بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان في 1979 أطلقت الولاياتالمتحدة، بالاشتراك مع باكستان، عملية سرّية اعتبرت الأطول في تاريخ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي إي. وكان هدف الحملة تعبئة المقاومة الأفغانية للسوفيات وتوسيعها لتصبح جهاداً اسلامياً ضد الشيوعية الكافرة في الجمهوريات المسلمة الخاضعة وقتها للاتحاد السوفياتي. واستطاعت الاستخبارات العسكرية الباكستانية و"سي آي إي"، حسب بعض التقديرات، تمويل وتعبئة نحو مئة ألف مجاهد من 40 بلداً مسلماً للقتال لصالح أميركا، على رغم أن غالبية المتطوعين لم تكن تعلم أن الجهاد كان برعاية الولاياتالمتحدة. في النهاية اضطر السوفيات الى الاعتراف بالهزيمة على يد المجاهدين وانسحبوا من أفغانستان في 1989، بعدما أدت الحرب الى تدمير البلد في شكل شبه كامل. إلا ان الانسحاب لم يعنِ نهاية الحرب. فقد اشتعلت الحرب الأهلية بين الأطراف السبعة من المجاهدين التي تشكلت اثناء الحرب ضد الغزو الأجنبي. ووضعت هذه الأطراف مصالحها الطائفية والفئوية فوق المصلحة العامة، كما خدمت طموحات دول اخرى لها مصالحها السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة. وتعتبر مشكلة الهيروين في باكستان من أخطر مخلفات الحرب ضد السوفيات. وذكرت صحيفة "غارديان" 29/9/2001 أن الاستخبارات الباكستانية أقامت في أنحاء أفغانستان المئات من مختبرات استخراج الهيروين. وبعد سنتين من بدء نشاطات "سي آي إي" أصبحت مناطق الحدود الباكستانية - الأفغانية المنتج الأكبر للهيروين في العالم، والمصدر المنفرد الأكبر للهيروين الذي يباع في شوارع أميركا. وبلغت أرباح هذه التجارة ما بين 100 مليون و200 مليون دولار سنويا، كانت تستعمل لتمويل المقاتلين وتدريبهم وتسليحهم. وجاء في شهادة قدمتها شركة "اونوكال" للغاز من خلال جون ج. ماريسكا الى لجنة الشؤون الدولية في مجلس النواب الأميركي في 1998 أن مصالح الولاياتالمتحدة في مصادر النفط والغاز في آسيا الوسطى وبحر قزوين جوهرية بالنسبة الى اقتصادها. وكشفت الجلسة التي عقدتها اللجنة أن "سقوط الحواجز السياسية في وسط آسيا وقزوين يجذب الى المنطقة الكثيرين من انحاء العالم الذين يسعون الى تطوير وايصال مصادرها الثرية للطاقة الى أسواق العالم"، وانه "من مصلحة الجميع توفير ما يكفي من الطاقة للاحتياجات المتزايدة في آسيا. لأن عدم تلبية الاحتياجات سيوجه ضغوطا الى كل أسواق العالم تؤدي الى رفع الأسعار". "بريداس" و"اونوكال" شركتان لهما مصالح تجارية واسعة، ويهمهما توفر السلام في جنوبأفغانستان. وتمكنت حركة "طالبان" من ضمان أمن تلك المناطق، وانفتح بذلك الطريق بين باكستان وآسيا الوسطى. ودعمت اسلام اباد في المراحل الأولى حركة "طالبان". وبرزت باكستان عندما كانت تحت الحكم الديموقراطي واحدة من أسواق الاستثمار العشر الرئيسية في العالم النامي، وكانت امكانات آسيا الوسطى بالنسبة لها بمثابة فرصة ذهبية تنتظر الاستغلال. بعد تسلم الحكم في 1995 بدأت "طالبان" في التفاوض مع القوى السياسية الأخرى في أفغانستان، ووقعت في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر 1996 اتفاقا مع "تحالف الشمال" لتشكيل هيئة مهمتها اقامة حكومة ذات قاعدة عريضة لافغانستان. لكن رئيس باكستان حل في اليوم التالي الحكومة المنتخبة ديموقراطياً في