بعد أن دقق الكاتب في مصطلح الجهاد ومجالات العنف وقتال البغاة ينهي الدراسة في ما يلي عند موضوعة التكليف بالأمر والنهي ودرجة العنف المسلح. علم مما سبق ان المرتبة الثالثة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الأمر والنهي باليد كناية عن استعمال العنف لا يسوغ العمل بها الا بعد الأمر والنهي بحسب المرتبتين الأوليين، واليأس من التأثير. وأما مع إمكان التأثير ورجائه ولو بزيادة الجهد وتنويع الأساليب، والصبر على العمل مدة أطول، فإن ظاهر الروايات وصريح عبارات الفقهاء هو عدم مشروعية الانتقال الى المرحلة الثالثة باستعمال العنف غير المسلح فضلاً عنه المسلح. وفي مجال بحثنا: سواء تعلق الأمر بالأنظمة الحاكمة أو بالأحزاب غير الاسلامية المنافسة، او بأماكن المعصية ومظاهرها ومؤسسات اللهو الحرام في المجتمع، تقتضي أدلة وجوب الأمر والنهي باعتماد الدعوة الى التزام النهج الاسلامي الشرعي في السلوك بالحكمة والموعظة الحسنة في الخطاب السياسي، وبالتعبئة الشعبية وتوعية الأمة في العمل التنظيمي، واعتماد اسلوب الحوار والمرحلية في أسلمة المجتمع والنظام السياسي، وفي هداية الاحزاب والجماعات السياسية غير الاسلامية... ولا أعرف التعبير المناسب بالنسبة الى الجماعات والأحزاب الاسلامية المنافسة. وبالجملة لا يشرع الدخول في المرتبة الثالثة باستعمال العنف غير المسلح فضلاً عن العنف المسلح قبل اليأس التام من جدوى العمل السلمي، والدعوة باللسان والبيان، واعتماد التنظيم والمرحلية. وقد يقال هنا: إن أسلوب الدعوة باللسان، والتنظيم واعتماد المرحلية، يمكن ان تثمر، ولكن ذلك يستغرق زمناً طويلاً قد يبلغ عشرات السنين، بينما استعمال القوة يمكن ان يوصل الى الهدف خلال اشهر أو سنين، ولا نعلم برضا الله تعالى عن تأخير أسلمة المجتمع والنظام هذه المدة الطويلة باعتماد أسلوب الدعوة السلمية. فإنه يقال: إننا لا نعلم برضا الله تعالى أيضاً باستعمال العنف في الأمر والنهي مع رجاء التأثير بالدعوة السلمية. والذي يكشف لنا عن ارادة الله تعالى هو الدليل الشرعي. وقد دلت الأدلة على انه ما لم يحصل اليأس من تأثير العمل السلمي لو في المدة الطويلة، فإنه يعلم بعدم مشروعية العنف، لأن اليأس من تأثير الدعوة السلمية شرط في مشروعية الأمر والنهي بأسلوب العنف، وما لم يحصل شرط المشروعية فلا مشروعية، والشك في المشروعية مقتضى لعدمها، فاليأس من تأثير الدعوة الاسلامية هنا من قبيل شرطية الوقت لوجوب الصلاة، وشرطية الاستطاعة لوجوب الحج، وشرطية البلوغ لتوجه التكليف. كما ان مقتضى الأصل الأولي في سلطة الانسان على الانسان، وهو عدم ولاية أحد على أحد، هو عدم المشروعية هنا، لأن في استعمال العنف تصرفاً في نفس الغير وماله، وما لم يدل دليل مجوز يرفع هذا الأصل، فلا يجوز ذلك لأحد بالنسبة الى أحد. ولو فرضنا انتهاء الأمر الى الأصل العملي، فإن الأصل هو البراءة من التكليف، لأن الشك في أصل التكليف، والتكليف الفعلي المحرز في هذه الحالة هو خصوص العمل السلمي واعتماد اسلوب التنظيم والمرحلية. هذا في حالة عدم احراز التأثير، وأما في حالة احراز تأثير الأمر والنهي، فقد عرفت ان