على امتداد تاريخ البشرية لم تكن الملابس مجرد غطاء يتسم بالحياد والنفعية التامة، بل تأثرت في كل العصور وفي كل الحضارات بالافكار السائدة، مما يعني ان الملابس ظاهرة ثقافية مركبة، لكن مرحلة صعود الحضارة الغربية واكتسابها القدرة على التأثير في الحضارات الاخرى، وتحولها الى حد بعيد نموذجاً أدىا الى حال من التنميط في اساليب المعيشة تفاوت انتشاره من حضارة الى اخرى. وأثر هذه الحضارة في رؤية الناس لأنفسهم واتجاهاتهم وميولهم الشخصية يتبدى في شكل واضح في كثير من مفردات الحياة اليومية وفي مقدمها الملابس. وفي كتاب صدرت ترجمته العربية حديثاً عن "دار الحمراء" في بيروت يعالج كاتبه نيكولاس كولردج هذه القضية تحت عنوان "مؤامرة الازياء" وتلخص شخصية آنّا بياغي، المحررة في مجلة "غراسيا" النسائية، أهم أفكار الكتاب، وآنّا اكتسبت شهرتها "بفضل مظهرها الغريب اللافت، مرة جاءت بطيري حمام زينت قبعتها بهما لدى حضورها إحدى الحفلات، لكنها اضطرت الى الانسحاب بصمت بعدما ساح جليد الطيرين واخذ الدم ينساب على ملابسها"، ويضيف كولردج: "ان الاكسسوارات التي تعتمدها لا بد من أن تظهر في الموسم الجديد، لو تزينت العارضات بحوض تنظيف الاواني المطبخية، لتزينت انا بمصيدة للفئران، ولا بد من أن تعتمد موضة الموسم المقبل على تلك المصيدة كفكرة لقطع الزينة، هذه المرأة تشكل مصدر إلهام للمبدعين" يرسم كولردج صورة لمصممي الازياء وطبيعة وعيهم بحسب الابعاد الثقافية والفكرية لعملهم، فأوسكار دي لانتا الذي درس في اسبانيا وعمل في باريس يُرجع كل خرافة تميّز اسلوبه في التصميم وانتقاء الألوان الى حكاية اصله اللاتيني، ويقول رالف لورين "إننا نبيع الناس نمطاً في العيش عندما نبيعهم الملابس" وعندما يشرح لك موظفوه فلسفتهم في الازياء يبدو لك أنهم مجموعة من علماء النفس، إنهم يحاولون حل عقدة نفسية شاملة على صعيد وطني، وتشبه الصورة التي يرسمها المؤلف للصراع الثقافي في الازياء صورة صراع حضاري. فالقوى العظمى التقليدية في مجال الازياء اوروبا والولاياتالمتحدة تواجه منافسين جدداً في شرق آسيا، والمنافسة تكتسب ابعاداً ثقافية بوضوح. ويقول مثقف ياباني "إنهم يذهبون إلى حديقة هاراغوكو في صبيحة ايام الاحاد، كلهم يرتدون ثياباً كتلك التي يرتديها جيمس دين. جيمس دين شخص مقبول، لكن خمسمئة جيمس دين! ذلك يبعث على الاحباط". والاحساس بضرورة الاختلاف عن "الآخر" في الزي كنتيجة طبيعية للاختلاف الثقافي، وهو اختلاف له صداه في اللغة، ففي اليابانية ثلاث كلمات تستخدم للحديث عن الملابس: 1- يوفوكو: وتعني الاثواب الغربية. 2- أوفوكو: وتعني الاثواب اليابانية. 3- فوتوي: وتعني الثياب، كما تعني ايضاً المستقبل الجيد، أو نوعاً من السعادة ويستخدم مصمم الازياء الشهير آسي مياك هذا الترادف اللغوي فيقول: "عندما أسأل عما افعل اجيب اصنع السعادة" ويحدد بأنه يريد ابتكار اثواب تعطي المرأة حرية فكرية وجسدية. وفي اليابان مدارس عدة في تصميم الازياء احداها تستوحي المدرسة الغربية في التصميم، وهناك مدرسة تسمى "هندسة الوابي" وهي كلمة يابانية تعني الفقر الاختياري أو الطوعي. والحكمة من ورائها تقول: "إن كنت لا تملك شيئاً فكأنك تملك العالم". وتشرح المصممة اليابانية شين هوسوكاما الفكرة قائلة: "كنت استوحي تصاميم الملابس من مجلات الازياء أما اليوم فاستوحيها من مواقف السيارات والمساحات المخصصة للانتظار"، وفي طوكيو التي تشكل المساحة