"برباس" الحي الباريس المغاربي عموماً والجزائري خصوصاً، يزداد طرافة و"تراجيكوميدية" غير مسبوقة في شهر رمضان المبارك. وإذا كانت هذه الحقيقة تشكل جوهر هويته الحضارية التي "تجند" رجال الأمن الفرنسيين على مدار السنة... فإن رمضان هذه السنة غيَّر الى حد ما من المشهدية التقليدية التي ضمنت شهرة شعبية لهذا الحي الذي يؤرخ لهجرة جزائرية تبعث على الأسى والسعادة في آن واحد. يعتبر الجزائريون ان انتقالهم اليومي الى حيهم "العزيز" ضرورة لضمان توازنهم النفسي على حد تعبير الشاب ندير الهواري "عباس" الوهراني الأصل. وإذا كان تجار الحي وزبائنه وسكانه تعودوا منذ مطلع التسعينات على الأخبار المأسوية الآتية من البلاد الجريحة، فإن نكبة أبناء باب الواد المدينة الشهيدة أطاحت بما بقي من رصيد المعنويات الضرورية في ديار الغربة. لا يحتاج المتجول في الشوارع الرئيسة المعروفة في "برباس" الى طرح الأسئلة التي تفرض نفسها في سياق النكبة التي عمقت مأساة الجزائر. فقراءة سريعة في وجوه المارة وفي أحاديث التجار تكفي للوقوف على حجم التأثر والتواصل النفسيين. وخلافاً للأعوام الماضية "لم يعد من الممكن هذه السنة تبادل التعليقات الساخرة التي كانت تعبر عن سعادة هذا التاجر أو ذاك، وكثيرة هي المرات التي سمعنا فيها كلمات وصيغ التألم الذي يعصر قلوب المهاجرين المترددين على "برباس"، ولعل أبرز العبارات التي جاءت على ألسنة الكثر منهم "واش ابقى... كلش صْمَاط ورمضان ما بْقَالوا بنة... ربي يرحم اللي ماتوا ويعطي امالهم الصبر". الألم الذي طبع على وجوه المهاجرين الجزائريين من دون استثناء لم يمنع الكثر منهم من ابداء استنكارهم لموقفي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهم يعتقدون ان المكتوب أو القدر لا يفسر وحده المأساة الوطنية. فضحاياها هم أيضاً شهداء الإهمال الذي ما زال يميز سلوك المسؤولين بحسب محمد، الذي تحدث الينا وهو يشتري الزلابية "المكتوب لا يتناقض مع تحديد مسؤولية الدولة، وليس من الكفر الاعتراف علمياً بقوانين الطبيعة والإيمان بالله، ولكن من المخزي ان يقول رئيس الجمهورية ان الذي لا يؤمن بأن الكارثة مُقَدرة ليس منا... للأسف هذا الكلام ليس جديداً وهو يمثل ذروة الديماغوجية". مراد وعلي وحبيبة وآخرون من الذين تجمعوا حولنا أجمعوا على أنه كان يمكن تفادي الخسائر البشرية والمادية التي سُجلت لو كانت مجاري تصريف المياه على أحسن حال، والشيء نفسه يطبق على المساكن الفوضوية المتهالكة ناهيك عن بدائية الامكانات التقنية التي وفرت للحد من الخسائر. وكما ركز الذين تحدثوا دون تقديم أنفسهم عن مسؤولية السلطات المحلية... أجمع آخرون على تضامن الشعب ومشاركته في كل ما يملك لانقاذ الضحايا، ولولا تجنده لكانت النكبة أكبر. وما زاد في نقمة هؤلاء "المعالجة التلفزيونية المخجلة والباعثة على الأسى بدورها، انها معالجة "اليتيمة" التي اكتفت بخطاب المواساة والانتقاء الإعلامي الفاضح والتضامن الوطني من دون أن تلتفت الى أسباب الكارثة فاسحة المجال، كالعادة، للقنوات الفرنسية وهذا لعمري كارثة أخطر" على حد تعبير أحد المهاجرين. المأساة الوطنية لم تغير شيئاً من "الحتمية" التجارية التي يرفضها "بزنس" الشهر. والتجارة