مقتضى التفصيل الذي ذهب اليه الإمام الخوئي ونذهب اليه، هو مراعاة الأهمية وترجيح الأهم، فإن كان وقوع المأمور به وعدم وقوع المنهى عنه أهم في نظر الشارع وجب الأمر والنهي مع تحمل الضرر، وأما اذا كانت مفسدة وقوع الضرر أهم، حرم الأمر والنهي عندئذ باللسان او باليد بالعنف غير المسلح فضلاً عن العنف المسلح الذي قد عرفت خروجه عن الأدلة رأساً، وانه ليس درجة من درجات المرتبة الثالثة. وفي مقام تقدير درجة الأهمية لا بد من ملاحظة موضوع الأمر والنهي، وانه: تارة يكون أسلمة المجتمع والنظام الحاكم، أو إقامة معروف تركه الناس، او الردع عن منكر شاع فعله بين الناس، وما الى ذلك مما يتصل بحفظ العقيدة الاسلامية والسلوك الاسلامي على طبق الشريعة في المجتمع. وتارة يكون المقصود أمراً يتعلق بتحسين وضع حزب معين أو شخص معين من الناحية السياسية والاجتماعية، من قبيل فرض الحزب الفلاني على النظام الحاكم باعتباره قوة سياسية معترفاً بها، او تحقيق مشاركته في الحكم، او السيطرة على منطقة او حي او شارع، او الغاء او إضعاف حزب علماني أو اسلامي منافس، او اغلاق سفارة اجنبية لبلد مسلم او غير مسلم... وما الى ذلك من الدواعي والمقاصد التي ذاع وشاع وتعارف العمل من اجلها في السنين الأخيرة من قبل بعض الجماعات وأحزاب الحركة الاسلامية. فإذا كان المقصود حفظ العقيدة وإقامة المعروف ومنع المنكر فلا شك في كونه موضوعاً للأمر والنهي باللسان، وباليد إذا أمكن ولزم غير العنف المسلح أشد اهمية من الأضرار غير البليغة التي تقع على الدعاة لا على غيرهم من الناس في حالة العلم بالتأثير وبلوغ المقصد، فيجب على الاسلاميين تحمل الضرر غير البليغ القابل للاصلاح والجبران الذي لا يبلغ حد القتل والجرح البليغ والسجن الطويل والتشريد. وأما في حالة الشك في التأثير او غلبة الظن بعدم التأثير، فإن تعريض النفس للضرر غير مشروع كما هو متفق عليه بين الفقهاء على الظاهر، وتقدمت الاشارة اليه. وأما أسلمة النظام فقد عرفت انها ليست مورداً لأدلة الأمر والنهي فهي خارجة عن مجال البحث. ولو فرضنا شمول الأدلة لها، ودخولها في مجال البحث، فالحكم فيها ما ذكرناه آنفاً. وأما اذا كان المقصود الأمور الأخرى التي ذكرناها مما يتعلق بتحسين وضع الاحزاب والاشخاص من الناحية السياسية والاجتماعية، فلا شك في ان بعضها محرم ولا يجوز الإقدام عليه من قبل القاصدين له فضلاً عن حمل الناس وإجبارهم عليه بالقوة. وبعضها الآخر على فرض مشروعيته من الأمور المرجوحة التي ينبغي الانتهاء عنها لكراهتها، ويحرم إجبار الناس عليها بالقوة. وبعض ثالث من المقاصد المذكورة أمور يشك في كونها من المعروف الذي يجب الأمر به او من المنكر الذي يجب النهي عنه. ومن المعلوم المتفق عليه ان الشرط الأول من شروط وجوب الأمر والنهي ان يكون المأمور به معروفاً معلوماً وجوبه في الشرع متفقاً عليه بين المسلمين، وأن يكون المنهي عنه منكراً معلوماً حرمته في الشرع متفقاً عليه بين المسلمين. وأن يكون الآمر والناهي عالماً بالمعروف بما هو معروف والمنكر بما هو منكر. وأما مع الشك والشبهة في وجوب شيء او فعل او وضع او حرمته فلا يكون مورداً للتكليف