تذكرنا الطروحات الفكرية والسياسية والدينية حول الأحداث الجارية على الساحة، بحدث مفصلي في التاريخ الاسلامي له ارتباط بالحاضر، حينما قام الخوارج "أول تنظيم ارهابي" بالخروج على الإمام علي كرّم الله وجهه، الحاكم الراشدي العادل، بحجة أنه حكمّ الرجال، ولا حُكم إلا لله، ويجب عليه أن يتوب من هذا الذنب أو يُقاتَل، وانطلقوا منها الى تكفير المجتمع، واعتبروا كل من خالف رأيهم أو سكت وقعد عن الخروج معهم كافراً، وأباحوا تبعاً لذلك دماء المسلمين. ومع أنهم كانوا أشد الناس تديناً وأكثرهم اخلاصاً لعقيدتهم وحباً في الفداء والشهادة، وقال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.... إلا أن الإمام والصحابة رضوان الله عليهم، لم يترددوا في الوقوف ضدهم وتعرية طروحاتهم، ولم يقوموا بتبرير طروحاتهم بمبررات زائفة ومسوّغات مضللة كما يحصل الآن لطروحات الخوارج الجدد، بل قاموا يداً واحدة وحاربوهم وهزموهم شر هزيمة في النهروان 37ه. هكذا كانت الأمة عندما كانت تسير صُعداً في المسار الحضاري لتقود البشرية. ولكننا اليوم نجد خوارج عصرنا الجدد، أسعد حظاً، إذ يجدون فضائيات تتبنى طروحاتهم، ترددها بلا كلل صباح مساء، تجعلهم نجوماً جماهيرية، وتستضيف محللين يبررون ويسوغون أفكارهم، ويتطوع رموز دينية باصدار فتاوى تلزم الوقوف معهم وتعتبر السكوت أو القعود عن مناصرتهم إثماً، وتتنادى بالجهاد ضد الصليبية التي تحارب الاسلام، وتسعى جاهدة لتحريض الجماهير العربية ضد أنظمتها التي وقفت مع عدوة الاسلام أميركا - تماماً كمقولات أهل الارهاب - ومن المحزن أن يصدق البعض هذا التضليل فيخرج هاتفاً، متظاهراً ويتورط في عمل أحمق ضد من سموه عدو الاسلام وتكون النتيجة هلاكه ومأساة أسرته، ثم نرجع باللائمة عليه ونترك المحرض الذي دفعه للهاوية ينعم من غير مسؤولية!!. والسؤال ومن منطلق شرعي وعقلي: الجهاد ضد من؟ ومن أجل من؟ ومن يملك هذا الحق؟ هل نترك أمر الجهاد لخطباء ووعاظ وسياسيين متشنجين يعلنونها حرباً تدمر الأخضر واليابس أم ذلك من حق ولي الأمر وحده؟ هل يملك هؤلاء حق تحريض وشحن الجماهير لتتورط في أعمال تخريبية يروح ضحيتها أبرياء وتضر بمصالح الدولة أم يجب تقييد هذا الحق بما لا يضر المصلحة العامة؟ من أعطى الأحزاب السياسية الدينية حق اعلان الجهاد والاضرار بمصالح الأمة العليا؟ لقد قام علماء السعودية بواجبهم حينما أعلنوا صراحة أنه ليس لأحد أن يفتي بالجهاد الا ولي الأمر - هكذا تعلّمنا وهكذا نُعلّم - وينبغي على علماء المسلمين في الساحة الاسلامية أن يفعلوا مثل ذلك ويعلنوها صريحة. هل يُمثل طالبان وجهاً حقيقياً للاسلام يتنادى الناس للدفاع عنه؟ أليس طالبان هو ذات النظام الذي انتقد علماء المسلمين في كثير من المناسبات - قبل 11/9 - العديد من ممارساته عثمان ميرغني، الشرق الأوسط 24/10/2001؟ هل من حق الفضائيات حرية اذاعة طروحات ارهابية دعائية محرضة بحجة مبدأ الحرية للجميع تكون نتيجتها شحن المشاهدين روحاً عدائية تدفعهم الى حماقات ضارة أم يجب على السلطة أن تتدخل لوضع ضوابط للحرية غير المسؤولة؟ ان الفارق كبير بين اتاحة النقاش لأناس يختلفون في أفكار سياسية بطريقة سلمية وبين ترك الميكروفون مفتوحاً لجماعات تحمل السلاح وتمارس القتل لنشر أفكارها عبدالرحمن الراشد، الشرق الأوسط 17/10/2001. والسؤال الحيوي هنا: هل من حق هؤلاء باسم الحرية أن يقودونا ويقودوا مجتمعاتهم الى الهاوية؟ لقد كان نتيجة هذا الشحن المضلل ان نسبة 83 في المئة في استفتاء الجزيرة نت اعتبروا بن لادن مجاهداً وليس ارهابياً، وأن ما يقوم به من تحريض ضد المصالح الغربية والأميركية جهاداً الراية 12/11/2001. هكذا يشوه مفهوم الجهاد ويختطف من قبل الارهابيين: والواجب على علماء المسلمين تصحيح هذا المفهوم واستعادته ممن خطفوه. لماذا كل هذا التعاطف وكل هذا الدفاع عن خوارج عصرنا؟ وهل تكفي العاطفة العمياء أو نزعة مناهضة أميركا المتغطرسة - وهي نزعة كما يقول كنعان مكية على يد شخص مثل بن لادن ليست الا الشكل الأحدث والأكثر خبثاً لفكرة احتضنها في الأصل ما يسمى بمثقفين عرب قوميين وتقدميين تحت مجموعة من التصنيفات مثل مناهضة الامبريالية - هل تكفي تفسيراً لجعل الارهابيين أبطالاً؟ لقد كان من سوء حظ الخوارج القدماء عدم وجود فضائيات في عصرهم من انهم أرحم من خوارج عصرنا إذ استباحوا دماء المسلمين دون الذميين حفظاً لذمة بينهم، ولكن خوارجنا استباحوا دماء الجميع. لقد أخطأ معظم المحللين العرب بربطهم تفجيرات 11/9 بسياسة أميركا في الشرق الأوسط، خطأ مزدوجاً: الأول: لأنهم قدموا اعترافاً ضمنياً بمسؤولية أطراف شرق أوسطية، وهذا وان تأكد في ما بعد عبر أضخم عملية تحقيق توصلت الى أدلة اقتنع بها العالم جميعاً دون جماعة من أصحابنا وجماهير هنا وهناك تعيش في عزلة عن العالم. وتعزز ايضاً باعترافات لأفراد من القاعدة وزعيمها على سبيل المثال حيثيات حكم المحكمة الأميركية على الأربعة الذين فجروا السفارتين وتصريحات بن لادن ومساعديه، واعترافات الباخرة كول، واعتراف من قبض عليه في العليا في السعودية. وزادته تأكيداً مقارنة ملامح وسمات الجريمة الحالية بالجرائم السابقة للقاعدة، الا ان المحللين العرب وقعوا في خطأ المسارعة بتقديم أدلة الاتهام قبل أن تشير أصابع الاتهام الأميركية الى أية جهة. الثاني: انهم حين ربطوا التفجيرات بفلسطين، أوحوا بأن المبرر انتقامي، وسرعان ما تلقفه بن لادن ليبرر عمله، وتأكد زيف هذا المبرر من واقع السجل الاجرامي الطويل لتنظيمات الجهاد والقاعدة والذي لم يسجل حادثة ضد اسرائيل. يقول الأمير تركي الفيصل - رئيس الاستخبارات السعودية السابق وهو أعلم الناس بسجل بن لادن - "أين أنت من فلسطين؟ هل قتلت اسرائيلياً واحداً؟، هل تبرعت بدولار واحد لتجهيز مجاهد في فلسطين؟ لا والله ذلك بعيد عنك وعن تفكيرك" الشرق الأوسط 9/10. ولمن أراد التأكد من صحة الأدلة مشاهدة الحوار المطول للأمير مع MBC عبر 6 حلقات نقلت "الحياة" و"الشرق الأوسط" أجزاء منه 4-8/11/2001. ولقد أحسن القادة الفلسطينيون حين رفضوا ادعاءات بن لادن وقالوا انه لم يقدم شيئاً ولم تكن لهم صلة به. انه قميص عثمان يحيا من جديد ليثير الفتنة مجدداً، وقد وصف الرئيس مبارك هذا الربط بأنه تمحك من الارهابيين بالاسلام وفلسطين حين اقترب موعد العقاب... ان مقولة نيويورك.. فلسطين ليست سوية ولا صحيحة ولا صحية دلال البزري - "الحياة" 4/11/10. ويؤكد كذب هذا المبرر والربط ان البرامج المعلنة لتنظيمات الجهاد المختلفة والقاعدة لا تتضمن محاربة اسرائيل، وانما المنظومة الايديولوجية لهذه الجماعات كلها تقوم أولاً وأخيراً على هدف رئيسي محوري هو: تكفير المجتمع والدولة بهدف الوصول للحكم لاقامة دولتهم المزعومة ولما يئسوا بعد سلسلة العمليات الاجرامية في الأرض العربية والتي ذهب ضحيتها المئات أوعز لهم شيطانهم ان الأنظمة العربية صنيعة الغرب، وأميركا حسب زعمهم هي الحامية لهذه الأنظمة، فاتفقت كلمتهم على محاربة أميركا في عقر دارها لتخلو الأرض العربية يعيثون فيها فساداً. ولذلك فإن المحاولات التي يلجأ اليها بعض المحللين العرب لتجاوز هذه الايديولوجية بدعاوى ومبررات انما هي تضليل متعمد للمشاهدين لا هدف له إلا التنفيس عن عقد الكراهية والعداء لأميركا، ودفع الناس لارتكاب حماقات ضدها، هم أول من يتنصلون من مسؤوليتها ساعة الجد. إذن ما هي المبررات؟ هل هي الفقر أم القهر السياسي أم الجهل؟ في مقالة متميزة - "الحياة" 17/10/2001 - يستعرض الدكتور الرميحي المبررات الثلاثة فيقول اما الفقر فقد يكون صحيحاً جزئياً في حالات استثنائية إلا أن الملاحظ أن بعض الأشخاص المنخرطين في العمل الارهابي وكثيراً من قادته جاؤوا من شعوب تعيش في بحبوحة من العيش، أما القهر السياسي فقد يكون صحيحاً في بعض المجتمعات العربية، إلا أن هناك هامشاً من الحرية يضيق أو يتسع في معظم الدول العربية كما ان هناك بلداناً في العالم الاسلامي لا يتمتع أهلها بأي مساحة من الحرية والمشاركة، وعلى رغم ذلك لم تلجأ هذه الشعوب أو بعضها الى ما لجأ اليه منفذو تفجيرات 11/9، اضافة الى ان هذه التنظيمات ومن خلال كتاباتهم واعلاناتهم ليس لديهم أية اشارات تجاه الحرية، ولا تشكل الحرية مطلباً من مطالبهم الحيوية، اما الجهل فإن النظرة المتأنية تثبت بأن الفاعلين يعرفون الكثير والكثير من التقنيات الحديثة المعقدة، درساً وممارسة ناهيك عن القدرة على التنظيم والتخفي. وبعد: إذا لم تصلح المبررات السابقة تفسيراً للظاهرة الارهابية فما هي الأسباب والمبررات؟ في تصوري ان النفس الانسانية وبخاصة المسلمة سوية، تنفر من الارهاب ولكن الأفكار الارهابية تجد بيئتها الخصبة والمواتية عندما تسود المجتمعات ثقافة متعصبة يتجرعها الناس تجرعاً، فتكثر حالات تكفير المخالفين - دينياً - وتخوين المعارضين - سياسياً - وتحريض الجماهير اعلامياً. انه ثقافة الارهاب التي تتلقفها نفوس قلقة قاست ويلات وسيئات تربية وتنشئة غير سوية، وتُغرس غرساً في عقول عانت من تعليم مغلق لا مجال فيه لتعدد في الآراء والاتجاهات. لننظر في مناهج تعليمنا ولنقوّم أساليب تنشئتنا ولنراجع نوعية تثقيفنا ولنراجع أداء اعلامنا، تلك هي البدايات الصحيحة لمكافحة ثقافة الارهاب. * عميد كلية الشريعة والقانون - جامعة قطر.