"فلما وفق الله سبحانه كوكبة من كواكب الإسلام، طليعة من طلائع الإسلام، فتح اللّه عليهم، فدمروا أميركا تدميراً، أرجو أن يرفع اللّه قدرهم، وأن يرزقهم الفردوس الأعلى"... هكذا تكلم أسامة بن لادن في كلمته عبر قناة "الجزيرة". "إن ما حدث في أميركا يعتبر حدثاً طبيعياً وأمراً واقعياً، نتيجة للسياسة الحمقاء التي تمارسها أميركا في معاداة الإسلام والمسلمين. وان أميركا إذا استمرت في سياستها، فإن أبناء المسلمين لن يتوقفوا عن أي حال بالفعل أو للثأر مما يقع عليهم"... وهكذا تكلم "أبو غيث" مساعد بن لادن والناطق الرسمي باسم "القاعدة". وأما مساعده الآخر أيمن الظواهري فقد اعتبر فعلة الحادي عشر من سبتمبر ايلول "موقعة من مواقع الحرب الأبدية بين الإسلام والكفر". هذه الكلمات تعد اعترافات صريحة واضحة تنسف كل الجهود المبذولة لبعض الخبراء والمحللين العرب عبر الفضائيات العربية، وبخاصة "الجزيرة"، لتبرئة ساحة مسلمين وعرب من أحداث يوم الثلثاء الأسود. فهي، كما يقول المراقبون، بمثابة ابلاغ العالم كله أن المسلمين هم الذين فجروا مركز التجارة العالمي، فوضع اليقين موضع الشك، وضرب فلسطين بشحطة لسان فيصل أبو خضرا، "الشرق الأوسط" 12/10/2001. كما أن هذه الاعتراضات تضعف حجة كثيرين من الخبراء والمحللين العرب الذين اجهدوا أنفسهم دفاعاً عن بن لادن وصحبه بحجة عدم وجود أدلة كافية أو عدم قدرة بن لادن وضعف إمكاناته عن هذا المستوى من التخطيط والتدبير. وان الفاعل أو الفاعلين، أميركيون من الداخل، وأن الهدف تشويه صورة الإسلام والمسلمين وتضليل الرأي العام الأميركي والعالمي لضرب المسلمين... ترى ماذا يقول هؤلاء الخبراء بعد هذه الاعترافات، وما هو موقفهم الآن؟ وهل ما زالوا بحاجة إلى أدلة؟ ومع أن الأدلة والشواهد والقرائن كثيرة، وكلها تشير إلى مسؤولية "القاعدة"، إلا أنه لا بأس من عرضها للتذكير ولمناقشة دوافع ومبررات المدافعين عن بن لادن وتنظيمه. هناك، أولاً، الأدلة التي توصلت إليها الحكومة الأميركية عبر أضخم عملية تحقيق في التاريخ، اطلع عليها معظم دول العالم وحظيت بقبول دولي، ومنهم أعضاء مجلس الأمن. ويكفينا هنا ما صرح به الأمير سعود الفيصل "ان الرياض ترى أن هناك ما يكفي من الأدلة التي تؤكد علاقة بن لادن باعتداءات 11 أيلول، وأن الأدلة دامغة"، وما صرح به أخيراً الشيخ حمد بن جاسم في ختام المؤتمر الوزاري الإسلامي "أن أميركا لم تطلع قطر على أي دليل، لكن هناك أدلة أكيدة تدين بن لادن"، وكذلك وزير خارجية مصر أحمد ماهر حين قال إنه على ثقة بأن الولاياتالمتحدة "ما كانت لتشن ضربات لو أنها لا تملك أدلة دامغة على تورط بن لادن"، وذلك عقب تأكيد الرئيس حسني مبارك "أن الولاياتالمتحدة ما كانت لتقدم على الحرب لو أنها غير متأكدة يقيناً من تورط بن لادن". وأما أكبر حليف ل"طالبان"، فقد قال على لسان الناطق باسم الخارجية الباكستانية "إن الاثباتات التي قدمتها الولاياتالمتحدة تشكل أساساً كافياً لتوجيه التهمة رسمياً". وهناك، ثانياً، اعترافات موثقة لأعضاء في "القاعدة"، منهم جمال بقال الذي أدلى بمعلومات