بالأمر والنهي، وقد لا يشرع الأمر والنهي ولا يجوز في موارد الشك في الحرمة او الوجوب. فإذا كان مورد القضية موضع خلاف بين الفقهاء لم تكن مورداً للأمر والنهي لعدم العلم بكونها من المعروف او المنكر. كما ان من المعلوم المتفق عليه ان من شروط الأمر والنهي ان يكون المعروف المعلوم وجوبه للآمر والمنكر المعلوم حرمته للناهي، فعلياً منجز الحكم في عهدة المأمور والمنهي سواء أكان شخصاً او هيئة أو جماعة من الناس، فلو لم يكن كذلك بسبب الجهل او اختلاف الاجتهاد او اختلاف التقليد او الشبهة، لم يجب الأمر والنهي باللسان فضلاً عن اليد. نعم في هذه الحالات يحسن وقد يجب تعليم الجاهل، ورفع الشبهة، دون ما زاد عن ذلك .... فتحصل ان الأمر والنهي باليد العنف غير المسلح انما يشرع بالشروط المذكورة بعد اليأس من تأثير الأمر والنهي باللسان، وتعين المرتبة الثالثة. ولا بد من ان نضيف هنا الى ما تقدم ما أشرنا اليه سابقاً عند الكلام عن شرط عدم المفسدة والضرر، وهو اعتبار وضع المجتمع والقوى المؤثرة فيه، وانعكاسات الأمر والنهي على المجتمع وجماعاته وقواه المؤثرة، خشية وقوع محذور الفتنة نتيجة للأمر والنهي، وهي من اعظم المنكرات التي حذر الله من الوقوع فيها، فتكون عاقبة الأمر والنهي شراً من عدمهما.... وإذا لاحظ الفقيه الواعي الوضع التنظيمي والسلطوي للمجتمع الحديث في البلاد الاسلامية، والقوى السياسية والاجتماعية والتيارات الثقافية في هذه المجتمعات، فإنه يقطع بأن التكليف الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد اسلمة المجتمع والنظام على فرض انهما من مصاديق الأمر والنهي او بقصد إشاعة العمل بالمعروف وترك المنكر في سلوك الناس محصورة بالدعوة السلمية والتنظيم الشعبي، وتربية القاعدة الشعبية على الاحكام والآداب الاسلامية، مع اعتماد المرحلية وتجنب الطفرة وحرق المراحل. أما استعمال العنف في امر ونهي المجتمع والجماعات والأحزاب فلا يجوز لأمرين: الأول: العلم بعدم مشروعية ذلك لعدم تحقق شرط مشروعيته، ولا أقل من الشك في أصل المشروعية من جهة الشك في التكليف. فكلما شك في اصل مشروعية شيء او فعل او وضع فالأصل فيه عدم المشروعية. وبخاصة اذا كان من طبعه في نفسه او يلازم ويستلزم ممارسة سلطة على الناس، فإن القضية تكون من موارد الأصل الأولي في ولاية الانسان على الانسان وهو عدم ولاية احد على احد الا ما خرج بالدليل المعتبر. وفي مقامنا لا دليل على مشروعية قهر الناس بالقوة الا في الموارد الواجدة لجميع شروط الأمر والنهي ومنها الضرر والفتنة واختلال النظام. وكلما علم او شك في اختلال شرط منها فإن الحكم هو الأصل الأولي بعدم المشروعية من جهة أصل عدم الولاية. الثاني: لو تنزلنا وسلّمنا جدلاً ثبوت اصل المشروعية هنا لليأس من تأثير الدعوة السلمية بالحسنى، فإن استعمال العنف لا يجوز ايضاً من جهة العلم بعدم التأثير في الوصول الى المقصد وهو أسلمة المجتمع والنظام بأسلوب العنف، مضافاً الى غلبة الظن او العلم باستلزام استعمال العنف لوقوع الفتنة والهرج والمرج واختلال النظام، فيكون محرماً من هذه الجهة ايضاً. هذا في قضية اسلمة المجتمع والنظام. وأما