هزَّ مشاعري، شأن سائر الناس، ما أعلن الاسبوع الماضي عن تمزق أجساد خمسة تلاميذ فلسطينيين من غزة، إرباً إرباً، بفعل جهاز مفخخ، وضعته على طريق التلاميذ الى المدرسة! هذا العمل هو، بالتعريف، عمل ارهابي! هل طالب أحد حتى الآن بأن يلقى القبض على مرتكبي هذا العمل الشرير "احياء أو أمواتاً". هل أعلن أي زعيم عربي ان على العالم المتحضر ان يحدد موقفه "اما معنا أو ضدنا" في مواجهة ارهاب اسرائيل ضد الفلسطينيين، ام ان التلاميذ الخمسة سيضافون، وبصمت كامل، الى قائمة جرائم شارون الطويلة؟ لقد رفض الرئيس جورج بوش ان يلتقي بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بل انه رفض ان يصافحه في أروقة الأممالمتحدة، ولكن الاستعدادات تجري على قدم وساق لاستقبال شارون، رئيس وزراء اسرائيل، في البيت الأبيض. فهل هناك دليل أكثر وضوحاً على الانحياز الأميركي لاسرائيل؟ سيكتشف العرب قريباً جداً ان مهمة المبعوثين الأميركيين الى الشرق الأوسط، انطوني زيني الجنرال السابق في البحرية الأميركية، ووليام برنز مساعد وزير الخارجية الأميركي، محدودة جداً: انها لن تتجاوز - استنتاجاً من أقوال الرئيس بوش، ووزير خارجيته كولن باول - المفاوضة على وقف اطلاق النار، بهدف الامساك بالعرب داخل التحالف الأميركي ضد الارهاب، لا بهدف التوصل الى تسوية للاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وهذه مهمة لا تبشر بالنجاح! كان ينبغي ان تكون المهمة الجوهرية للمبعوثين الأميركيين هي وقف حرب شارون ضد الشعب الفلسطيني، والمطالبة باجراء مفاوضات على أساس ما تم انجازه في الأسابيع الأخيرة من رئاسة كلينتون. ان العنف الاسرائيلي - مثل اغتيال أحد قادة حماس محمود ابو هنود، والتدمير "الروتيني" للمنازل والحقول الفلسطينية، والحصار المستمر للشعب الفلسطيني - هو الذي يوّلد العنف الفلسطيني، كما حدث هذا الاسبوع عند اصابة بعض الاسرائيليين في العفولة شمال اسرائيل، وفي قطاع غزة. ان هذه المجازر الثأرية تظهر افلاس سياسة شارون الأمنية، كما تؤكد الحاجة الماسة الى ان تفرض الولاياتالمتحدة حلها وتسويتها. ولكن، يا للأسف، هذا طموح لا يمكن ان يحصل عليه العرب من الادارة الأميركية الحالية، المستغرقة كلياً في حربها ضد الارهاب؟ هل ينبغي محاكمة شارون؟ وضع الصحافي الاسرائيلي أمنون كابليوك، في عدد تشرين الثاني نوفمبر من صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" قائمة مفصلة بجرائم ارييل شارون الملطخة بالدماء، ووفقاً لهذه القائمة فقد أقدم شارون على نسف 45 منزلاً بسكانها الآمنين، في قرية قبية في الضفة الغربية في اوائل الخمسينات. واغار في شباط فبراير 1955 على معسكر مصري في غزة فتسبب في مقتل 38 جندياً، مما دفع بالزعيم عبدالناصر الى الارتماء في أحضان السوفيات. واستتبع جريمته هذه في شهر كانون الأول ديسمبر بغارة دموية على موقع سوري بالقرب من بحيرة طبريا، تسبب في مقتل 65 سورياً. وفي أوائل 1970 قتل مئات من الفلسطينيين في غزة وطرد آلاف البدو من رفح، بعدما أشعل النار في خيامهم، وختم بالشمع الأحمر ينابيع المياه في أرضهم. وفي عام 1982 دمر مستوطنة ياميت ليظهر حقده الأعمى واستنكاره لقرار اسرائيل الانسحاب من سيناء. ثم بدأ غزوه للبنان في حزيران 1982، وقصفه لبيروت بالمدفعية الثقيلة، مما تسبب في مقتل 15000 مدني لبناني