الرمضانية الرائجة خلال هذه الأيام هي تجارة الزلابية وقلب اللوز والبقلاوة والقطايف. ويتنافس بائعو هذه الحلويات في شهر رمضان بضراوة وشراسة غير معهودتين! وفي الوقت الذي يكرس فيه عدد كبير من المهاجرين الأيام المباركة للعبادة والتوبة في المساجد وفي البيوت... ينتهز البعض الآخر عظمة رمضان لتكريس "عظمة" الجيب فيزيد اعمال الحلويات وبخاصة قلب اللوز سيدها وملكها الذي لا ينازع. وتلفت أنظار الزائرين لوحات اعلانية يؤكد أصحابها ان زلابيتهم من بوفاريك. وبحسب أحد باعتها المعروفين بنشاطه السنوي، فإن جودتها لا تقبل الطعن وهي مصنوعة وفق الأصول المعروفة. ويقول أحد الباعة ان بعض المهاجرين ينتظرون شهر رمضان على أحر من الجمر للتعاون عائلياً على تجارة الحلويات مع التحاق أفراد آخرين من الجزائر للاسهام في الصنع والبيع. وفي موازاة السباق المحموم بين تجار الحلويات المذكورة... يتنافس عدد غير قليل من المتسولين في شكل لافت. الملاحظ والمدهش في هذه النوعية من المهاجرين تمتعهم بحس ماركنتلي كبير. وينم تكتيك المتسولين عن منهجية جهنمية على طريقتهم الأصيلة غير المنافية للحلال كما يقول الجميع. يكتشف المندس بين المهاجرين المنتشرين في "برباس" ان معظم المتسولين يجلسون أمام محلات تعرف ازدحاماً كبيراً ويتموضع كل متسول على بعد مسافة تحول من دون حدوث منافسة غير شريفة، والشيء نفسه ينطبق على المتسولين الجوالين الذين يبتعدون قدر الإمكان عن أمكنة متسولين جوالين آخرين من باب احترام السيادة الجغرافية المكتسبة! ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، يسعد تجار قلب اللوز والزلابية والمعدنوس والكتب الدينية الصفر والمصاحف المتنوعة اللغات والاحجام بالاقبال المنقطع النظير. ويطال الأسى التجار غير المتخصصين في شؤون المعدة ومستلزمات السهرات الرمضانية. ومن هؤلاء باعة الاثاث والملابس والحلاقين، ومنهم ذلك الحلاق الذي وضع يده على خده وراح يتأمل، شارد الفكر، حماسة تجار جدد اكتسحوا حي "برباس" خلال الأعوام الأخيرة. انهم تجار المسمن والبغرير والمطلوع الذين تغلغلوا بقوة استدعت زيادة في اجراءات الأمن التي كانت ازدادت بعد 11 أيلول سبتمبر في "برباس" وفي أحياء مغاربية أخرى ينشط فيها المهاجرون تجارياً. باعة المسمن والبغرير والمطلوع ينتهجون أسلوب المتسولين نفسه وينتشرون في الحي في شكل مدروس ويختلف تكتيكهم من بائع لآخر. هناك من يفضل الوقوف على رغم البرد والمطر أمام محل معروف ببيع توابل الطهي الرمضانية غير عابئ برجال الأمن وبشاحنتهم المصفحة، وخلافاً للباعة الذين يفضلون الدكاكين التي تعرف اقبالاً كبيراً... يفضل البعض الآخر التنقل من شارع لآخر مراقبين حركة الزبائن لعرض البغرير وهو في حال من الفوران المغري. الحزن الذي طبع حي "برباس" هذه السنة لم يمنع تجار أشرطة الموسيقى والفيديو من ممارسة نشاطهم التجاري الاعتيادي اسوة بالتجار الآخرين، وهم بدورهم يمثلون مفارقة رمضانية، وليس هناك ما يحول دون مبالغتهم في عرض مختلف أنواع الايقاعات والأنغام والأفلام الفكاهية الجزائرية الى جانب تجار حاولوا التوفيق بين خصوصية شهر العبادة والتوبة وقوت حياتهم وذلك بإطلاق العنان لأشرطة القرآن الكريم والأغاني الدينية.