المقاصد المتعلقة بتحسين وضع الأحزاب والأشخاص من الناحية السياسية والاجتماعية في المجتمع والنظام السياسي القائم فمن المعلوم عدم مشروعية الأمر والنهي لأجلها، لأنها في حد ذاتها اما محرمة او غير واجبة وإن عَنوَنها العاملون من اجلها بالعنوان الاسلامي، فإن عنونة شيء او عمل او وضع باسم الإسلام لا يجعله اسلامياً ومشروعاً ان لم يكن في حقيقته وذاته مشروعاً في الشريعة الاسلامية. قال الشيخ محمد رشيد رضا: "... وفي متن المواقف للعضد: وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه. وإن أدى الى الفتنة احتمل ادنى المضرّتين ... وقال شارحه السيد الجرجاني: مثل ان يوجد منه ما يوجب اختلال اصول المسلمين وانتكاس امور الدين، كما كان لهم نصبه ورقامته لانتظامها وإعلائها". "وجملة القول ان العلماء اتفقوا على وجوب الخروج على الإمام بالكفر، واختلفوا في الظلم والفسق لتعارض الأدلة ومنها سد ذريعة الفتنة. والتحقيق المختار: ان على الأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما دون الخروج على ولي الأمر بالقوة. وأما اهل الحل والعقد فيجب عليهم ما يرون فيه المصلحة الراجحة حتى القتال، وقد تقدم النقل في هذا في مسألة سلطة الأمة". "ان اهل الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على اهله بالفعل، وإزالة سلطانهم الجائر ولو بالقتال اذا ثبت عندهم ان المصلحة في ذلك هي الراجحة والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة السلطة الشخصية الاستبدادية كإزالة الترك لسلطة آل عثمان عنهم، فقد كانوا - على ادعائهم الخلافة الاسلامية - جائرين في اكثر احكامهم على ما يسمى في عرف اهل هذا العصر بالملكية المطلقة". العنف المسلح باعتبار ما يلازمه ان العنف المسلح في المجتمع الحديث يؤدي - بسبب تكوين المناطق السكنية والمساكن والمؤسسات العامة التي تقتضي تجمّع عدد كبير من البشر في بقعة صغيرة، وبسبب طبيعة الآلات والتجهيزات الحديثة المنزلية والعامة، وبسبب الطبيعة الفتاكة للسلاح الحديث وتأثيره الواسع النطاق الى قتل وجرح اشخاص آخرين لا علاقة لهم بالخصم الذي يستخدم ضده العنف، ويؤدي الى تهديم وإتلاف ممتلكات للأهالي الذين ليس لهم علاقة بالخصم المستهدف، وغالباً يؤدي العنف المسلح الى اضطرار عدد كبير من الناس لترك بيوتهم ومزارعهم فراراً من القتل. وقد تصل اصابات القتل والجرح الى مئات الاشخاص، وقد تصل الخسائر المالية الى مئات ملايين الاموال. وقد رأينا في الاحداث اللبنانية حالات من هذا القبيل، وبلغنا الكثير عما يجري في بلاد اخرى. كما انه يؤدي غالباً الى تدمير مرافق الخدمة العامة للمجتمع. فلو سلمنا مشروعية استعمال العنف المسلح ابتداء في نفسه بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، او بعنوان الجهاد او قتال البغاة فيقع الكلام في انه هل يجوز شرعاً الاقدام على استعمال العنف المسلح ضد اي خصم او هدف مما تقدم ذكره في مجال البحث اذا علم او غلب على الظن ملازمته لقتل وجرح عدد كبير او صغير من الأهالي وترويعهم، وربما تهجيرهم من مساكنهم ومصادر رزقهم، وإتلاف اموالهم، وتدمير مرافق الخدمة العامة التي لها صلة ماسة بالنظام العام لحياة المجتمع كهرباء، مياه، طرق، هاتف، مدارس ... وغير ذلك؟ هذا اضافة الى ما يلازم ذلك على صعيد المعنويات والاعتبار السياسي من هتك سياسي ووهن معنوي للإسلام وسمعة المسلمين امام العالم، وضعف سياسي امام الاخطار الخارجية بسبب ما يؤدي اليه استعمال العنف المسلح من انقسام داخلي بين المسلمين في المجتمع السياسي الذي يستعمل فيه العنف الذي قد يبلغ حد الفتنة في المجتمع كما حدث ذلك بين المسلمين في لبنان وغيره. وكل ذلك من اعظم المحرمات الشرعية التي علمت من الدين حرمتها بالكتاب والسنّة والإجماع. فيدور الأمر بين استعمال العنف المسلح - على فرض مشروعيته - مع ما يستلزمه من ارتكاب هذه المحرمات او بعضها، وبين تقديم ادلة هذه المحرمات والامتناع عن استعمال العنف المسلح. ان هذا المقام من موارد التزاحم بين الواجب الكفائي غير المقيد بزمان - اذا فرضنا مشروعيته - وبين المحرم العيني في جميع الأزمان. والقاعدة الفقهية المسلمة في باب التزاحم هي ملاحظة المرجحات بين المتزاحمين، فإذا تساويا تلاحظ درجة الأهمية بين المتزاحمين، وتقديم الأهم على المهم في مقام الامتثال، فإذا كان هذا الواجب أهم في نظر الشارع من المحرم الذي يزاحمه قدم الواجب في الامتثال وإن لزم منه الوقوع في الحرام الذي يرتفع تنجز التكليف الفعلي به، وإن كان الحرام اهم قدم امتثاله ويرتفع تنجز التكليف بالواجب بسبب العجز عن امتثاله لاستغراق القدرة في ترك الحرام. وعلى اساس هذه القاعدة، فإن دليل التحريم مقدم على دليل مشروعية استعمال العنف من جهتين: الأولى: ان استعمال العنف - على فرض مشروعيته - واجب كفائي ليس لامتثاله زمان خاص، بينما الأمور المحرمة الملازمة له محرمة في جميع الأزمان. وما كان هذا شأنه فهو مقدم في مقام الامتثال. الثانية: ان التزاحم هنا بين الواجب الذي له بدل وبين المحرم، وما كان هذا شأنه فهو مقدم في مقام الامتثال على ما له بدل. وبدل استعمال العنف المسلح هو الدعوة السلمية بالحكمة والموعظة والعمل التنظيمي والتوعية السياسية. وإذا صرفنا النظر عن وجود المرجحات، فلا بد من ملاحظة ان استخدام العنف المسلح لأي هدف من الاهداف الاسلامية - على فرض مشروعيته - هل هو اهم في نظر الشارع من ارتكاب هذه المحرمات التي تلازمه من القتل والجرح والتهجير وإتلاف الأموال العامة والخاصة وتدميرها، وهتك سمعة الاسلام والمسلمين، وتهيئة الأجواء لوقوع الفتنة في المجتمع؟ فإذا ثبت كونه اهم، يكون تحريم هذه الأمور غير فعلي وغير منجز، وبذلك يجوز ارتكابها في سبيل امتثال الواجب الأهم. او ان حرمة هذه الأمور اهم في نظر الشارع من استعمال العنف المسلح، فتكون حرمتها فعلية منجزة واجبة الامتثال، ويكون وجوب استعمال العنف المسلح - على فرض وجوبه - غير فعلي وغير منجز على المكلف. وبعد ملاحظة ادلة مشروعية استعمال العنف - على فرض دلالتها - بالعناوين والأهداف الحقيقية والوهمية والواقعية والمدعاة التي يستعمل العنف المسلح للتوصل الى تحقيقها، وملاحظة ادلة حرمة القتل والجرح وإتلاف الأموال المحترمة العامة والخاصة، وتشريد الناس من مساكنهم، وتعريضهم للهوان وهدر