فيها مشكلة من أكبر المشاكل يشكل معرض "كوم لي غرسون" ظاهرة تبعث على التأمل، فمن يأخذون بالمعايير الاقتصادية وحدها يرونه اهداراً لثروة كبيرة وبعبارة صادقة يقرر أحدهم "إن المساحة هنا ثمينة جداً، المساحة اثمن من الحكمة!". ويصف المؤلف معرض "كوم لي غرسون" قائلاً: "الواجهة خالية تماماً، ومساحة الارض المغطاة بالرخام كبيرة جداً، وكأن المسرح أعد لتقديم مسرحية وجودية، كان ذلك المتجر خالياً من أي شيء، أصوات أحذيتنا على الرخام جاءت كأصوات احذية السائحين في إحدى الكاتدرائيات، فجأة ظهرت أمامنا مساعدة تغطي قدميها وتلفهما بأربطة بيض فلا يُسمع لخطوتها صوت، انحنت لنا على الطريقة اليابانية وارشدتنا الى واجهة زجاج صغيرة تضم بعض القمصان الرمادية والسود وبعض الاحذية رتبت امام الرفوف، زوج واحد من كل نوع. اكتشفت أن هناك أخلاقية اخرى في التصميم الياباني تدعى "وا" أي "الاتحاد الكامل" وهي حد أقصى من التعبير عن أن الاقل هو الأكثر". ويعقب المؤلف على المشهد قائلاً: "لم اجده منطقياً لكنني وجدته يبعث على الهدوء. غير منطقي لأنه متجر ملابس بلا ملابس يبعث على الهدوء كأي معبد لديانة الشنتو". والشكل في الحال السابقة - كما يفسر مثقف ياباني - أكبر قيمة من المضمون. مثلاً أنت تستطيع دخول حانوت لبيع الفاكهة في طوكيو فتجد بطيخاً يبلغ ثمن البطيخة خمسمئة ين، لكن البطيخة ذات الشكل الاكمل ممكن بيعها بثلاثين ألف ين، وكلما كانت استدارة البطيخة اجمل كلما ارتفع ثمنها. فالياباني الذي يقدم لضيوفه بطيخة ذات شكل هندسي ادق، يعرب بذلك عن احترام أكبر لهم، وذلك التصرف ابلغ وأكثر قيمة من المساحة المهدورة والخالية. ولكل جيل من اليابانيين طريقة في ارتداء الملابس، لكن الياباني، عموماً لا يحبذ الظهور بمظهر مختلف عن الآخرين. لا فرق في طريقة ارتداء الملابس، طالما انها تعبر عن مواقفك من المجتمع، ففي اوائل السبعينات اجتمع الهيبيون اليابانيون في شيبوتا. كان مظهرهم كمظهر الهيبيين في العالم كله، ارتدوا السترات المشرشبة والصنادل المفتوحة وعقدوا الايشاربات الهندية، لكن زيادة في الايضاح كتبوا على ظهور ستراتهم "نحن هيبيون يابانيون". وتسجل الابعاد الفلسفية الكامنة وراء عملية تصميم الازياء حضوراً كبيراً، فالمصممة اليابانية كاواكوبو تقرر أنها لا تحاول تنظير فلسفتها في العمل ولا تخشى التناقض الايديولوجي فهي ترى أن الجمال والكثرة شيء واحد، وهو موقف واعٍ من مفهوم "الواحدية" الذي يعكس المنتجات الغربية في مجال الأزياء، ولهذه المصممة موقف من علاقة الرجل بالمرأة يفصح عن تصاميمها. فهي تقدم تصاميم للنساء اللواتي لا حاجة لديهن لتأكيد سعادتهن من خلال الظهور بمظهر مغرٍ لارضاء الرجال. أما المصمم ياماموتو فيمارس اليوغا، واحياناً يستغرق في التأمل لفترة تمتد الى 12 ساعة في مكان عمله، ويؤكد أن اليوغا تساعده على الابتكار "عندما تكون نزيهاً حاذقاً وتبذل مجهوداً عاطفياً في عملك فإن القطعة تُعطى لك". ولعله أكثر المصممين إدراكاً للبعد "الجواني" غير المادي، وهو يضيف معبراً في شكل أكثر وضوحاً: "لدى رؤيتي لأشياء من تصميمي أفكر بأن الطبيعة قامت بانتاجها وليس شخصي، فالقطعة حدث طبيعي". وياماموتو الذي يصمم 2400 قطعة في السنة يخرج 1090 منها باللون الاسود، لا يستطيع استخدام الألوان المفرحة، للحظة فقط يحس بالسعادة لكنها تشعره بالضجر بعد مرور 3 دقائق. وانطلاقاً من إدراك واضح للتميز الحضاري وأثره في