ما زال شاهداً خطأ الولاياتالمتحدة في إطلاق مارد التطرف الإسلامي من قمقمه خلال الحرب الباردة. ففي صراعها الأيديولوجي ضد الاتحاد السوفياتي السابق، سعت واشنطن إلى توظيف «الجهاد» الإسلامي في محاربة إمبراطورية «الإلحاد» الشيوعي هذا المسعى ظل في حيز الأفكار والتصورات منذ الخمسينات الماضية، على الأقل بسبب فشل مشاريع الأحلاف التي حاولت واشنطن إقامتها خلال تلك الفترة بسبب المد القومي الناصري. بيد أن هذا المسعى تحول إلى سياسات واستراتيجيات، بعد وصول إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر إلى البيت الأبيض في أوائل 1977. فقد رأى زبغنيو بريجينسكي مستشار كارتر للأمن القومي أن الوقت حان لاستخدام الدين في محاربة الاتحاد السوفياتي. وهكذا شهد العالم تولي الجنرال ضياء الحق، المتحالف مع الجماعة الإسلامية، للسلطة في باكستان عام 1977، عبر انقلاب عسكري ضد رئيس الوزراء الليبرالي العلماني ذو الفقار علي بوتو. بعدها زادت، ولا نقول بدأت، عمليات التحرش بالاتحاد السوفياتي وإثارة القلاقل في جمهورياته الإسلامية في آسيا الوسطي عبر أفغانستان. كما شهد العالم اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. ومع صعوبة القول إن الثورة الإيرانية كانت تدبيراً أميركياً، إلا أن التردد او التخبط الأميركي في التعاطي مع الثورة في بدايتها يعود في جزء كبير منه إلى سيطرة وجهة النظر التي رأت في إمكان الاستفادة من هذه الثورة في إزعاج الاتحاد السوفياتي. وعلى رغم أن رياح الثورة الإيرانية لم تسر وفق ما تشتهي السفينة الأميركية، وسعت بدلاً من ذلك إلى تصدير مبادئها في اتجاه دول الخليج العربية الحليفة لواشنطن، لكن الثورة الخمينية ساهمت في استدراج الاتحاد السوفياتي السابق إلى غزو أفغانستان أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1979، إذ كان من الصعب عليه السكوت على هذه التحولات الخطرة بالقرب من «المنطقة الرخوة» لحدوده في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية. وعلى مدى نحو عشر سنوات تحولت أفغانستان إلى فيتنام سوفياتية بامتياز، ولعبت دوراً مهماً في انتهاء الحرب الباردة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، بل في سقوط الاتحاد السوفياتي نفسه في كانون الأول عام 1991. ولم يقتصر توظيف الدين في محاربة الشيوعية على الإسلام فقط، ففي العام 1978 اعتلى البابا الراحل يوحنا بولس الثاني (البولندي الأصل) عرش القديس بطرس في الفاتيكان، في ظروف غامضة أحاطت بوفاة سلفه يوحنا الثالث والعشرين، وبدأت المصالحة التاريخية بين واشنطن والفاتيكان، التي تعمدت بالتحالف بينهما في عهد إدارة الرئيس ريغان في الثمانينات، ذلك التحالف الذي لعب دوراً قوياً في تصدع الكتلة الشيوعية عبر الثغرة البولندية. وفي حين كانت واشنطن كريمة في دعمها وعطائها على الساحة الأوروبية عبر توسيع الناتو ليشمل الدول الخارجة من عباءة الإمبراطورية السوفياتية، كانت بخيلة وناكرة للجميل تجاه حلفائها على الساحة الآسيوية الإسلامية، إذ هجرت واشنطن الساحة الأفغانية بسرعة فائقة تاركة حلفاءها في العراء، رافضة توفير المساعدات الاقتصادية لإعادة التعمير. ومن هنا بدأ الانقلاب بين حلفاء الأمس، أي بين المجاهدين والأميركيين، خصوصاً أن الشعب الأفغاني راح يتطلع إلى عهد من السلام والرخاء يعوضه سنوات الحرمان خلال سنوات «الجهاد» ضد «الإلحاد». وعقب نجاح «المجاهدين» في إسقاط حكومة الرئيس نجيب الله الشيوعية عام 