الكرامات، وهتك سمعة الاسلام والمسلمين او بعضهم، وتعريض النظام العام لحياة المجتمع للخراب والخلل في مساحة واسعة او محلة صغيرة، وتعريض المجتمع للفتنة والهرج والمرج. بعد ملاحظة الأدلة الشرعية من الجانبين لا تبقى لدى الفقيه شبهة في كون المحرمات المعلومة هنا اهم في نظر الشارع بكثير من الواجب المدعى. فلا يمكن للفقيه الواعي ان يساوي بين: إثبات اهمية وفاعلية وحضور هذا التنظيم الاسلامي او ذاك، او بين عقوبة او تأديب هذا المسؤول الحكومي او الحربي، او التقدم خطوة نحو تطبيق الشريعة الاسلامية او بين زيادة حرية العمل الاسلامي او بين هذا او ذاك من الاهداف الحقيقية والمدّعاة، وبين ادلة حرمة القتل والجرح والتشريد والإذلال والإتلاف، وهتك السمعة السياسية والمعنوية واختلاف الكلمة، وخطر الفتنة. فلا ريب في ان الشارع المقدس قد اعتبر ترك هذه المحرمات اهم بكثير من امتثال هذا الواجب - على فرض مشروعيته - ومقتضى ذلك هو تقديم جانب الحرمة في مقام الامتثال على جانب الوجوب، فيكون استعمال العنف المسلح الملازم للوقوع في هذه المحرمات منهياً عنه ومحرماً بالعنوان الثانوي - على فرض مشروعيته بحسب العنوان الأولي - بلحاظ ما يلازم فعله مما يجب تركه. وقد يقال هنا: انه قد ثبت في فقه الجهاد انه اذا احتل الكفار بلداً مسلماً جاز بل وجب جهادهم وإن أدى ذلك الى وقوع القتل في المسلمين في ذلك البلد وتدمير ممتلكاتهم فيه. وإنه إذا تترّس الكفار بالأسرى المسلمين، جاز قتال الكفار وإن أدى ذلك الى قتل المسلمين او جرحهم. فليكن مقامنا من هذا القبيل. ويدفعه ان المسألة في الموضعين موضع وفاق مطلقاً في الموضع الأول وفي الجملة في الموضع الثاني، ولكن هذا في الجهاد الدفاعي ضد الكفار الذي هو من ضروريات الدين، وأين هو مما نحن فيه الذي قد عرفت عدم انطباق عنوان الجهاد او غيره عليه بوجه من الوجوه. وقد ذكر الفقهاء في فقه الجهاد شروطاً لمشروعية القتال في حالة تترس الكفار بالمسلمين، وهي ان يكون الانتصار على الموقع المعادي ضرورة للمسلمين لا يمكنهم تأجيلها، وأن يعلموا انهم اذا قاتلوا ينتصرون، وأن تكون الهدنة او الكف عن القتال مضراً بمصلحة المسلمين، وأن يتوقف الانتصار في القتال على اصابة الترس المسلم. فإذا تحققت هذه الشروط كلها جاز القتال وإن أدى الى قتل او جرح الترس المسلم، وفي هذه الحالة يجب القتال بنحو يتحرز فيه غاية التحرز عن اصابة الترس المسلم، وفي حالة عدم التحرز وإصابة الترس المسلم نتيجة لذلك فإن دم المسلم القتيل لا يذهب هدراً بحجة انه قتل نتيجة للجهاد، واتفقوا على وجوب الدية او الكفارة ومن الفقهاء من ذهب الى استحقاق القاتل للقصاص. وأين هذا كله مما نحن فيه؟ هذا كله بناء على مشروعية استعمال العنف المسلح في موارد مجال البحث، وقد عرفت عدم مشروعيته بوجه من الوجوه في جميع الموارد التي مرّ ذكرها بعنوان الجهاد وغيره من العناوين. * الرئيس السابق للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وكان وضع قبل وفاته مخطوطة كتابه التي انتخبنا منها هذه الحلقات - يصدر الكتاب هذا الشهر عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر في بيروت.