باكستان، متسبباً أزمة داخلية كبيرة تحولت الآن الى أزمة دولية. قدم حل الحكومة المنتخبة ديموقراطياً دفعة كبيرة الى القوى الأصولية التي كانت قد ساندت المجاهدين ضد الغزو السوفياتي. وتمكنت هذه القوى من السيطرة على حركة "طالبان" التي قررت التفرد بحكم أفغانستان والاندماج في التحرك الاسلامي الأصولي الشامل، ففتحت الباب أمام الأجانب والمقاتلين من الشيشان وباكستان وغيرهما، وفرضت على سكان أفغانستان مفهومها الخاص للاسلام. وأدى هوسها بالسيطرة على سلوك الأفراد، حسب أحد الكتّاب، الى اختزال "النظام الاسلامي الى مجرد قانون للعقوبات، وتجريده من تطلعاته الانسانية والجمالية والثقافية وعبادته الروحية". ونظر العالم باستبشاع متزايد الى ممارسات "طالبان"، كما تمثلت في قتل الرئيس السابق نجيب، واستضافة "القاعدة"، وقتل الديبلوماسيين الايرانيين، واعدام الرجال والنساء في الملاعب الرياضية، وتدمير التماثيل في باميان. واستمرت معاناة الشعب الأفغاني تحت قبضة "طالبان" الخانقة. ومنع القتال عودة اللاجئين والنازحين الى مواطنهم. وبقيت مخيمات اللجوء تغص باليائسين الذين كانوا يتمتعون بحياة انسانية يوماً ما فيما يعيشون الآن حياة الحيوانات. انه وضع يمثل نكسة للعالم الاسلامي بأجمعه، خصوصاً مع تدفق الأموال على المتشددين فيما يستمر عذاب الفقراء في مخيمات اللجوء. وكانت باكستان نفسها من بين أشد المتضررين من الوضع الأفغاني. فعندما غزا السوفيات أفغانستان في 1979 أدى ذلك الى تقوية الديكتاتورية العسكرية في باكستان. وحرم الباكستانيون لأكثر من عقد من حكومة شرعية منتخبة. وتزايد عدد مدمني الهيروين ما بين 1979 و1985 من الصفر تقريباً الى مليون ونصف مليون شخص. وكان هناك قبل 11 أيلول سبتمبر ثلاثة ملايين لاجئ، فيما تحولت المدارس الدينية الى مصانع لانتاج الارهابيين وبث العنف الطائفي والتعصب في البلاد والحرب في الخارج. وبعد خمس سنوات على اقالة الحكومة الديموقراطية في 1996 خسرت باكستان دستورها ومؤسساتها الديموقراطية وحيويتها الاقتصادية. وتزايد فيها تأثير الميليشيات الخاصة التي تقوم بالاستعراضات المسلحة وعقد المؤتمرات الصحافية وتهديد المجتمع المدني. ان باكستان الآن بحاجة ملحة الى اجراءات تنقذها من القوى السياسية - الدينية في الداخل وأيضاً في أفغانستان وغيرها. ولا شك في ان الاجراء الأول المطلوب هو العودة الى الديموقراطية، التي تمثل السبيل الأفضل بين خياري الديكتاتورية المدعومة من المتشددين الاسلاميين من جهة والديكتاتورية العسكرية المدعومة من الغرب من الجهة الثانية. لنضع نصب أعيننا أيضا الأسباب العميقة للتوتر. انه وقت الدعوة الى المصالحة عن طريق تشجيع الاعتدال والتسويات والتزام موقف متوازن لحل الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي والصراع في كشمير وغيرهما من الصراعات في انحاء العالم. علينا ان نتذكر أيضا ان اقامة دولة معتدلة حديثة في أفغانستان كانت يمكن أن تؤدي الى تهميش "طالبان" وأمثال أسامة بن لادن قبل ان يتمكنوا من نشر ارهابهم في أفغانستان ونيويورك. أخيراً، نأمل ان تلتزم عملية "الحرية الدائمة" حدودها الأصلية، ذلك أن حملة كان يفترض لها ان تبقى "متزنة ومحددة الهدف ومتناسبة ومحدودة" طالت مع الأسف هيئات اغاثية مثل الصليب الأحمر والأمم المتحدة والهلال الأحمر. * رئيسة وزراء سابقة لباكستان.