1992، أصبحت أفغانستان أرضاً موحشة وفي فوضى دموية بين رفقاء الجهاد ضد السوفيات. وهنا برزت الحاجة شديدة إلى من يخلص أفغانستان من كل هذه الشرور، وجاء الخلاص على أيدي جماعة «طالبان» الوثيقة الصلة بباكستان واستخباراتها، عندما نجحوا في الاستيلاء على كابول في خريف 1996. ولم تمانع واشنطن في البداية طالما أنهم يراعون مصالحها، خصوصاً ما يتعلق بأنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى، وهم في الوقت نفسه يضغطون على أعدائها وخصومها ومنافسيها من الروس والإيرانيين والصينيين. لكن إمارة أفغانستان في عهدة طالبان أصبحت بمثابة «ثقب أسود» يجذب جماعات إسلامية أصولية كثيرة، كان على رأسها تنظيم القاعدة، باعتبار أنها (أفغانستان) أكثر أماناً بعزلة المكان وصعوبة تضاريسه، ما يتيح الفرصة لإعداد وتنفيذ مشاريع وخطط جهادية في مراكز التدريب التي أقامتها حكومة طالبان، والتي قدرت الاستخبارات الروسية عددها عشية أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بنحو 1000 مركز تدريب. ونجح تنظيم القاعدة في تدبير سلسلة هجمات نوعية ضد المصالح الأميركية، خصوصاً في نيروبي ودار السلام في صيف 1998 وعدن في عام 2000 وأخيراً هجمات 11 أيلول 2001 في قلب الأراضي الأميركية. والمشكلة أن هذه التطورات الكارثية لم تقتصر على أفغانستان فقط، بل طاولت باكستان أيضاً، فبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، تطورت شبكة معقدة بين المجاهدين الأفغان والمجموعات الدينية المحلية والدولة الباكستانية، وأدي نمو عدد المقاتلين الأفغان إلى انتقال العنف في شكل سريع من أفغانستان إلى باكستان نفسها. ساعد على ذلك أن الدولتين هما نموذج مثالي لما يسمى «إسلام التخوم»، الذي يتميز بصورة مغالية في تطرفها وتشددها للإسلام، حيث يختلط الدين بالهوية الوطنية والقومية، سواء لدواعي النشأة التاريخية ومزايدات النخب السياسية، أو لحماسة السياسة الأميركية لهذا النوع من الإسلام خلال الحرب الباردة. ومنذ أن شنت واشنطن حربها على الإرهاب وأسقطت نظام طالبان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، أصبحت باكستان في عين العاصفة، فهي وقعت بين مطرقة الضغوط الأميركية للمشاركة في تلك الحرب، وسندان التعاطف والتأييد الشعبي الباكستاني لطالبان، في ظل التداخل العرقي والقبلي بين الدولتين. وحالياً تحولت باكستان إلى دولة فاشلة من الطراز الأول، وصارت منطقة حدودها مع أفغانستان أخطر منطقة في العالم وتشكل تهديداً وجودياً للمصالح الأميركية كما وصفها الرئيس باراك أوباما، خصوصاً بعد أن صعدت طالبان هجماتها ضد القوات الغربية في أفغانستان خلال العامين الماضيين. لقد اعتبر زبغنيو بريجينسكي في حوار نشرته «لانوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، عقب أحداث 11 أيلول، أن توريط الاتحاد السوفياتي في غزو أفغانستان وإطلاق «الجهاد» الإسلامي لمحاربة «الإلحاد» الشيوعي، هو أنجح عملية استخبارية أميركية في القرن العشرين. فماذا عساه أن يقول الآن في ظل المأزق الأميركي في أفغانستانوباكستان، أو في ما بات يعرف ب «أفباك»، أم أنه سيتذكر مقولة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي الشهير عام 1960: «إن السياسات الجيدة لا تضمن نجاحاً مؤكداً، لكن السياسات السيئة تضمن فشلاً محققاً». فمارد التطرف الإسلامي الذي أطلقه الأميركيون من قمقمه، يسد فضاء أفغانستانوباكستان هولاً وشراً مستطيراً، ويبدو أن سر طلسمه ما زال ضائعاً.