كان من المفاجئ حقاً أن تمنح "جائزة القارات الخمس" لرواية الممثلة اللبنانية المولودة في مصر ياسمين خلاط وعنوانها: "اليأس خطيئة" دارسوي، باريس. ولعل ما زاد من المفاجأة أن بين الروايات الثلاث عشرة المرشحة للمسابقة الفرنكوفونية رواية "الحزام" للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان ورواية "الطفل المجنون للشجرة الجوفاء" للكاتب الجزائري بوعلام صنصال. علاوة على روايات أخرى مهمة لكتّاب من كندا وسويسرا وافريقيا وسواها... هل تستحق رواية الممثلة السينمائية ياسمين خلاط الأولى هذه الجائزة؟ حين صدرت رواية ياسمين خلاط "اليأس خطيئة" في مطلع العام 2001 لم تلق الرواج الذي تلقاه الروايات الجديدة عادة في باريس. ما يؤكد هذا القول ليس تجاهل الرواية شبه الكلي في الصحافة الفرنسية الأدبية فقط، بل طرحها بُعيد صدورها ضمن الكتب "المصفّاة" أو "المخفّضة السعر". ومَن قصد قبل أشهر المكتبة الباريسية الشهيرة "جوزف جيبير" كان في إمكانه أن يشتري تلك الرواية بسعر زهيد جداً على رغم صدورها الحديث. قد لا يكون عدم رواج الرواية دليلاً على عدم أهميتها، فالقراء يذكرون الروايات التي ظلمت لدى صدورها ثم لقيت النجاح المفترض في ما بعد. إلا أن العودة الى رواية ياسمين خلاط وخصوصاً بعد فوزها المفاجئ بهذه الجائزة الفرنكوفونية "القارية" قد لا تصب كثيراً في مصلحتها. فالرواية هي مشروع رواية لم يتسنّ له أن يكتمل. والصفحات التسعون التي تؤلف حكاية هذه الخادمة الصغيرة التي تدعى ندى قد تكون أشبه بالبناء الأولي لرواية كان يجب أن تُكتب لاحقاً. صحيح أن ياسمين خلاط تجيد كتابة "الانشاء" الفرنسي وتحسن فعل الوصف وتملك لغة جميلة وصافية أحياناً لكن هذه الأمور لم تعن أنها استطاعت أن تبني رواية في ما تفترض الرواية من نسيج سردي ولعبة زمنية وهندسة تركيبية. وإن كانت الرواية تدور في معظمها حول الخادمة الصغيرة ندى فهي بدت كأنها مهيأة لأن تدور حول عائلة نصّور التي "اشترت" الخادمة من أمها. الجو الروائي بدا كأنه مدخل الى قصص هذه العائلة الطريفة عبر عين الخادمة. لكن العائلة سرعان ما تبددت من غير مبرر وظلت الخادمة مجرد شخصية درامية تميل في بعض الأحيان الى الميلودرامية الساذجة. كأن القصة من تلك القصص الميلودرامية التي تألفها الأفلام الشعبية. فالاطار الزمني والمكاني صالح تماماً بل مهيأ تماماً لمثل هذه المواقف المثيرة: خادمة وعائلة موسرة ورب عائلة يحدّث خادمته بالحكم وابن يتحرّش بالخادمة ويغتصبها... إنها من القصص الريفية التي راجت فترة وخصوصاً عبر السينما الميلودرامية. علماً أن شخصية الخادمة تحمل بعض الملامح الطريفة التي كان ممكناً توظيفها ضمن لعبة السرد. فالخادمة هذه كانت في السابعة من عمرها عندما باعتها أمها في المدينة الى عائلة نصّور. ومنذ تلك اللحظة تغيب أمها عنها نهائياً ولا يبقى منها سوى ذلك "الشال" المثقوب الذي ظلّت تحتفظ به وتلك "الحكمة" التي سمعتها من الرجل الذي