وفلسطيني، وجرح عدد لا يمكن احصاؤه، وبعد شهر واحد أشرف شخصياً على مذبحة نكراء في صبرا وشاتيلا، فتسبب في ذبح ألف فلسطيني - معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ - وهذه جريمة قد يحاكم عليها في بلجيكا، إذا نجحت مساعي المحامي اللبناني شبلي الملاط. وهناك ما لا يقل عن 700 فلسطيني قتلوا، هذا العام، في الأراضي المحتلة، كما جرح الآلاف، ناهيك عن التشريد والطرد والحرق. هذا هو القاتل الذي يتجرأ ويتحدث عن الارهاب الفلسطيني. لقد بدأت هذا الاسبوع في فرنسا محاكمة الجنرال اوساريس الذي كان يرأس الوحدات الخاصة الفرنسية في الجزائر. انه متهم بقتل وتعذيب آلاف الأسرى الجزائريين خلال عامي 1955 - 1957، ابان حرب فرنسا الاستعمارية ضد جبهة التحرير الجزائرية. وقد برر الجنرال اوساريس أعماله، في كتاب حديث على أساس "ان اجراءات الأمن التي تتخذ في الوقت المناسب يمكن أن تنقذ آلاف الناس". ويتهمه قضاته بأنه "يقدم جرائم الحرب تحت نور كاشف ايجابي". والمثير في هذا الكتاب هو الاعتراف "بأنه إذا رفض أحد المتهمين الاعتراف تحت التعذيب، فينبغي قتله. وإذا اعترف فلا بد من تنفيذ حكم الاعدام فيه. واذا ثبت أن له علاقة ولو غامضة وغير مؤكدة بالنشاطات المعادية لفرنسا، فلا بد من اطلاق الرصاص عليه لتجنب الاشكالات القانونية". باختصار، هذه صفحة سوداء في تاريخ الاستعمار الفرنسي يتوجب على الفرنسيين أن يتخلصوا منها. ان شارون، هو الآخر، يخوض حرباً استعمارية مشابهة. انه يبرر الاختطاف والتعذيب، وقتل الناشطين الفلسطينيين متذرعاً بأن "ما يفعله هو ضروري لحماية المواطنين الاسرائيليين" وقد مرت جرائمه كلها حتى الآن بدون عقاب. وما يثير الدهشة بل والحيرة هو هذا الصمت العربي المطبق. هناك اعتراضات، في أحسن الأحوال، يدلي بها بعض الرسميين العرب "على ما يجري في فلسطين" ولكنها اعتراضات ضعيفة، ولا ترقى الى مستوى التنسيق المتكامل. تهديد العراق وهناك صمت عربي مطبق أيضاً حول قضيتين في غاية الأهمية على رغم انهما يتهددان العالم العربي بأفدح العواقب. القضية الأولى هي النقاش الحاد الدائر حالياً في الادارات الرسمية الأميركية في واشنطن، وفي اجهزة الاعلام حول "النظام العربي المرشح للتدمير بعد الفراغ من حرب افغانستان". الملاحظ ان "عراق صدام حسين" هو النظام المفضل الذي يحظى بنقمة هذه الدوائر، ان لم يكن هو "النظام الوحيد"! يحرض ريتشارد بيرل، رئيس "مجلس السياسة الدفاعية للولايات المتحدة" - للمجلس نفوذ واسع، وله تأثير مباشر في دونالد رمسفيلد وزير الدفاع الأميركي - على القيام بهجوم اميركي خاطف على العراق وايران وسورية ولبنان والسودان واليمن والصومال، كما انه يطالب بمعالجة موضوع "حماس، وحزب الله" بمنتهى الصرامة، مكرراً: "هذه المنظمات هي اعضاء في ذات الكونفيديرالية الارهابية كتنظيم القاعدة تماماً". وفي حديث أدلى به الى صحيفة فرنسية هذا الاسبوع، أظهر بيرل هذا اغتباطه لأن "مذهب بوش لا يميز بين الارهابيين والدول التي ترعى أو تساند الارهاب". وهو يقول بكل صرامة: "على الولاياتالمتحدة، حالما تفرغ من تدمير طالبان والقاعدة، ان تدمر بقية الأنظمة التي تساند الارهاب". ومما يجعل الأمور أكثر خطورة ان بيرل هذا ليس وحده في الدعوة الى الأخذ بهذا المنطق الهجومي. هناك رسميون، في مناصب رفيعة يحرضون في ذات الاتجاه، ويؤكدون بأن "الدبابات وحدها قادرة على أن تخلصنا من هذه الأنظمة الارهابية" مثل العراق، وأنظمة أخرى! هل احتج الملوك والرؤساء العرب، لدى البيت الأبيض على هذه الدعوة الصريحة السافرة للقتل؟ هل استدعى وزير خارجية بلد عربي ما السفير الأميركي ليفسر له ما المقصود بهذه الأقوال، هل وجهت الجامعة العربية أي احتجاج؟ هل رفعت القضية الى مجلس الأمن؟ القضية الثانية التي تلفت النظر، من الأسابيع الأجهزة، هي ارتفاع حدة الهجوم في وسائل الاعلام الأميركية ضد نظامي مصر والسعودية. يوصف النظامان بأنهما فاسدان لا ديموقراطيان بل يقال ان مجتمعيهما "فاشلان". ويشار اي ان الصحف والجامعات والسلطة الدينية في هذين البلدين "تؤكد الكراهية وعدم التسامح والتطرف اللاسامية". واسمحوا لي ان استشهد بمثال واحد ضمن امثلة كثيرة متوفرة بغزارة مارتن انديك، وهو من الناشطين في اللوبي المناصر لاسرائيل والذي تمكن من ان يصل الى مرتبة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، ثم الى مرتبة سفير الولاياتالمتحدة في اسرائيل، وكان من ابرز اعضاء "طاقم السلام" الذي شكله الرئيس كلينتون. لقد نشر انديك هذا مقالاً في "الواشنطن بوست" هذا الاسبوع طالب فيه الولاياتالمتحدة "باجتثاث بذور الارهاب في المجتمعات العربية!". واستمعوا الى حجته في هذه المطالبة: "ان النظامين في مصر والعربية السعودية، بسبب مقاومتهما للاصلاح، ولجوئهما الى التحريض المباشر، يجعلان من الارهاب ضد اسرائيل مطلباً شرعياً". وبكلمات أخرى: "اسرائيل هي الضحية الحقيقية للارهاب لا الفلسطينيون!" يقول: "ينتظر منا ان نستضيف ياسر عرفات في البيت الأبيض، ولكن متى سيتلقى شارون دعوة لزيارة الأمير عبدالله، ولي عهد المملكة العربية السعودية في قصره؟". ولا تقل خطورة الانتقادات المباشرة الموجهة الى العرب بعد هجوم 11 أيلول والتي تزعم ان الهجوم الارهابي على الولاياتالمتحدة والمقاومة الفلسطينية المستمرة للاحتلال الاسرائيلي هما من نواتج مجتمعات عربية واسلامية "مريضة". وعلى هذا فإن "سياسة اميركا في الشرق الأوسط، والعنف الاسرائيلي ضد الفلسطينيين ليسا مسؤولين، وبأي شكل من الاشكال، عن ظاهرة الارهاب". لم اسمع برفض عربي واضح لهذا الآراء والمواقف، ولم يكن هناك - على ما أعلم - أي رد فعل منسّق يفسر هجوم 11 ايلول. ولم يصدر اي بيان مشترك حول هذا الموضوع الخطير. وعلى ما اعلم، لم تجر محاولة جادة واحدة للرد على انديك واظهار ما يتضمنه تحليله للواقع العربي من اخطاء وسوء فهم. لم تنطلق أية حملة اعلامية عربية لمواجهة هذا الفيض من الانتقادات، والاتهامات الجارحة الموجهة ضد العرب. كل ما في الأمر، ان بعض الاعلانات المدفوعة ظهر في الصحف الأميركية ليتحدث عن بالغ الحزن الذي شعر به العرب، وعن مشاركتهم الشعب الأميركي في مأساته ولم ينس بعض هذه الاعلانات الاشادة بهذا القائد العربي أو ذاك. ما تفسير هذه السلبية؟ هل هي صدى للانقسام والتجزئة العربية؟ هل هي نتيجة لاحتضار التضامن العربي بعد حرب الخليج 1991 أو لوفاة الجمهورية العربية المتحدة بعدما علق عليها العرب آمالاً كبيرة عام 1961. ام ان العرب، على رغم ثرواتهم وعقولهم، والأراضي الشاسعة التي يوجدون عليها، ومواهبهم المتنوعة والواعدة، فقدوا استقلاليتهم وما عادوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.