إنتاج الازياء، واستهلاكه يقرر أن الفرق الرئيس بين الذوق الياباني والذوق الاوروبي يكمن في تعريف "الكمال" "ونحن اليابانيين لدينا قول مأثور هو "عليك أن تجوع كملاكم إذا أردت الحياة بنظافة" في تلك الحال يجب أن تموت بأسرع وقت ممكن عندما يعيش الناس فهم يوسخون العالم، إن كنت حقاً تحب الارض يجب أن تعيش بسرعة وأن تموت بسرعة". في مقدمتها للكتاب تنقل مترجمته ندى أمين الاعور حكاية عن إيطالي خرج يركض في الشوارع عارياً وعلى كتفه أثواب من القماش فقال له بعضهم: لماذا لا تستر جسدك بهذه الاقمشة يا مجنون، فقال لست مجنوناً، وإنما رأيت الناس لا يرتدون زياً حتى استبدلوه بآخر فخفت أن افصّل هذه الاقمشة على زي فيبهت ويتسخ ولذا أجهد لأدرك غاية الازياء. أجابه أحدهم: "ستدركها عندما يشيب الغراب". وهذه القصة التي نشرتها مجلة "المقتطف" العام 1886 لم تزل تحكم عالم الازياء، فالمؤلف حاول استقصاء مكان وجود أكثر نساء العالم أناقة فأرشدوه الى نيويورك، وفي نيويورك دلوه على باريس، وفي باريس قيل له إن نساء ميلانو أكثر نساء العالم أناقة، أما في ميلانو فنصحوه بالذهاب الى لندن، وفي لندن وجد مصممي الازياء يجهرون بالشكوى من ان النساء يفتقرن الى الاناقة ويصرون على أن المرأة الانكليزية غير أنيقة، وهم يرجعون الامر الى إعتبارات نفسية. ويفسر ثلاثة من المصممين المشكلة تفسيرات مختلفة، فجين موير يرى أن التوعك الانكليزي تاريخي ويعود الى الثورة الصناعية، أما غاسبر كونران فُيرجع المشكلة الى أن انكلترا ليست بلداً كاثوليكياً، فالفتاة الكاثوليكية تتعلم فن الخياطة منذ نعومة اظفارها، وفي هذا تكمن قوة كل من ايطاليا وفرنسا، حتى في اميركا العاملات في صناعة الازياء في نيويورك فتيات كاثوليكيات. ويرصد المؤلف مفارقة اخرى تتصل بأثر العامل المذهبي في نمط الازياء. فالايطاليون يصممون الملابس الاكثر اثارة على رغم أنهم ينتمون الى البلد الكاثوليكي الحقيقي الوحيد العامل في صناعة الازياء، فالتصاميم الانكليزية لا تتصف بالاثارة، بل تشوبها مسحة من الخجل، أما الاثارة الاميركية فتتسم بالافراط، وهناك بعض الاثارة في الملابس الفرنسية لكنها ليست في مستوى الاثارة الايطالية. ويروي المؤلف مشهد فتاة ايطالية تركع بخشوع في إحدى الكاتدرائيات وهي ترتدي تنورة شفافة فيها شق لكنها لم تلفت انتباه احد في الكنيسة، وبحسب تفسير ايطالي، فإن السبب يرجع إلى كون القواعد الاخلاقية السائدة في المجتمع اكثر تزمتاً وهو ما يفسح المجال أمام الازياء المثيرة كرد فعل، وهذا صحيح أيضاً في البلدان الكاثوليكية الاخرى: اسبانيا واميركا اللاتينية، حيث ترتدي الفتيات ثياباً مثيرة، والتصاميم الايطالية تباع في شكل جيد في هذه القارة، والفتاة الكاثوليكية تعرف جيداً كيف ترتدي الملابس المثيرة. ويؤكد المؤلف في مواضع عدة ارتباط الازياء بالسياسة على مختلف المستويات. فالمصممون البريطانيون يشكون من سياسة فرنسية تحاول إحباط المصممين البريطانيين، وهم يصفون هذه السياسة بأنها أسوأ من سياسة المصممين الاميركيين إزاءهم. ومن المصممات اللواتي عرفن بالارتباط بقضايا سياسية، البريطانية كاترين هامنت، وهي ملتزمة بقضايا سياسية وبيئية واجتماعية وفلسفية مختلفة، والقمصان التي تنتجها تعكس مفاهميها وتحمل شعارات مختلفة، وهي تملك رؤية للعلاقة بين الجنسين تنعكس في تصميماتها، فهي لا تحبذ مظهر النساء اللواتي يرتدين أزياء كأزياء الرجال، كون الفتاة