بين روما وبيزنطة، من دائرة "الحضارة الأوروبية الغربية". والواقع أن الحدود الاورثوذكسية للهوية الأوروبية لا يزال يكتنفها غموض شديد: فإن تكن دول مسكونة بغالبية اورثوذكسية مثل بلغاريا ومقدونيا وقبرص قد اختارت الدخول بملء ارادتها في المدار الأوروبي، فإن مركز الثقل في الجناح الاورثوذكسي من أوروبا، الذي تمثله روسيا وأوكرانيا، لا يزال مستبعداً، بإرادته كما بإرادة سائر الأشقاء الأوروبيين، من روزنامة الاتحاد. 4- المعيار الاقتصادي. فمشروع الاتحاد الأوروبي لا يزال إلى حد كبير مشروعاً اقتصادياً. ولا غرو بالتالي أن يجد رمزيته الأولى في "اليورو". لكن التحدي الكبير الذي تواجهه روزنامة الاتحاد يتمثل في عدم تماثل المعايير الاقتصادية ما بين الجناح الغربي والجناح الشرقي من أوروبا الطالبة للاتحاد. ففي معظم دول أوروبا الغربية المؤسسة للاتحاد الأوروبي يزيد مستوى الدخل السنوي للفرد على 20 ألف دولار خلا اسبانيا والبرتغال، لكنه ينخفض في جميع الدول المرشحة للانضمام في أوروبا الوسطى إلى 10 آلاف دولار، وفي أوروبا البطيقية إلى 7 آلاف دولار، وفي أوروبا البلقانية خلا سلوفينيا إلى 5 أو 4 آلاف دولار. وهذا الخلل في التوازن الاقتصادي ينهض عقبة كأداء أمام اندماج أوروبي فعلي، لا سيما أنه يترافق مع التهديد بحركة هجرة مكثفة للعمالة من بلدان المحيط الأوروبي المنخفضة في مستوى الحياة إلى بلدان المركز المرتفعة في مستوى الحياة.