رافقها ووالدتها من القرية الى المدينة ومفادها أن الانسان يستطيع ان يختار - اذا كان قادراً - بين أن يكون صياداً أو طريدة. لكن الخادمة التي تفتتح الكاتبة الرواية عبر "ضميرها" المتكلم أى عبر لسانها تعلن للفور أن لا والد لها بل تقول ان والدها "لم يكن له وجه". ثم لا تلبث الكاتبة ان تنتقل من الضمير المتكلم "أنا" الخادمة الى صوت السارد لتكمل تلك القصة الدرامية أو الميلودرامية. وإن بدا غياب الأحداث عن الرواية خياراً افترضته الكاتبة فإن الشخصيات تكاد تغيب بدورها أو تحضر حضوراً هشاً. فالحدث الرئيس إن كان حدثاً يتمثل في اغتصاب الإبن البكر إشهان للخادمة وفضّه بكارتها. أما الحدث الثاني الواهي فهو غياب هذا الابن لاحقاً مما أربك حياة الوالد والحارة والأصدقاء... لكن القارئ لن يلبث ان يعلن أنه هاجر الى "اميركا" وأصبح تاجراً كبيراً، هو الشخص الفظّ والخشن و"الوحش" كما في السينما المصرية والذي طالما هدد الخادمة الضعيفة والحدباء بالقتل وعاملها بحيوانية شديدة. لا أحداث إذاً في هذه الرواية ولا شخصيات ولا علاقات تقيمها الشخصيات بعضها مع بعض. لكن الكاتبة لم تسع الى كتابة قائمة على "المناخ" السرديّ أو على مجموعة من "الأجواء" السردية. وحاولت أكثر من مرة أن تعتمد الفانتازيا الروائية أو "الاكزوتيكية" عبر التركيز على بعض خصائص هذه المدينة لا تسميها أبداً وهذه الأسرة الغريبة والبيت العريق المؤلف من اثنتي عشرة غرفة تلتف حول باحة داخلية أو على بعض ملامح الشخصيات، لكنها لم توفّق كثيراً. فشخصية الخادمة الحدباء ظلت هي الأطرف على رغم ضعف بنائها. وكان يجدر عدم تكرار مفاجأتها الدائمة بدم الحيض الذي ظلّت تظن انه ناجم عن "جرح داخلي" علماً أنها اكتشفته قبل أن تعلن الكاتبة الساردة بلوغ الخادمة الثانية عشرة من عمرها. خادمة يصفها الابن الأكبر بالبشعة والمقرفة ويعيّرها أطفال الحي ب"الحدباء" والنسوة سوف يتسلّين لاحقاً بخبر اغتصابها. فتاة "جميلة الوجه" كما تقول إحدى النسوة ولكنها محدودبة. وهذه الحدبة لن تمنع تيمور من أن يقع في حبها. وعلاقتها بهذا الشاب، صديق العائلة، غريبة جداً وربما غير مقنعة. فهذا الموسيقي الذي يعزف على البيانو سيحبّ "ندى الخادمة" وستنتهي الرواية عبر انتظاره إياها بعدما توارت عقب ممارستهما الحب وكانت حينذاك اصبحت في الاربعين. وهي لم تكبر أو لم تبلغ الأربعين الا عندما مات رب العائلة نصري نصّور وكانت هي وحدها رفيقته بعدما تزوجت ابنته نور وبعدما غابت ابنته الثانية ناريمان ذهبت الى بيت خالتها واختفت من البيت والرواية بلا مبرّر وتزوج ابنه عمر وهاجر ابنه الأكبر أشهان... أما الابن الصغير جحا فغادر الى المدينة أي مدينة؟ ليدرس الموسيقى... الخلل فاضح في بناء الرواية ويبرز أكثر ما يبرز في بناء الزمن الروائي. فالقطع شبه مرتجل دوماً وغير مبرر. تنتقل ندى من السابعة الى الثانية عشرة ثم الى الأربعين عبر فواصل سردية مشوشة وغير مضبوطة. تيمور يعود فجأة وكأنه آتٍ لتوّه الى الرواية. يموت نصري نصّور عجوزاً من غير أن يلحظ القارئ أن زمناً ما مرّ أو انقضى... أما العائلة التي كان من الممكن توظيف أفرادها لبناء صورة عن عائلة ثرية أو ملاّكية تؤول الى التفكك والانهيار، فبدت عائلة عادية لا تعاني أزمة ما أو مأزقاً ما وظل "سرها" غامضاً. ذلك السر باحت به مرة عمة نصري نصور العجوز امام الخادمة وتحدث عنه مرة نصري نصور نفسه بصوت خفيض معترفاً ان شقيقه كان قاتلاً... أما المكان فهو شبه غائب أو شبه مجهول: الخادمة ندى أتت بها أمها من الريف الى المدينة حيث تقطن عائلة نصور. المدينة هذه لا تتبدى إلا عبر اصوات المآذن وشاطئ البحر والحارات التي تجلس النسوة وراء شبابيكها... وربما شاءت الكاتبة ألا تسمي المدينة اسماً ولو متوهماً لئلا تقع في أحابيل التسمية مما يفترض المزيد من الوقائع والتفاصيل. وليس تحاشيها تسمية المدينة إلا من قبيل بناء مدينة مجهولة، مدينة معاصرة، ريفية ومتمدنة في الحين عينه. إنها المدينة التي تشبه هذه الخادمة الصغيرة التي لم تكن تملك إلا الاسم الأول ندى تبعاً لغياب الوالد. وقد اضطرت عائلة نصّور الى منحها هوية امرأة ميتة... ولم يكن الأمر يخيفها فالشرطة لن تبالي بخادمة حدباء لا تملك شيئاً في هذا العالم... قد تكون رواية "اليأس/ خطيئة" باختصار رواية هذه الخادمة "البلهاء" في المعنى الايجابي والبريئة والتي ظلت تحلم ببعض ملامح الماضي "السعيد" على رغم "كابوسية" الاغتصاب. وهي التي أصبحت في الأربعين من غير أن تدري، لم تعرف الحب إلا عبر تلك العلاقة التي أقامتها مع الموسيقي تيمور. لكنها لم تكن تفهم ماذا يعني أن يكون تيمور موسيقياً. حين رأت مرة صورته في الصحيفة واقفاً وراء البيانو لم تأبه لها بل واصلت التنظيف بالصحيفة نفسها. أما النهاية غير المرتقبة فهي التي جعلت الرواية بلا نهاية: جلس تيمور في منزل آل نصّور المهجور ينتظر عودة الخادمة التي كان مارس معها الحب للتوّ واختفت. والعودة الى "الجائزة" التي حازتها ياسمين خلاط تكشف فعلاً أن رواية أحمد أبو دهمان "الحزام" تستحقها أكثر وكذلك رواية الجزائري بوعلام صنصال "الطفل المجنون للشجرة الجوفاء". فالروايتان تنتميان حقاً الى الفن الروائي الحقيقي وليستا مجرّد مشروع روائي غير مكتمل. ويكفي أن يتذكر القارئ ان رواية احمد أبو دهمان تخطت لدى دار غاليمار الطبعة التاسعة وأن رواية صنصال عرفت نجاحاً في الأوساط الأدبية والشعبية. ولعل اللجنة التي ترأسها فينوس خوري غاتا ومن بين اعضائها اسماء كبيرة مثل لوكليزيو واندريه ماكين... شاءت ان تشجع موهبة ياسمين خلاط ولو على حساب الروايات الأخرى وربما على حساب الرواية الفرنكوفونية الجديدة! لكن ياسمين خلاط الممثلة القديرة جداً لم تستطع أن تكون كروائية في حجم اطلالتها كممثلة ذات خامة نادرة ونادرة جداً. والجمهور الذي شاهدها في فيلم محمد ملص البديع "أحلام المدينة" لا يمكنه ان ينسى تلك الشخصية التي أدتها ببراعة وشفافية.