للمحققين الإماراتيين عقب اعتقاله في مطار دبي في تموز يوليو الماضي، مفادها أن بن لادن اعطى مباشرة أمر التخطيط لتفجير مقر السفارة الأميركية في باريس. وأحمد رسام الذي كان في طريقه لتنفيذ عملية تفجير في مطار لوس انجليس عشية الاحتفالات بحلول الألفية الميلادية عام 1999. وجمال أحمد الفاضل الناشط السابق في منظمة "القاعدة" الذي اعترف بعمليات تهريب أسلحة إلى مصر لزعزعة استقرار دول عربية وإسلامية "الحياة" 1/10/2001. وهناك، ثالثاً، التاريخ الاجرامي الطويل لسجل عمليات "القاعدة"، راح ضحيتها المئات من الأبرياء، مسلمين وغير مسلمين في البلاد العربية والإسلامية: الصومال 4 تشرين الأول اكتوبر 1993: قتل 18 من الجنود الأميركيين، تفجير السفارتين في نيروبي ودار السلام 7 آب 1997: الضحايا 224 شخصاً، والمدمرة "كول" في 12 تشرين الأول 2000 وقتل 17 وجرح 40. وهناك، رابعاً، طبيعة الأفكار المتطرفة لبن لادن والبرنامج العقائدي لتنظيم "القاعدة" وتطوره. ولا أدري لماذا قفز عليها وتجاوزها معظم المحللين العرب في تحليلاتهم. فالمعروف أن هذا التنظيم اتخذ منذ التسعينات قرار المواجهة مع أميركا، لكن المواجهة كانت محصورة بالوجود الأميركي داخل المنطقة العربية. وبدأ قادة "القاعدة" بتوسيع مفهوم "الحرب على أميركا" منذ انتقالهم من السودان إلى أفغانستان في 1996، وهو أمر تجلى في 23/2/1998 في إعلان تشكيل "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، وترجم بعد شهور في تفجير السفارتين، عندما تحالف الظواهري، زعيم "الجهاد" المصرية، مع بن لادن، حيث اتفقا على أن أميركا هي "العدو الأول" للمسلمين في أنحاء العالم، وان دعمها "بعض الدول العربية" هو السبب الأساسي في فشل اسقاط أنظمة حاكمة فيها، وتوصلا في نهاية عام 1997 إلى ضرورة إعلان الحرب على الأميركيين أينما وجدوا، وذلك بالإعلان الرسمي في 23 شباط فبراير 1998، حينما أعلن بن لادن بيانه الشهير، متضمناً فتوى تجعل قتل الأميركيين "مدنيين وعسكريين" ونهب أموالهم "فرض عين" على كل مسلم... وعلّل قتل المدنيين بأنهم يدفعون الضرائب. لماذا القفز على الحقائق الأولية البسيطة التي ندركها جميعاً ولماذا المداورة والمناورة والمراوغة واتهام الحكومة الأميركية بأنها تشن "حرباً صليبية" ضد المسلمين؟ إن الأفكار واضحة وصريحة يجب إدانتها واستنكارها من غير "ولكن". خطورة هذه الأفكار على المسلمين وعلى مستقبلهم ومصالحهم أشد وأكبر. "القاعدة" تؤمن بأن الحكومات العربية والإسلامية خارجة عن الإسلام، حسب رأيها، وان الذي يدعم ويسند هذه الحكومات هو أميركا، فهي العدو الأكبر الذي يجب ضربه حتى يخرج من البلاد الإسلامية لتتمكن بعد ذلك من إثارة الاضطرابات والقلاقل في الدول الإسلامية، وهذه باختصار قناعات هذه الجماعة من غير لف ودوران. ولكن لماذا تجاهل السجل الطويل، ولماذا اغفال هذه الأفكار من قبل معظم المحللين؟ وما هي الطروحات والدوافع؟ هل هي العاطفة الدينية أم نقص الأدلة، كما يقولون، أم كراهية أميركا؟ دعنا نستعرض النظريات أو الطروحات التي شخصت الأزمة: كانت أولى النظريات أن الفاعل أو الفعلة أميركان، وكانت "الجزيرة" أسرع فضائية تستدعي خبيراً إعلامياً، عصر اليوم الأول للحدث، ليقرر بكل ثقة أن الفاعل من الداخل أميركي، مذكراً بحادثة أوكلاهوما، ومستبعداً أن يكون شرق أوسطياً، لافتقاده إلى الخبرة والتخطيط والتمويل على أعلى مستوى. وسرعان ما التقط الخيط الكاتب الصحافي صلاح منتصر في عموده اليومي 13/9/2001 في "الأهرام"، فساق 8 أدلة تثبت أن الفاعل أميركي لا غير. ولم يتوقف لا ذلك الخبير ولا هذا الصحافي لحظة ليقولا لنا ما هي المصلحة التي تعود على المواطن الأميركي من هذه العملية؟ ولماذا يلجأ الأميركي إلى الانتحار؟ وما هي المنظمة الأميركية التي خططت ودربت ومولت؟ وفي هذا السياق نشر عبدالرحمن الراشد في "الشرق الأوسط" 26/9/2001 بعنوان: "رواية وهمية لسيدة وهمية"، ملخصها أن سيدة على علاقة غرامية بمسؤول أمني كبير، اعترف لها بأن المأساة مدبرة ومخططة من قبل القسم الخاص في الأمن السري الأميركي، ونفذ بالريموت كنترول، والهدف تجييش عواطف الشعب الأميركي حتى يمكنهم من ارسال أعداد هائلة من القوات لتأسيس قاعدة للإمساك بوسط آسيا حيث ابار النفط الواعدة. ثم ظهرت نظرية أخرى لقيت قبولاً وارتياحاً لدى كثيرين ترى في "الموساد" فاعلاً أو مخططاً، والدليل أنهم أبلغوا بني جلدتهم مسبقاً فتغيبوا عن العمل ذلك اليوم. وقيل ان عدد اليهود المتغيبين كان 6 آلاف ثم خفض إلى 4 آلاف ثم إلى ألفين، وانه لم يوجد قتيل يهودي، فإذا قيل لهم ان اليهود جبناء لا ينتحرون، قالوا إن التخطيط والتمويل من قبل "الموساد". وأما العمليات الانتحارية فنفذها شباب أغرار من المسلمين عن طريق الخداع بأنهم منظمة إسلامية جديدة! هكذا يجنح الخيال ببعضهم ليجمع بين "الموساد" والمسلمين في مصلحة مشتركة! ثم ان هذا المحلل الرصين لم يجهد نفسه في طرح تساؤل بسيط: ترى ما هذا السر الذي يحتفظ به 4 آلاف يهودي يتغيبون عن عملهم من دون أن يثير ذلك انتباه المحققين؟ وألم يخش "الموساد"، ولو بنسبة ضئيلة، من إمكان تسرب هذا السر؟ أم أن الأميركان وإسرائيل حبايب وكل يستر على الآخر؟! والعجيب أن المحلل الذكي الذي اطلع على السر وحده، لا يقول لنا مصادره، ولا يقول لنا ان عنده احصائية باليهود وغير اليهود في قوائم الضحايا، مع أن النظرة السطحية العابرة إلى أسماء الضحايا تدل على أن قسماً كبيراً منهم، إن لم يكن الأكبر، هو من اليهود، ولا يهم كما يقول عزمي بشارة إن الحياة السياسية والقانونية والإعلامية في دولة مثل الولاياتالمتحدة لا تتيح التستر على مثل هذه المعلومات، وانه لا يمكن لأربعة آلاف إنسان اخفاء معلومة، وان إسرائيل لن تجد من ينفذ لأجلها عملية استشهادية عزمي بشارة، "الحياة" 1 تشرين الأول. أما النظرية الثالثة فرائدها "إمام الرأي"، محمد حسنين هيكل - كما يقول وضاح شرارة - "الحياة" 10/10/2001: "حيث حمل إمام الرأي الفعل على بقايا الجيش الصربي تأثراً شخصياً من الحرب الأطلسية على ميلوشيفيتش"... وهي نظرية لا تستحق حتى المناقشة، لأنها لا سند لها. * عميد كلية الشريعة والقانون في جامعة قطر.