مختلفة عن الصبي منذ الولادة وليس هناك ما يضير في أن تظهر المرأة بمظهر جذاب. أما محررة الازياء سوزان مينكس هيرالد تريبيون فتكشف عن جانب آخر من جوانب التأثير السياسي والثقافي في الازياء، فترصد في حديثها عن الاتجاهات الجديدة في التصميم أن التفصيلة القديمة اختفت، وكان كل شيء فيها عرقياً: المظهر العربي - المظهر الهندي - المظهر البيروفي... إلخ وطبعاً لا يغفل المؤلف أن يذكر أن أموال بارونات المخدرات في اميركا اللاتينية يرجع إليها الفضل في استمرار كثير من بيوت الازياء الفرنسية! وثنائية الشرق / الغرب ليست غائبة في عالم الازياء وحضورها متنوع، احياناً سلبياً وأحياناً يكون إيجابياً. مثلاً تناتشو مصممة الازياء اليابانية نموذج جيد لانسان العولمة الممزق بين فضاءات عدة، مولودة لأب أميركي وأم يابانية اضطر أبوها لترك اليابان بسبب ظروف الحرب العالمية، فانتقلت الى الولاياتالمتحدة، في كليفلاند اعتقدت أن كل البشر لهم ملامح شقراء، وفي السادسة عشرة عادت الى اليابان وأعجبتها الحياة فيها، ولم تكن تعي أنها نتاج مزيج ثقافي، وفي اليابان عملت في مجال الازياء ثم اكتشفت "شيئاً رهيباً" انهم لا يريدون أنصاف اليابانيين بينهم. واختفاء السمة العرقية التي رصدتها سوزان مينكس يعبر عنها المصمم الايطالي الشهير ارماني على نحو مختلف فيقول: "أنا أعي ان مفهوم الاناقة يتغير، فالاناقة الجديدة لا تمت بصلة الى الاناقة القديمة. الموضة بدأت تسير في اتجاهات قاسية وحشية شاذة"، واختلال المعايير الذي يرصده ارماني يشير الى ان صناع الازياء انفسهم في احيان كثيرة يكونون عاجزين عن توقع استجابة المستهلكين، فمجموعته للعام 1979 كان يراها كارثة فإذا بها تتسبب في مضاعفة مبيعاته. ويعد المصممون الغربيون ذوو الاصول الشرقية ظاهرة لافتة، لأن شريحة من المستهلكين تُقبل على منتجاتهم بحثاً عن سحر الشرق. فالتركي رفعت اوزبك يتحدث عن البهجة باعتبارها مصدر ملابس تشبه ملابس شهرزاد من حيث الألوان والزخرفة والقماش النفيس، فتأتي التصاميم غريبة تحمل فوضى من الشرق. وكما أن تصميم الازياء واتخاذ قرار اقتنائها يتأثر باعتبارات حضارية، كذلك يتأثر باعتبارات اجتماعية اقتصادية، وتعد شخصية بيتر برتلسن احد ملوك صناعة الازياء في بريطانيا نموذجاً للمحلل الذي يستطيع تفسير الاساس الاجتماعي الاقتصادي لسلوك المستهلكين. والطريف أن برتلسن كان قبل دخول عالم الازياء تاجر نفط لا تربطه بالازياء أية صلة، وهو يعبر عن النقلة التي حدثت في تفكيره عندما انتقل الى هذا المجال بقوله: "في ما مضى كنت اقوم بتعرية النساء في عقلي، أما اليوم فأناً لا أشاهد الا الملابس. أرى ثياب المرأة وأهلل". وبحس تاريخي اجتماعي يستند إلى أساس نظري يقسم برتلسن اموال المستهلكين إلى: "أموال قديمة" و"أموال حديثة"، الاموال القديمة يعرفها بأنها المؤسسة، ملاّك الاراضي في الريف الذين يقطنون في القصور الواقعة ضمن ممتلكاتهم، وهؤلاء لا يهتمون بارتداء أزياء لا تمكنهم من التحرك بحرية في الريف، أما الاموال الحديثة فهي أموال المدنية والنفط، ولكل من هؤلاء مصمم الازياء المناسب، وهذا التحليل يطرح الكثير من علامات الاستفهام في شأن حال التنميط الكاسحة في الزي التي تجتاح قطاعات واسعة من المجتمع العربي وتطمس الفروق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية علماً أن قفزة ملحوظة حصلت أخيراً في مجال التصميم والمصممين من الخليج الى المحيط.